لم تتوقف الحرب على فلسطين في يوم من الأيام منذ أن وطات أقدام الغزاة الصهاينة أر ضها واغتصبتها ودنستها ، فما انفكت حكومات الإحتلال الإسرائيلي الغاشم عن قرع طبول الحرب من جهة ونفخ مزامير السل
ام المعتمرة بقبعة داوود ونجمته السداسية ، وظللنا نحن بنو كنعان يخدع بريق السلام المزيف ، حتى تناثرنا شيعا وأحزابا واختلطت أوراقنا وتبعثرت قوتنا .
ولسنا هنا بوارد سرد مجريات التاريخ وما أحدثته الجغرافيا التاريخية والسياسية على مر ما يقارب من السبعين عاما تحت أنين النكبة والتشرد والإحتلال ، ولا الخوض في ما أعملته ضروب الدروب ، فلقد يطول الحديث ويحمل في طياته الشجون ، فلذلك ما نحن بصدده هنا وفي هذه العجالة وفي حضرة الدم المراق في غزة ، بسبب العدوان الإسرائيلي الهمجي والذي يستهدف شعبنا هناك ويلتهم الأرض وينال من الحجر والشجر والبشر ، عبر آلته البربرية الشرسة والتي ما زالت تبطش به على أرض غزة العزة .
وما فتئ شعبنا صامدا مثابرا تواقا للحرية والخلاص والإستقلال ومن خلفه مقاومته الباسلة ، والتي ما زالت ترابط في الثغور وعلى كافة المحاور وتلقح بدمائها الزكية أعمق الجبهات ، وتقارع بإرادتها الفولاذية هذا العدوان اللعين ، وترد الصاع صاعين يدا بيد وساعدا بساعد وكتفا بكتف في ملحمة وطنية وحلة نضالية رائعة حري بالشعب الفلسطيني والعربي بأن يفاخر بها ، من خلال قذائفهم وصواريخهم في عمق دولة الإحتلال الغاصب ، ساعة تلو الساعة ويوما وراء اليوم .
ومع المتغيرات الأخيرة والتي عصفت بعالمنا العربي وما حملته من رياح التغيير التي أحدثتها ثورات الربيع العربي ، والذي أفضى إلى ظهور التيارات الإسلامية في هذه البلدان ، ومن ثم صارت إلى العمل على تعزيز روابط الإسلام السياسي في المنطقة من خلال التناغم والغزل السياسي فيما بين قيادات وسدنة هذا التيار كل في بلده وبحسب من ترتأيه حاجاته المحلية والإقليمية والدولية ، فحركة حماس والتي تسيطر على قطاع غزة باتت تعتقد بأن مجمل المتغيرات على الساحة العربية والتى أحدثتها الثورات فيها تصب بقوة في صالحها على كافة المستويات المحلية والعربية والإقليمية والدولية ، وبالتالي دأبت في الآونة الأخيرة إلى المضي بسياستها الخاصة بما يحقق أهدافها بعيدا عن العمق الجغرافي والسياسي الفلسطيني بل في إطار الحراك السياسي لحركة الإخوان المسلين في العالم العربي ، وعلى أرضية أن المستقبل لها ولهذه الحركة ، وعليه ذهبت للتماهي مع هذا الحراك الذي يضرب أطنابه العالم العربي ، فنأت بنفسها عن إنجاز وإتمام المصالحة الوطنية الفلسطينية ، وكذلك فعلت تجاه حلفاءها التاريخيين في المنطقة وخصوصا مع النظام السوري والذي كانت تربطهم به علاقة وثيقة جدا والذي بدوره كان قد احتضنها ردحا من الزمن ، في حين تقاربت مع كل من قطر ولم تبتعد كثيرا عن إيران وظلت عينها على مصر الجديدة بقيادة الإخوان المسلمون ورئاستهم لها من خلال الرئيس محمد مرسي ، وبذلك أخذت حركة حماس تعتمد على تكتيكات سياسية جديدة وفقا لمقتضيات هذه المرحلة وما ترتأيه مصلحة الإخوان المسلمين في المنطقة العربية وابتعدت إلى حد ما عن ممارسة المقاومة واكتفت بها تكتيكيا فيما بين التصعيد والهدن من خلال مصر التي برعت في هذا الدور خلال الآونة الأخيرة في عهد الرئيس محمد مرسي .
وأما منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية الفلسطينية فلم يعد أمامها إلا البحث عن الخلاص من خلال خيارات أخرى ، فإزا انقسام شطري الوطن وما أحدثه الإنقسام من تجاذبا وسجالا حادا فيما بين طرفي النزاع والصراع والمتمثل في كل من حركتي فتح وحماس ، وبالنالي أدى إلى انشطار جناحي الوطن الواحد على مختلف المستويات ، فتطايرت الأوراق الفلسطينية مع رياح المتغيرات العربية والإقليمية والدولية ، وتبعثرت طاقات الشعب الفلسطيني بكافة أطيافه واختلطت مع رياح التغيير في المنطقة بل والعالم بأسره ، فبعد أن أغشى بريق السلام الأمريكي والإسرائيلي السلطة الفلسطينية ، وما أوصلها إليه مراوغة حكومات تل أبيب المتعاقبة ومن خلفها البيت الأبيض الأمريكي عبر المفاوضات التي لم تؤتي أكلها على مدار المرحلة السابقة ، بل لم تفضي إلى شيئ سوى تكريس واقع الإحتلال من خلال سياسته في الضم والتوسع والتهويد والإستيطان والتنكر للحقوق والثوابت الفلسطينية ، فعملت على التوجه للأمم المتحدة مرة أخرى من أجل طلب الإعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة كعضوا بصفة مراقب في هذه المنظمة الدولية ، على الرغم من كافة التهديدات التي أطلقتها دولة الإحتلال وبدعم كاملا من البيت الأبيض الأمريكي وما ذهبت إليه من فرض عقوبات عليها لثنيها عن هذا المطلب ، وبالتالي التراجع للخلف والتخلي عنه والعودة لمائدتها وفقا لشروطها المجحفة .
ووافق هذا الأمر ما جري ويجري من حراكا شبابيا وشعبيا شهدته الضفة الغربية على حدود التماس مع جيش الإحتلال الإسرائيلي وقطعان مستوطنيه بهدف تصعيد المقاومة الشعبية مع الإحتلال ومستوطنيه ، مما أدى إلى ارتفاع وتيرة القمع الإسرائيلي لهذا الحراك ، والذي تزامن مع تصاعد حدة المقاومة العسكرية لهذا الإحتلال في قطاع غزة أيضا ، والذي تنامى واشتد عقب ما أقدم عليه الإحتلال بإغتيال قائد كتائب عز الدين القسام في حركة حماس الشهيد أحمد الجعبري ، والذي كان له الدور البارز في تحديد سياسة حركة حماس وآخر هذه الأدوار إبرام صفقة تبادل الأسرى والتى تمت العام الماضي مقابل الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط ، ولعل عملية الإغتيال هذه كانت إرهاصات العملية العسكريةالكبيرة على قطاع غزة والتي أشعلت فتيلها حكومة الإحتلال حتى أخذت حمئتها تتقد يوما بعد يوم .
وفي هذا السياق يجمع الكثير من السياسيون على أن هذه الحرب الشرسة التي تشنها حكومة الإحتلال على قطاع غزة لها دلالاتها السياسية الكبيرة إذ تتعلق بأبعاد الإنتخابات الإسرائيلية والتى تشارف على أبواب العام المقبل ، والتي يراد للدم الفلسطيني خلالهاأن يكون نصابها وثمنها ، كما جرى في انتخاباتها السابقة قبل أربعة سنوات ، والتي سبقها في حينه حربا شعواء على قطاع غزة أيضا ، ومن جهة أخرى ترمي حكومة الإحتلال الإسرائيلي إلى تشتيت السلطة الفلسطينية وتخفيض سقفها ومطلبها السياسي وبالتالي إعادتها من طريق التوجه للأمم المتحدة لنيل استحقاق الدولة الفلسطينية المستقلة بصفة مراقب ، ومن ثم إشغالها فيما يحدث بغزة وكذلك تعميق حالة الإنقسام الفلسطيني ، فهي ستمنح حركة حماس مرة أخرى استئثار الحالة القائمة في غزة وما سيتبعها من نتائج سياسية ، وبذلك تعود كافة الأطراف الفلسطينية إلى المربع الأول ، ناهيك عن أنها أي حكومة الإحتلال ستكشف ما لدى قطاع غزة من امكانيات عسكرية وقتالية من أجل استخدامها لإعلامها وسياستها الموجهة محليا واقليميا ودوليا ، ليعطى لها الذريعة في إمعانها للمضي نحو التنكر للدولة الفلسطينية المستحقة وتحريض دول العالم على هذا الأمر وإعطاءها الحق في ممارسة إجراءاتها الأمنية والذي ترمي من خلالها إلى توسيع رقعة دولتها وتهويدها .
وبيد أن حكومة الإحتلال الإسرائيلي كانت قد دأبت منذ فجر تاريخها على استثمار حروبها واستغلالها خير استغلالا من أجل تحقيق أبعادها ومصالحها السياسية والتي تهمها بالدرجة الأولى بقدر يفوق أهمية النصر والهزيمة بالقدرات العسكرية ، على طريقة الهولوكوست واستمراءها اجترار العالم لنظرية الضحية والمذبحة ، وكذلك جرى خلال كل حروبها على مدار التاريخ مع كل من فلسطين ومصر وسوريا ولبنان وغيرهم على مدار الصراع العربي الإسرائيلي ناهيك عن ما تبحث عن تحقيقه على الصعيدين السياسي والإعلامي .
وفي خضم ما يتجلى من حالة الصمود الشعبي الفلسطيني والذي بات من خلاله يدق ربيعه في الحرية والخلاص والإنعتاق والإستقلال ، بل والعيش بكرامة دونما أي احتلال ودونما وصايات أو ولايات من أي كان ، تحاول حركة حماس مرة أخرى وكما جرى غبان الحرب السابقة عام 2008 في غزة أيضا استئثار هذا الصمود وهذه المقاومة الباسلة وذلك تمهيدا لما قد يفضي عنه هذا العدوان الإسرائيلي البغيض من أبعادا سياسية ، إذ بدأ هذا واضحا من خلال الحراك السياسي المصري وغيره لوقف العدوان وإبرام هدنة وما يدلل على هذا زيارة رئيس وزراء مصر هشام قنديل إلى غزة اليوم ، إضافة إلى التصريحات التي صدرت عن قادتها بخصوص التهدئة والهدنة بأنه إذا ما ارادت مصر ، فنحن لا نعارض هذا الأمر وبالتالي سيعودوا بالشعب في غزة إلى ذات الحالة في الكر والفر والتصعيد والهدن وغيرها ووراء الأكمة ما وراءها في سياق موقع مصر الإستراتيجي وأهمية قطاع غزة بالنسبة لها وكذلك جارتها دولة الإحتلال الإسرائيلي .
فلقد اعتادت كل من مصر وحركة حماس على هذا الدور عبر السجالات السابقة فيما بين حركة حماس في غزة من جهة وبين حكومة الإحتلال من جهة أخرى وبوساطة مصر ، بل وتعود الكرة في كل مرة ، وعلى نفس الوقع والمستوى مع اختلاف الظروف في هذه المرة بحسب الزمان والمجريات على الساحة المحلية والعربية والإقليمة والدولية وهنا تكمن الخطورة ، وظني بأنه يلوح في الأفق عملية سياسية كبيرة قد ترمي إلى العودة كثيرا للوراء بل إلى إبرام اتفاقيات أخرى بسقف أدنى مما أحرزته بعض الإتفاقيات السابقة والفرصة والمناخ الفلسطيني على المستوى الرسمي قد يكون مهيئا لذلك ،إذا ما التقطت قيادات الشعب الفلسطيني ما يحاك بين سطور هذه المعركة ، الأمر الذي يدفعنا للتخوف من القادم الذي قد يرمي إلى غعادة تشكيل الخريطة الجغرافية والسياسية الفلسطينية عبر المحاور العربية والإقليمية والدولية ورسم معالم مرحلة جديدة في المنطقة لا سيما في دول الطوق كمصر وسوريا ولبنان والأردن والتي يرتبط واقعها السياسي والإستراتيجي حكما بالقضية الفلسطيني وحدودها معها وتماسها مع دولة الإحتلال الإسرائيلي ، إذ يأتي ذلك بالتزامن مع مجريات المتغيرات التي تعصف بالبلدان العربية .
وكذلك الحال بالنسبة للسلطة الفلسطينية فهي تبحث أيضا عن أوراق ضاغطة من خلال حثها على تفعيل الحراك الشعبي والذي من الممكن أن يشكل لها ضمان المضي في نهجها السياسي ، وبالتالي إحراز تقدما ما في العملية السياسية ، ورفع سقفها المطلبي السياسي في الصراع والجدل السياسي القائمين حول استحقاق الدولة الفلسطينية المستقلة وتحسين شروط التفاوض مع حكومة الإحتلال ، وكذلك دعم مساعيها في إطار التحشيد الدولي لهذا التوجه .
إن كل ما يجري على الساحة الفلسطينية من حراك شعبي وسياسي ومواجهة عسكرية مع حكومة الإحتلال ، يتطلب من كافة القوى الفلسطينية اليقظة وانجاز الوحدة والمصالحة السريعة والفورية ، والتي هي الرد الأمضى على العدوان الإسرائيلي البغيض ، وما قد يتربص بشعبنا وبقضيته من فتن ومؤامرات ، تجري في ردهات البيت الأبيض المريكي والكنيست الإسرائيلي ، وبعض العرابين من العاربة والمستعربة ، وعليهم اسقاط كل الحسابات والتكتيكات الفصائلية المقيتة ، والتي لفظها شعبنا اليوم وأعلن ربيعه نحو الحرية والإستقلال ، بل وأخذ زمام المبادرة وأمسك بالقرار ، وعليه أن يستمر ويمضي كذلك ، وأن لا يسمح لأحد باختطاف قضيته ونضالاته واختزال دمه والمتاجرة به لأجندات خاصة ، فدمه المحرمات ، فكفى عبثا في مصيره ، وفي هذا فعلى حركة حماس أن تبتعد عن نهج التكتيك والهدن والإستئثار هذه المرة ، وظني بأنه إذا ما فعلت فلربما تنكفئ كتائب القسام المقومة والباسلة ، وتمضي بخط مغاير لنهج قيادتها السياسية وحينه سيحدث معها ما حدث سابقا فيما بين حركة فتح وكتائب شهداء الأقصى خلال الإنتفاضة الفلسطينية الثانية ، فلا يعقل أن يبقى شعبنا حقلا للتجارب ومحطا للمزايدة والمراهنة والمتاجرة بمستقبله ومصيره ، وليدع يشق دروبه ، فلقد سقطت كل أوراف التكتيك ، وآن الأوان لخياره الإستراتيجي ، خيار الشعب في الوحدة والمقاومة والخلاص والإنعتاق من الأباطرة والإستقلال ، وعلى قيادات فصائل الشعب الفلسطيني ، أن تعيد أوراق القواعد السياسية المبنية على مصلحة الشعب والقضية ، بل وتغيير كافة أدواتها وخياراتها ، والعودة إلى صفوف الشعب وخياراته في الوحدة والمقاومة ولوجا للنصر والحرية والإستقلال ونيل كافة حقوقه المشروعة فالشعب هو مصدر التشريع .
دمشق