تزايد التحذير من مخاطر تحوّل إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية ، بقلم : ماهر الشريف
في 3 حزيران/ يونيو 2019، دعا عضو الكنيست عن “اتحاد اليمين” آنذاك بتسلئيل سموتريتش إلى أن تُحكم دولة إسرائيل بحسب تعاليم التوراة بصورة كلية، كما كانت “في أيام الملك داود وسليمان”!. وقد أثارت دعوته هذه ضجة سياسية كبيرة لدرجة أن حلفاءه اضطروا إلى القول إنهم لا يريدون فرض القانون الديني (هلاخاه)، لكنهم يأملون في أن يلتزم الإسرائيليون به. وبينما طالبت زعيمة حزب ميرتس تمار زاندبرغ النائب العام الحؤول دون تعيين بتسلئيل سموتريتش وزيرًا للعدل في المستقبل، مقدّرة: “أن هناك خطرًا حقيقيًا من أن تُستخدم وزارة العدل لتعريض الديمقراطية الإسرائيلية للخطر”، أكد أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب “إسرائيل بيتنا القومي”، أن حزبه “سيمنع إسرائيل من أن تصبح دولة تديرها القوانين الدينية”. أما دنيس شاربيت، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المفتوحة في إسرائيل، فقد توقع، في مقابلة أجرتها معه صحيفة “لاكروا” الفرنسية، أن يستمر الصهيونيون الدينيون والمتشددون الأرثوذكس “في قضم تنازلات جديدة إلى أن يتم إنشاء هذه الدولة الدينية التي يأملون فيها”.
شبح الثيوقراطية يخيّم على إسرائيل
اتُخذت المواقف التي سلّطنا الضوء عليها أعلاه في أواخر ربيع سنة 2019 عندما لم تكن الأحزاب الدينية قد بلغت مستوى النفوذ الذي بلغته حاليًا بحصولها في الانتخابات الأخيرة، التي جرت في مطلع الشهر الجاري، على نحو ثلث أصوات المقترعين، وعلى 32 مقعدًا من مقاعد الكنيست، فضلاً عن تأييد ضمني لها من عدد من نواب حزب الليكود نفسه.
أما اليوم، فإن “شبح الثيوقراطية يطارد العلمانيين” في إسرائيل، بحسب الصحافي الفرنسي في مجلة “ماريان” الأسبوعية جوليان لاكوري، الذي أشار إلى أن بنيامين نتنياهو “يستعد لتشكيل الحكومة الأكثر تدينًا وتطرفًا في تاريخ البلاد”، ذلك إن أغلبيته ستعتمد على دعم حزبَي الصهيونية الدينية بقيادة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهما “ثنائي من المستوطنين من دعاة التفوق اليهودي”، وعلى دعم حزبين أرثوذكسيين متشددين آخرين، هما شاس ويهدوت هاتوراه، اللذين “يؤيدان سيطرة أقوى للدين على الدولة”. وتدعو هذه الأحزاب الدينية، كما يتابع، إلى التصويت على قانون من شأنه أن يسمح للكنيست بإلغاء أحكام المحكمة العليا في القضايا الدينية، وذلك بغية “تقوية الطابع اليهودي لإسرائيل” بحسب بن غفير، كما تدعو إلى العودة إلى جعل تقرير من هو اليهودي في يد الحاخامية الكبرى وحدها التي يسيطر عليها الأرثوذكس المتشددون، ووضع تقييدات على “قانون العودة” الذي سمح حتى الآن لأي شخص لديه جد يهودي بالهجرة إلى إسرائيل، وحظر نشاطات المثليين ووقف الإعانات المقدمة لعلاج المتحولين جنسياً، والتمديد غير المحدود لاحتجاز المهاجرين غير الشرعيين قبل ترحيلهم عن البلد، وزيادة التمويل العام لأنظمة المدارس الأرثوذكسية، بما في ذلك المدارس التي لا تُدرس فيها أي مواد غير دينية مثل الرياضيات أو العلوم أو اللغة الإنكليزية أو التاريخ، والحظر الكامل لتحرك وسائل النقل العام وإجراء مباريات كرة القدم خلال يوم السبت، فضلاً عن التصريح الرسمي لليهود بالصلاة في الحرم القدسي. وإذ يخلص الصحافي نفسه إلى أن احتمال إقرار هذه التوجهات سيمثّل “كابوسًا حقيقيًا لنحو نصف الإسرائيليين الذين لم يصوّتوا لأحزاب هذه الأغلبية”، فهو يتوقع أن يدرك بنيامين نتنياهو، وهو “تكتيكي بارز”، أن تطبيق مثل هذا البرنامج “من شأنه أن يجعل بلاده تنحدر إلى فئة الدول المنبوذة في نظر الغربيين”.
إسرائيل ليست دولة علمانية
إن مخاطر تحوّل إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية، وتزايد تدخل رجال الدين في الفضاء السياسي بصورة عامة، وفي الدولة ومؤسساتها بصورة خاصة، هي مخاطر جدية لأن العلمانية في إسرائيل “ليست مبدأً دستوريًا راسخًا”، بل لا يمكن وصف إسرائيل بأنها دولة علمانية.
فالكاتب اليساري ميشيل فارشافسكي يرى أنه لا توجد في اللغة العبرية كلمة تترجم مفهوم العلمانية، بمعنى الفصل بين المجال الديني والمجال الدنيوي، وأن كلمة “hiloni” التي تترجم عادة بـ “laïc” (لائكي) تعني غير ديني ولا علاقة لها بمفهوم العلمانية. وبالعودة إلى تجربتَي حزبَي “شينوي” و”ميرتس”، يقدّر فارشافسكي أنهما حزبان أرادا الحد من تدخل رجال الدين في المجال السياسي وتحقيق المزيد من الليبرالية، بينما يمكن “اعتبار العلمانيين الحقيقيين الوحيدين في إسرائيل هم المهاجرون الروس الجدد”.
أما أستاذ العلوم السياسية دنيس شاربيت، فهو يعتبر أن إسرائيل لا يمكن أن تكون دولة علمانية في ظل إشارة “إعلان الاستقلال” لسنة 1948 إلى الكتاب المقدس وأنبياء إسرائيل، وسيطرة الحاخامات وقضاة المحاكم الحاخامية على الأحوال الشخصية، وتخصيص أجزاء من ميزانية الدولة لتمويل المؤسسات ذات الطابع الديني، وخصوصًا المدارس الدينية، وتدخل الأحزاب الدينية في إقرار القوانين داخل الكنيست، بحيث يمكن الاستخلاص بأنه ليس هناك فصل بين الدين والدولة في إسرائيل، بل تعاون بينهما.
ومما يعزز هذا الاستخلاص أن إسرائيل ليس لها دستور تستند إليه حتى الآن، بل تعتمد بصورة رئيسية على “قوانين أساس”، ذلك إن دافيد بن غوريون قرر أنه لن يكون لإسرائيل دستور حتى يتجمع جميع يهود العالم فيها، وتوصل، من ناحية أخرى، إلى مساومة مع المتدينين تقوم على إقرارهم بأن إسرائيل ليست دولة دينية، في مقابل منح المحاكم الحاخامية الاختصاص الحصري في كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث، وإعفاء شبابهم من الخدمة العسكرية كي يكرسوا أنفسهم بالكامل لدراسة التوراة، وتقسيم المدارس العامة إلى مجموعتين: مدارس غير دينية، من جهة، ومدارس دينية تتمتع باستقلالية مناهجها، من جهة أخرى. وكان بن غوريون قد أشرف، في سنة 1950، على إصدار “قانون العودة” الذي يمنح كل يهودي في العالم حق العودة إلى إسرائيل واكتساب الجنسية الإسرائيلية، على أساس تمييزي بين اليهود وغير اليهود.
إن تقريرًا لـ “مركز بيو للأبحاث” في واشنطن، صدر في أواخر تموز/يوليو 2019، توقّف عند تأثير الدين في الحياة العامة في إسرائيل؛ فأكد أن الحاخامية الكبرى تضع شروطًا وقواعد معينة للحياة الاجتماعية والدينية، إذ هي تحدد، على سبيل المثال، ما إذا كان المطعم يتوافق مع تعاليم الديانة اليهودية “كاشير” أم لا، وما إذا كان بإمكان شخصين الزواج أم لا، في غياب قانون زواج مدني، مما يدفع العديد من الإسرائيليين للذهاب إلى البلدان المجاورة، ولا سيما إلى قبرص، من أجل الحصول على عقد زواج بسهولة أكبر، كما تتحكم الحاخامية الكبرى بمسألة الطلاق، الذي يبقى تقريره احتكارًا للرجل، إذ هو وحده الذي يقرر إنهاء الزواج، ولا يمكن للمرأة التي تنفصل عن زوجها من دون أن تحصل منه على الطلاق أن تتزوج مرة أخرى، وسيتم اعتبار الأطفال الذين ستنجبهم من شريكها الجديد غير شرعيين. ويستشهد التقرير بحوادث عنف حدثت وتمّ الإبلاغ عنها بصورة خاصة خلال يوم السبت، الذي يمتد من غروب الشمس يوم الجمعة إلى غروب الشمس يوم السبت، استهدفت، على سبيل المثال، سائقي سيارات أجرة “قرروا البقاء في الخدمة”، فهوجموا من قبل المتدينين الأرثوذكس أو تعرضوا للبصق على وجوههم والرشق بالحجارة لمخالفتهم التعاليم الدينية التي تمنع استخدام السيارة، أو القيام بأي عمل، في ذلك اليوم. وكان الكنيست قد أقرّ في تموز/يوليو 2018، كما يتابع التقرير، قانون أساس “الدولة القومية للشعب اليهودي”، الذي بموجبه يكون لليهود وحدهم “الحق في تقرير المصير” داخل أراضي الدولة، بينما يعرّض “العرب في إسرائيل للتهميش أو الحرمان”. ويلحظ يائير شليج، المحلل في معهد الديمقراطية ومقره القدس، أن القانون المذكور “لا يذكر في أي مكان أن إسرائيل دولة ديمقراطية”، ولا ترد فيه أي إشارة إلى “المساواة بين المواطنين”، بل ينوّه برموز الدولة اليهودية، أي “النشيد الوطني، والعلم، والشمعدان ذي الفروع السبعة، وكذلك التقويم العبري والأعياد اليهودية”، ويعتبر اللغة العبرية هي وحدها اللغة الرسمية للدولة بينما هبطت مرتبة اللغة العربية، التي “كانت لها هذه المكانة في السابق، إلى مرتبة “لغة خاصة””، وهو يشجع على بناء المستوطنات وتطويرها في الضفة الغربية باعتبارها “قيمة وطنية”.
حضور الدين والصهيونية الدينية المتعاظم في المدارس، والجيش، والإعلام
يزداد حضور الدين في المدارس الإسرائيلية، إذ صرّح الحاخام رافي بيرتس، الذي عيّنه بنيامين نتنياهو وزيرًا للتعليم في حكومته في ربيع سنة 2019، في إحدى المناسبات أنه “في زمن الكتاب المقدس كانت هناك مدارس نبوة بدلاً من الجامعات”، مؤكدًا عزمه على إعطاء الأولوية لتدريس التوراة في المدارس، ثم صرّح في مقابلة إذاعية أجريت معه “أنه من الجيد أن يكون لدى كل طالب حاسوب، لكن من الأفضل أن يكون لديه توراة”. وبحسب بعض التقارير، فإن كل طالب في المرحلة الثانوية في الفرع الديني للتعليم العام يتم دعمه من قبل الدولة بما يصل إلى 40 ألف شيكل (10000 يورو) في السنة، بينما لا يحصل زميله في الفرع العادي للتعليم العام سوى على نحو 31 ألف شيكل (8000 يورو). ووفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ، فإن 14% من ساعات التدريس في إسرائيل مخصصة للدين، أي ثلاثة أضعاف ونصف الساعة من الساعات المخصصة لتدريس الدين في بلدان أوروبا. وفي أواسط شهر آب/أغسطس 2019، أصرت مفتشة التعليم الديني العام في مدينة تل أبيب على سحب كتاب مدرسي من التداول لأنه يعتبر “أن قرار السفر في يوم السبت هو قرار فردي وليس قرارًا يعود اتخاذه للدولة”، معتبرة أن التعليم يجب أن “يتماشى مع التوراة ومع روح نظام المدارس الدينية العامة”. وقد رفض رئيس بلدية تل أبيب آنذاك سحب الكتاب المذكور من التداول وطالب بإخضاع الأمر إلى الهيئات المعنية لتبت فيه، مؤكدًا في مقابلة إذاعية أجريت معه أنه “إذا كان موضوع الديمقراطية والتسامح تجاه الآخرين ممنوعين من التدريس في المدارس الدينية، فيجب أن نفهم أننا نتعامل هنا مع تيار مناهض للديمقراطية”.
ومن ناحية أخرى، تأخذ الصهيونية الدينية مكانة متعاظمة في المجتمع، نجمت، في المقام الأول، عن نتاج عمل تعليمي مكثف. ففضلًا عن حضوره في شبكة المدارس العامة، يتمتع هذا التيار بحضور قوي في جامعة بار إيلان، بالقرب من مدينة تل أبيب، وأنشأ شبكة كاملة من المدارس الدينية، بعضها يجمع بين الدراسات التلمودية والخدمة الدينية، وتنظم حركته الشبابية القوية (Bnei Akiva) أنشطة ترفيهية ومخيمات للأطفال والمراهقين حيث ترّوج لأيديولوجية التيار، الذي ينشط كذلك بصورة كبيرة في الجمعيات ولا سيما تلك التي تدعم السكان المحرومين. كما يزداد حضور هذا التيار في الجيش، إذ بات من الطبيعي رؤية الكثير من قبعات الكيبا المحبوكة فوق رؤوس ضباط وجنود الجيش والشرطة وجميع الأجهزة الأمنية، وبدأ، منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، اندماج الصهيونيين المتدينين في وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي، بحيث صاروا يشكّلون اليوم أكثر من ثلث الضباط ونحو نصف الطلاب في دورات الضباط، كما تزايد حضور الدين في وسائل الإعلام، بعد أن كان مهمشًا فيها لفترة طويلة.
خاتمة
تدّعي الإدارات الأميركية المتعاقبة بصورة خاصة، والدول الغربية بصورة عامة، أن إسرائيل هي “الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”؛ فهل يمكن أن تكون الدولة ديمقراطية من دون أن تكون علمانية، علمًا أن العلمانية هي الوجه الآخر للحداثة؟
سأترك الإجابة عن هذا السؤال للباحثة والصحافية أوفرا يشوا-ليث التي كتبت، في كتابها “لماذا الدولة اليهودية فكرة سيئة” الذي وضع مقدمته المؤرخ المناهض للصهيونية إيلان بابيه، ما يلي: “على مدى الستين عامًا الماضية، لم يدخر الحقوقيون والأكاديميون ومسؤولو الدولة الإسرائيليون، وجميعهم من العلمانيين، الحركات البهلوانية اللفظية لتبرير التسمية المتناقضة في حد ذاتها لدولة “يهودية وديمقراطية”. واليوم، فإن القشرة الديمقراطية الرقيقة المستخدمة لإخفاء الطابع الديني بصورة أساسية لدولتنا آخذة في التصدع. وبينما ينتاب ما يسمى بالعالم المتحضر الفزع بصورة منتظمة من تصاعد نزعات التعصب الديني وجوانبه العدوانية، فإنه قد غض الطرف لسنوات عديدة عن التعصب الديني الذي يميّز دولة إسرائيل، “رأس حربة الحضارة الغربية”، كما يحب أن يقول عشاق إسرائيل”. وتتابع الباحثة نفسها فتكتب: “فقط الفصل الكامل بين الدين والدولة يمكن أن ينهي الهيجان المسياني الحالي الذي يجر “الدولة اليهودية” إلى هاوية أكثر خطورة…وبالمثل، فإن الحل الوحيد طويل المدى للجماعة اليهودية كي تحافظ على وجودها في إسرائيل هو أن ترقى الدولة إلى مستوى هويتها الفعلية المتعددة الجنسيات. إن النظام السياسي الحر الملتزم بالمبادئ الديمقراطية هو الوحيد القادر على ضمان وجود هذا البلد في سلام… فقط دولة علمانية وديمقراطية حقًا يمكنها أن تضم التنوع العرقي والثقافي غير العادي لليهود والفلسطينيين وغيرهم ممن هم ليسوا كذلك، وتسمح لهم بالتالي بالتعايش والتطور”.
ومن ناحية أخرى، هل يمكن الحديث عن دولة “ديمقراطية” في إسرائيل في ظل استمرار احتلالها للأرض الفلسطينية واضطهادها للشعب الفلسطيني؟
في الرد عن هذا السؤال، يكتب حجاي إلعاد، المدير العام لمنظمة بتسيلم الإسرائيلية، ما يلي: “إن الاحتلال، إذ يدمر المجتمع الفلسطيني في إبادة اجتماعية بطيئة، فهو لا يترك المجتمع الإسرائيلي سالمًا… فمن المستحيل الادعاء، في سيناريو واقعي، أن اضطهاد شعب آخر لن يكون له عواقب على مجتمع الشعب المضطهِد [بكسر الهاء] نفسه، وعلى هوية مجتمع الاحتلال. إن هذا مستحيل، ذلك إن السياق المعياري الذي تحتل فيه إسرائيل الفلسطينيين يتعارض بصورة مباشرة مع حقوق الإنسان ومع أي معيار ديمقراطي تدّعي إسرائيل التمسك به. إن تطبيق القواعد نفسها والقوانين نفسها على الجميع هو، في الواقع، أساس أي مجتمع حديث”.