زيارة غزة … أفق المقاومة بقلم : هاني المصري
من ضمن الأسئلة التي حملتها معي، وحاولت الإجابة عنها في زيارتي الأخيرة إلى قطاع غزة، سؤال: ما أفق المقاومة، وتحديدًا المسلحة، بعد نشوب معركة وحدة الساحات التي خاضتها حركة الجهاد الإسلامي وحدها من دون مشاركة مباشرة من بقية فصائل المقاومة، وتحديدًا حركة حماس، التي تشكل العمود الفقري لها؟
يرجع السؤال إلى أنها المرة الثانية التي لم تشارك فيها “حماس” في معركة عسكرية تخوضها “الجهاد”. كانت الأولى في العام 2019؛ حيث بادرت الجهاد إلى إطلاق صواريخ على الكيان المحتل ردًا على اغتيال بهاء أبو العطا، أحد قيادييها العسكريين البارزين.
الحديث العلني والرسمي المجامل عن وجود تنسيق وتغطية من الجميع للمعركة، لا يقدم التفسير المقنع، ولا يبرر مبادرة فصيل وحده خوض الحرب أو تركه وحده، على الرغم من وجود الغرفة المشتركة، التي أبلت بلاء حسنًا في معركة سيف القدس. فهذه المسألة مهمة وحساسة، وتقتضي معالجة جذرية حتى لا تؤدي في المستقبل إلى نوع من الاقتتال الداخلي.
خطاب السنوار جواب مهم، ولكنه ناقص
لقد وجدت جوابًا معقولًا لهذا التباين في خطاب يحيى السنوار في ذكرى انطلاقة “حماس” الخامسة والثلاثين وإن ليس كافيًا؛ حيث قال: “لقد اتهمنا خلال المرحلة السابقة بأننا نضع مصلحة أهلنا وشعبنا ورزقهم وظروف حياتهم ضمن منظومة حساباتنا خلال الاستحقاقات لمواجهة العدو، وهي تهمة نعترف بها، ونتشرف بأنها في صميم حساباتنا؛ لأننا نؤمن بأن الحاضنة الشعبية يجب أن تكون قادرة على مواصلة الطريق للتحرير والعودة”.
وأضاف: “لم نبادر إلى تدفيع الاحتلال ثمن جرائمه في الضفة (…)؛ لأننا أدركنا وتقدير استخبارات القسام والأجهزة الأمنية أننا سنكون خلال العام 2023 أمام استحقاقات وطنية كبرى؛ حيث قدرت أنه سيأتي اليمين الفاشي، وسيبدأ بتحطيم كل القواعد، وتجاوز كل الخطوط الحمر، وأن الاستحقاقات لمواجهة ذلك على شعبنا وعلى المقاومة ستكون كبيرة وباهظة، وأن علينا إعطاء الفرصة لاشتعال المقاومة في الضفة؛ لأنها قلب المشروع الوطني للمقاومة، وأن نزيد من مراكمة القوة وأن نسعى إلى حشد طاقات أمتنا، وأن نعطي أهلنا المزيد من الوقت لالتقاط الأنفاس وتضميد الجراح”.
إن جواب السنوار عن عدم مشاركة “حماس” مهم؛ كونه يعكس نضجًا وتقديرًا للموقف، بعيدًا عن المغامرات ورفع سقف التوقعات الذي لاحظناه في السابق، والذي دفع جمهور المقاومة إلى توقع ردات من “حماس” على غرار سيف القدس. أما رئيس أركان العدو ففسر ذلك بأن “حماس” مرتدعة جراء الخسائر التي تكبدتها في معركة سيف القدس.
ولكن، هذا التبرير الذي قدمه أبو ابراهيم غير كافٍ، ويجب أن يضاف إليه أن “حماس” تختلف عن الجهاد بأنها وَقَعَتْ في فخ قيادة السلطة في قطاع غزة، وتصورت أنها من خلالها ستحمي المقاومة، لتجد أن المقاومة أصبحت في خدمة السلطة أكثر مما أصبحت السلطة في خدمة المقاومة، فالجمع بين السلطة والمقاومة المسلحة في ظروف مثل تلك التي يعيشها الشعب الفلسطيني غالية الثمن، بينما الجهاد حركة مقاومة لم تنخرط في السلطة، لا من بوابة الانتخابات ولا من غيرها، وهذا خلق تفاوتًا كبيرًا في وضع وموقف كل من الحركتين في الأولويات والحسابات والحاجات؛ أدى ويمكن أن يؤدي إذا لم يعالج إلى معارك عسكرية منفردة للجهاد، وهو أمر لا تقبل به “حماس”؛ لأنه يهدد سلطتها ومسؤولياتها، ويجرها إلى معارك مع العدو في غير أوانها، فلا بد من وضع إستراتيجية مشتركة تخضع لغرفة العمليات المشتركة إلى حين إقامة قيادة وطنية موحدة للمقاومة بوصفها إحدى أدوات القيادة الوطنية الواحدة التي من المفترض أن تقوم بعد إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية.
كما أن هناك نقطة بالغة الأهمية والحساسية، وهي أن “الجهاد” تخوض معارك عسكرية منفردة ردًا على اغتيال أو اعتقال قادة لها، وهذا على الرغم من الشجاعة والبطولة والتضحية يضع علامات تساؤل عن مدى صحة خوض المعارك بشكل منفرد، وعلى خلفية عناوين فصائلية لا وطنية عامة، وعدم خوضها على خلفية الاعتداءات والاغتيالات والتوغل الاستيطاني والاقتحامات للأقصى … إلخ، التي بلغت في هذا العام في العناوين المختلفة أضعاف الأعوام السابقة.
إن السياسة التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية، خصوصًا في العام الأخير، التي قامت على أساس الاقتصاد مقابل تهدئة، تهدف إلى تعميق الفصل بين الضفة والقطاع، واستمرار الانقسام وتحويله إلى انفصال دائم، وإلى احتواء “حماس” وترويضها لتقبل بتسوية طويلة الأمد، وإذا لم تقبل، وهي لم تقبل حتى الآن ولن تقبل؛ لأن ذلك يعد انتحارًا لها. لذلك، فإن المواجهة العسكرية مسألة وقت لا أكثر.
كما أدت التهدئة في المقابل إلى تخفيف الحصار، والسماح لآلاف العمال الغزيين بالعمل داخل الخط الأخضر، إضافة إلى وعود بمشاريع كبيرة إذا استمر الهدوء، وهذا يجعل الثمن الفلسطيني أكبر في أي معركة عسكرية قادمة؛ لأنه سيترتب عليها، إضافة إلى الخسائر البشرية وغيرها، وقف التسهيلات ومنع العمال، وفرض عقوبات على القطاع وهو ينوء تحت أوضاع صعبة جدًا.
ومن المتوقع استمرار هذا الوضع في المدى المباشر؛ أي تهدئة مقابل تسهيلات، إلا أن ما ستقوم به الحكومة القادمة في إسرائيل لتطبيق برنامج الضم والتهجير والتهويد والفصل العنصري والعدوان العسكري بهدف حسم الصراع في الضفة؛ سيضع المقاومة في قطاع غزة في موقف حرج وحساس، فهي لا تستطيع أن تضبط نفسها وهي ترى الضفة تضيع وذلك لإعطاء المقاومة في الضفة الفرصة لمواصلة الاشتعال والتصعيد، مع أن أي تصعيد للمقاومة المسلحة في الضفة أيضًا قد يدفع قوات الاحتلال إلى استهداف قطاع غزة لتحميله المسؤولية عن تصاعد المقاومة، كما لاحظنا في العديد من التصريحات والتهديدات التي أطلقها القادة السياسيون والعسكريون الذين حملوا حركتي حماس والجهاد مسؤولية دعم المقاومة في الضفة والتغطية عليها. وهذا الاحتمال يجب ألا نستبعده، وعلينا تذكر أن قيام كتائب القسام بخطف واغتيال ثلاثة من المستوطنين في الخليل، كانت الذريعة التي استخدمتها حكومة الاحتلال لشن العدوان الأطول والاصعب على قطاع غزة في العام 2014.
انتصار الضعيف يعني في الغالب بقاءه وعدم هزيمته، وليس تحقيقه انتصارات فعلية
ما سبق يقودنا إلى مسألة يتم تجاهلها في غمرة الحديث عن الانتصارات التي يحققها الجانب الفلسطيني في قطاع غزة خلال المواجهات العسكرية المتكررة، فهناك خلط بين انتصار الضعيف لأنه لم يهزم ولا يزال صامدًا على الرغم من الاختلال الفادح في ميزان القوى، وبين الانتصار الفعلي الذي يعني هزيمة العدو، وتحقيق إنجازات ميدانية وسياسية.
وهناك مسألة أخرى يجب أن تحسب جيدًا، وهي معدل الخسائر، خصوصًا البشرية؛ فمن الصحيح أن الصواريخ تصل إلى المدن الإسرائيلية وتلحق أضرارًا مختلفة في المنازل والبنية التحتية، والشعب الفلسطيني يتحمل أكثر من المستعمر الإسرائيلي، وتشل الصواريخ مطار اللد وغيره من المؤسسات الإسرائيلية، ولكن الثمن الفلسطيني أكبر بكثير، وهذا ما دعا السنوار إلى الحديث عن أخذ مصالح شعبنا في حسابات المقاومة، وحاجتها إلى التقاط الأنفاس وتضميد الجراح.
توازن الردع لا يزال بعيدًا
إن قطاع غزة صامد، وجسّد بطولات في المقاومة وفي مسيرات العودة، لكن الثمن كان باهظًا، وكل ذلك جرى في إطار الصمود والمقاومة والبطولة داخل السجن الذي يمثله القطاع كأكبر وأطول سجن عبر التاريخ، فلم تؤد المعارك العسكرية إلى تغيير المعادلات بشكل جوهري، على الرغم من تمكن المقاومة من التواجد بصورة مختلفة عن السابق، ومن مراكمة القوى وتحسين قدراتها، ولكن ليس إلى حد الوصول إلى توازن الردع أو الرعب، فمثل هذه الكلمات تستخدم جزافًا في سياق الحرب النفسية والتعبئة، ولكنها تنقلب إلى العكس إذا جرى تصديقها والتعامل على أساسها.
معركة سيف القدس ليس تحولًا إستراتيجيًا
وهنا، رفعت المقاومة سقف التوقعات عاليًا بعد معركة سيف القدس بالوعود التي أطلقتها، وهذا خطأ، وأكل من رصيدها، فهي معركة وحدت القضية والأرض والشعب، وجسدت وحدة الساحات، ولكن من المبكر اعتبارها تحولًا في الإستراتيجية السابقة التي كانت تعتمد على الرد على العدوان العسكري، وتستهدف تخفيف الحصار عن القطاع. فالمقاومة والفلسطينيون عموما في مرحلة دفاع إستراتيجي، تستخدم فيه المقاومة بشكل محدود للدفاع على النفس وضد العدوان العسكري، أكثر ما هي قادرة على المبادرة إلى الهجوم، لذلك هناك حدود لما يمكن أن تنجزه في القريب العاجل من فك الحصار وإنهاء الاحتلال وإزالة الاستيطان وفرض صفقة تبادل أسرى مشرفة. لذا، أصيبت قطاعات لا بأس بها بالإحباط وهي ترى مسيرة الإعلام وغيرها من الاعتداءات تنفذ، مع أن ذلك حصل بحشد عسكري إسرائيلي واستعداد كبيرين، ولكنها نفذت.
معدل الخسائر نقطة مهمة
إن المقاومة بكل أشكالها، بما فيها المقاومة المسلحة للاحتلال، حق وواجب، ولكن متى وكيف تستخدم، وما الشكل أو الأشكال المناسبة في كل مرحلة؟ فهذا يجب أن يخضع لحسابات دقيقة جدًا، منها وجود عمق إستراتيجي عربي وإقليمي ودولي داعم أو مناهض للمقاومة، ومنها معدل الخسائر. فمن المهم الإدراك أنه من الخطأ اعتبار المقاومة المسلحة أسلوب المقاومة الوحيد أو الرئيسي في وقت معدل الخسائر منذ العام 2005 وحتى الآن 1/20 لصالح الاحتلال، في حين كان المعدل في المتوسط في مختلف مراحل الصراع 1/4، والأهم من معدل الخسائر التي ستكون دائمًا عند الشعب الأعزل أكبر، ويجب أن يكون مستعدًا لدفعها، هو: هل تحققت إنجازات على الأرض، بما يتناسب مع حجم التضحيات، غيرت الوضع أو تقترب من تغييره؟
المقاومة وسيلة وليست صنمًا نعبده
إن من مسؤولية أي قيادة تقليل الخسائر والتضحيات في صفوف شعبها، والتعامل مع المقاومة ليس بوصفها غاية بحد ذاتها ولا صنمًا نعبده، ولكنها وسيلة لتحقيق الأهداف؛ حيث يتحدد جدواها بمدى قدرتها على تحقيق هذه الأهداف.
وهنا المحاكمة ليست للمقاومة، بما فيها الكفاح المسلح، فهي تفرضها طبيعة وخصائص المشروع الصهيوني الاستعماري، وجذرية الصراع، وشراسة العدوان بكل أشكاله، خصوصًا لجهة مدى العدوانية والقتل والكراهية والعنف الذي يستخدمه العدو، فلا يحدد طرف من طرفي الصراع وحده شكل/أشكال المقاومة، بل يساهم الطرفان، خصوصًا الأقوى في تحديدها، فلكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس في الاتجاه. ولكن، على الطرف الضعيف الذي على حق ألا ينجر إلى حرب عسكرية هو غير مستعد لها، بل عليه هو أن يجمع ويستخدم كل أشكال النضال، ويركز على الشكل والأشكال المناسبة التي تضغط على نقاط ضعف العدو، ولا تثير نقاط القوة لديه.
وفي التاريخ الفلسطيني، لعبت المقاومة المسلحة دورًا حاسمًا في مرحلة النهوض الفلسطيني، مع أنه كان من الخطأ المبالغة الشديدة بأهمية الكفاح المسلح، لدرجة رفع شعار هويتي بندقيتي، وإهمال أشكال النضال والعمل السياسي الشعبي، بما فيها المقاطعة. كما كان من الخطأ اعتبار المفاوضات حياة، أو هي الشكل الوحيد أو الرئيسي، أو اعتبار إستراتيجية التدويل أو استراتيجية الحقوق هي البديل من الأشكال الأخرى، بل لا بد من الجمع ما بين مختلف الأشكال، على أساس أن المقاومة هي التي تقود أشكال العمل الأخرى الديبلوماسية والقانونية، وأن المقاومة تزرع والسياسة تحصد، ومن لا يزرع لا يحصد؛ لأن الهدف الفلسطيني لا يمكن أن يتحقق من دون تغيير الحقائق وموازين القوى على الأرض؛ ليصار بعد ذلك إلى ترجمته إلى حقائق سياسية في المفاوضات وعبر المؤسسات الدولية.
عرين الأسود والكتائب ليست البديل
في هذا السياق، لا بد من التوقف أمام المبالغة بأهمية ظاهرة الكتائب وعرين الأسود على أهميتها، وهذا في أحد أسبابه يرجع إلى أن ثمن المعارك العسكرية مع المقاومة في القطاع عالٍ جدًا، وهذا يعكس روح الشعب الفلسطيني وعزمه على مواصلة المقاومة، ولكنها ليست البديل من القيادة المطلوبة والرؤية المفقودة والإستراتيجيات المناسبة والجبهة العريضة قاطرة النصر، وهي تدعم المقاومة العسكرية، ولكنها ليست الشكل الرئيسي في هذه المرحلة، مع أهمية المراكمة باستمرار، والعمل على أن تستخدم المقاومة المسلحة بشكل دفاعي وضد جنود الاحتلال وقطعان المستوطنين المسلحين والامتناع عن استهداف المدنيين.
تحذير من عودة العمليات الاستشهادية
ومن هنا، يجب الحذر من العودة إلى العمليات الاستشهادية ضد المدنيين؛ أولًا، لأن الكفاح الفلسطيني يستند إلى قضية عادلة ومتفوقة أخلاقيًا. وثانيًا، لأن هذه العمليات تدفع الصراع إلى الحسم في الوقت الذي يملك فيه العدو قدرة أكبر على الحسم. وثالثًا، لأن الحكومة القادمة تخطط أصلًا لحسم الصراع، وتنفيذ عمليات ضد المدنيين سيعطيها قوة أكبر وتعاطفًا دوليًّا أوسع يمكّنها من تحقيق أهدافها بسرعة أكبر، وتكاليف أقل.
المقاومة الشعبية والمقاطعة، ضمن إستراتيجية شاملة، الغائب الأكبر
وأخيرًا، لا بد أن تأخذ المقاومة الشعبية والمقاطعة الأهمية التي تستحقها، فهي إستراتيجية شاملة تعدّ الغائب الأكبر، ليس في الضفة الغربية فقط، فهناك مئات الأشكال للمساهمة المتاحة لكل إنسان، بينما المقاومة المسلحة غير متاحة سوى لعدد قليل من الأبطال الشجعان، وكذلك في قطاع غزة، فإحياء مسيرات العودة من دون اقتحام السياج وتقديم شلال يومي من الدماء مسألة يجب أن تفكر بها المقاومة بشكل جدي. أما المقاومة المسلحة، خصوصًا إطلاق الصواريخ فيجب أن يحتفظ بها في الوقت المناسب، وضد تغيير مكانة الأقصى بشكل جذري، أو ضم مناطق (ج) أو تهجير أو ارتكاب مجازر كبيرة.
إن العدو الآن يتصور أنه جاهز لحسم الصراع، وبمقدور الفلسطينيين من دون تهويل ولا تهوين هزيمته إذا أحسنوا التصرف، وتبنوا السياسات والخطط والإجراءات المناسبة.
وتبقى الوحدة الغائب الأكبر، ولكنها تبقى في البال؛ لأنها إذا تحققت، ونأمل أن تتحقق قبل أن يقع الفأس في الرأس، فمن شأن تحقيقها قلب كل الموازين، وكسر كل المعادلات، فهل نتعظ ونكون في مستوى التحديات وقادرين على توظيف الفرصة المتاحة. سؤال برسم الإجابة عنه .