نشاهد ونسمع في مجتماعاتنا أحاديث تتحول إلى صراع وسرعان ما تصبح مصدراً لكثير من المشكلات، والبداية كانت تحت عنوان تبادل الآراء الذي يتحول إلى جدل، وهذا النوع لا يكون الهدف منه أن تعم الفائدة وتظهر الحقيقة، بل إسكات الطرف الآخر، وتحويل تلك الجلسة كما لو كانت معركة يجب أن يكون فيها منتصر، لذلك يخشى أن تكون هناك أحقاد وقلوب تحمل الضغائن والسبب جدال عابر .
يعتمد المجادل على أساليب استفزازية تعطل من تدفق الحقائق والمعلومات لدى الطرف الآخر حتى لا يقول شيئاً لا يستطيع الرد عليه، فيبدأ بفرض رأيه واستفزازه ورفض كل كلمة تقال له، والاستخفاف بعقلية من يتحدث معه، وعندما يتم الرد عليه ترى ملامح الغضب قد غطته فتنتفخ أوداجه ويحمر وجهه، إن هذا يعبّر عن عدم الفهم لدى هذا الشخص لأسس الحوار، وجعله معركة فيها منتصر ومهزوم .
يقول الروائي والمؤلف المسرحي أوسكار وايلد: “إن الجدال من الممكن تجنبه، فدائماً ما يكون سوقياً وغالباً لا يكون مقنعاً”، وهذا صحيح، فعندما تتحول جلسة من النقاش إلى مجرد أفواه تتحدث وأذهان مغلقة ويريد كل طرف أن يثبت أنه على حق، فلا يمكن أن تنتهي هذه الجلسة إلا بألفاظ وإهانات شخصية، وفي أبسط الأحوال قد تنتهي دون فائدة تذكر .
هذا ما يسمى بالحديث الإقصائي، فالشخص المجادل مؤمن تماماً بصحة ما يقوله، وأنه يفهم، ولكن الطرف الآخر على خطأ! يُقال إن أعضاء البرلمان في الدولة البيزنطية قديماً كانوا كثيري الجدل وقليلي الفاعلية، وعندما أرادت إحدى الدول المجاورة غزو الأراضي البيزنطية كان أعضاء البرلمان يجادلون في موضوع أيهم أسبق بالوجود البيضة أم الدجاجة؟ وطال الحديث عن هذا الموضوع رغم سطحيته وعدم مناسبته مع التهديد الخطر الذي يحيق بالدولة، وغني عن القول إن الأعداء تمكنوا من دخول البرلمان وإسقاط الدولة البيزنطية، ومن تلك الواقعة التاريخية ظهر ما يعرف بالجدل البيزنطي أي الجدال العقيم الذي لا فائدة ترجى منه، وعندما يصل الجدال إلى نقطة النهاية تجد أنها نقطة البداية، وقد صدقت مقولة رئيس المحكمة العليا للولايات المتحدة من العام 1916 حتى 1939 لويس برانديس التي ذهبت مثلاً فقد قال: “وراء كل جدال إنسان جاهل” . وفي الحقيقة أجدني أؤمن بهذه المقولة التاريخية بشكل مطلق فالإنسان المتعلم الواثق بنفسه ومن صحة ما يقول لا يخوض مراءً أو جدالاً عقيماً، بل يتذكر أسس الحوار والنقاش، فعندما يريد خوض مناقشة علمية تثير العقول والتساؤلات يفصل بين الشخص وبين فكرته، ولا يقاطع المتحدث مهما قال، ويلتزم بالأخلاق والاحترام حيث يكون صوته مسموعاً، وليس منخفضاً بشكل يستفز الذي أمامه، أو عالياً فيقلل من احترامه، وعدم التلفظ بعبارات خارجة عن نطاق الموضوع وغير لائقة، فبينما يولد الجدال الضغائن والأحقاد، ويصيب الإنسان بالتوتر والغضب بلا فائدة، نجد أن التحاور يمثل الهدوء والتجانس والتفاوض المنطقي من أجل الوصول إلى الصواب “الحق”، والحق من دون الشعور بالغضب أو التعصب، وأخذ الموضوع بشكل شخصي، وهذه مشكلة كبيرة جداً يقع فيها الكثيرون، حيث تجدهم يدافعون عن آرائهم باستماته مدعين أنهم يملكون البراهين والأدلة على وجاهة وصحة ما يحملونه من وجهات نظر، ولإثبات دعواهم وصدقها تجدهم يستعينون بكل شيء متاح من التاريخ إلى الجغرافيا، وصولاً إلى المنطق والدين وغيرها .
هذا الجانب حاول الدكتور علي الوردي معالجته في كتابه القيم “خوارق اللاشعور” عندما قال: “لا يجوز لنا أن نتعصب لرأي من الآراء مهما بدا هذا الرأي قوياً أو مؤيداً بالبراهين العلمية . إن البراهين أمور اعتبارية وهي تتغير بتغير الأزمات، فالبرهان الذي نقبله اليوم ربما بدا لنا سخيفاً غداً” .
إن فضيلة الحوار ماثلة وهو كما يعرفه كتّاب الحوارات الحاسمة: “التدفق الحر للمعاني والأفكار بين شخصين أو أكثر” عندما تقال الأفكار والآراء في جلسات النقاش، فإنه لا يمكن أن تتحول لمعارك طاحنة، بل تتطور ويتم تنميتها حتى يولد من الفكرة عشرات الأفكار، كذلك عندما يكون الذهن مفتوحاً مستعداً لتقبل الحقيقة مهما كانت، فإنه يسهم في تصحيح المفاهيم والمعلومات الخاطئة، وتظهر خبرة ومدى ثقافة المتحاورين في جو علمي يتمتع بالهدوء والاتزان .
من أهم الخطوات لكي يكون الحوار ناجحاً أن يحترم المتحدثون بعضهم، وينصتوا لما يقال لهم، كما يقول الأديب والصحافي كريستوفر مورلي: “هناك طريقة واحدة فقط لكي تصبح متحدثاً جيداً وهي أن تتعلم الإنصات” .
إن الانصات يعطي الطرف الآخر المجال لطرح فكرته وشرحها والرد على أفكار وآراء الطرف الآخر بكل شفافية وحرية، وقد عُرف أن العرب قديماً كانوا يقولون للطلاب: “رأس الأدب كله الفهم والتفهم والإصغاء إلى المتكلم”، ومن أهم الفوائد التي تستفيدها من هذه النقطة اكتساب “صفة الحلم” . ومن هنا يظهر أن الحوار لا يفيد فقط في إثراء العلوم والأفكار، بل تنمية وصقل شخصية الإنسان وتحسينها، فهو يجعل منه صبوراً وهادئاً، ويعلمه كيفية التفكير بمنطق، والقدرة على التعبير والتحدث بحيث يختار الألفاظ المناسبة، ويفصل بين الشأن الشخصي وبين طرح الأفكار والآراء بجدية وعفوية .
من أجل احترامنا لأنفسنا لنكن محاورين لا مجادلين .
فاطمة المزروعي