إسرائيل ، من إدارة الصراع إلى محاولات إنهائه (1 من 2) بقلم : نهاد ابو غوش
نظريا، رسم اتفاق أوسلو بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي إطارا سياسيا وقانونيا لحل الصراع، من خلال المفاوضات الثنائية والرعاية الأميركية مع رقابة دولية شكلية. لم يحدد الاتفاق أي جداول زمنية ملزمة، ولا وضع أهدافا نهائية لوصول المتفاوضين إليها كهدف إنهاء الاحتلال الذي غاب عن اهتمام المفاوض الفلسطيني، كما خلا الاتفاق من تثبيت مرجعيات ملزمة لعملية التفاوض. مطالب كهذه طرحها المفاوض الفلسطيني في وقت لاحق، ولكن بعد فوات الأوان، وبعدما كشفت تطبيقات الاتفاق، أنه مزروع بألغام قابلة للانفجار في أية لحظة، وأن الاتفاق هو مصيدة للإيقاع بالقيادة الفلسطينية، وإيهام العالم بوجود عملية سلام، وظل الطرف الأقوى هو الأقدر على تفسير الالتباسات وتكييف النصوص لمصلحته، وبدت الرهانات على رغبة إسرائيل في سلام يستجيب لتطلعات الشعب الفلسطيني محض أوهام ، شأنها شأن الرهان على نزاهة الراعي الأميركي.
اختارت إسرائيل إذن من الاتفاق ما يلائم مصالحها، وأهملت ما يخالفها، ووجدت من الذرائع ما يبرر تعطيل التقدم في مسيرة التسوية، فمرة تدعي أن الطرف الفلسطيني لا يحارب الإرهاب، ومرات كثيرة تدعي غياب الشريك المؤهل. وفوق كل ما سبق فإن كل حكومة جديدة تأتي بها الانتخابات تصر على إعادة التفاوض حول مسائلَ جرى الاتفاق بشأنها سابقا. ومع الجنوح الإسرائيلي المتزايد نحو اليمين، يبتدع الإسرائيليون مطالب جديدة لم يسبق طرحها مثل مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة، أو يصطنعون رؤىً ونظرياتٍ جديدة مثل صيغة “دولة منزوعة السلاح”، وصولا إلى الدعوة إلى إنجاز “سلام اقتصادي”، و”تقليص الصراع”.
لم تشغل إسرائيل نفسها كثيرا بالصيغ النظرية التي كان يجري تداولها في المؤتمرات العلمية، بل ركزت جهودها على أرض الواقع والميدان، وفي هذا المجال شكلت سياسات وإجراءات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة امتدادا لبعضها البعض وتحديدا في مجال توسيع الاستيطان وتهويد القدس وفصلها التام عن محيطها الفلسطيني، ومواصلة الضغط على السلطة الفلسطينية وإضعافها لاختزال دورها في مهام رئيسية تفيد إسرائيل وهي: الوظيفة الأمنية وتشمل التنسيق الأمني ومنع التحريض ومنع عمليات المقاومة، وإعفاء إسرائيل من مسؤولياتها تجاه الحاجات المعيشية لملايين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وإيهام العالم بأن ثمة عملية سلام جارية، صحيح أنها تتعثر وتتعطل أحيانا، لكنها يمكن أن تستأنف إذا أوفى الطرف الفلسطينية بمسؤولياته!
إلى جانب السياسات العملية تجاه الفلسطينيين والسلطة والتي تهدف إلى إضعافها والتحكم بها وبمواردها المالية إلى درجة تبقيها عاجزة عن اعتماد سياسات وطنية جدية في مواجهة الاحتلالي، لا سيما وأن السلطة تعرّف نفسها بانها نواة لمشروع وطني يهدف إلى بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، أدركت إسرائيل في وقت مبكر أن الانقسام الفلسطيني هو مكسب صافٍ، ويمثل مصلحة استراتيجية لإسرائيل ويساعدها على الطعن في الصفة التمثيلية لأية قيادة فلسطينية وأهليتها لدخول مفاوضات جدية، والانقسام يساعد إسرائيل على التعامل مع كل “تجمع” فلسطيني على حدة بصفته تجمعا ل”سكان” لا ل”شعب” فلسطيني موحد ذي حقوق وطنية، وبالتالي فإن حاجات هؤلاء “السكان” سواء كانوا في الضفة أو في قطاع غزة تتلخص في مطالبهم الحياتية اليومية من كهرباء وماء ووقود ومعابر وتسهيلات وحواجز، بمعزل عن قضايا القدس والاستيطان واللاجئين والمصير النهائي للأراضي الفلسطينية المحتلة.
صفقة القرن
على الرغم من التباينات والتجاذبات بين مختلف القوى والتيارات السياسية الإسرائيلية والتي تدور عموما حول المواقف من قضايا داخلية مثل طبيعة النظام السياسي، والعلاقة بين السلطات الثلاث وعلاقة الدين بالدولة، فإن الغالبية الساحقة من هذه القوى باتت تجمع على مواقف موحدة تجاه القضية الفلسطينية والاحتلال، ويمكن تلخيص قضايا الإجماع بين القوى الصهيونية فيما يلي:
- تحميل الفلسطينيين مسؤولية تعثر المفاوضات وفشلها إما بسبب غياب الشريك المؤهل أو عدم جديته في محاربة “الإرهاب”.
- التنصل من فكرة حل الدولتين إما برفضها صراحة أو الموافقة عليها نظريا والادعاء بانها غير ممكنة عمليا.
- رفض الانسحاب لحدود الخامس من حزيران 67، وتأييد الاستيطان والدعوة لتوسيعه ضم الكتل الاستيطانية الرئيسية.
- الإجماع على تهويد القدس وكونها العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل.
- الرهان على قدرات إسرائيل وقوتها العسكرية وإجراءاتها الأحادية الجانب بديلا عن اية مفاوضات.
يوما بعد يوم تَعزّز هذا الإجماع وتحول إلى سمة لازمة للسياسة الإسرائيلية برفض التعاطي مع السلطة الفلسطينية إلا في القضايا الأمنية والاقتصادية، ومواصلة ابتزازها والضغط عليها، ومع استمرار النزوع نحو اليمين واليمين المتطرف، ووصول الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، بلغ هذا الاتجاه ذروته بالإعلان عن “صفقة القرن” في 2018 والتي شكلت انقلابا تاما على مبادئ عملية التسوية التي انطلقت في مدريد أوسلو، من خلال إنكار الحقوق الوطنية للفلسطينييين، والعمل على مقايضة هذه الحقوق بتحسين مستوى حياتهم الاقتصادية، وفي المقابل تشجيع تسوية إقليمية تقوم على تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية من دون الحاجة إلى حل القضية الفلسيطينية، بل على حساب هذا الحل.