الغياب في الشعر الفلسطيني المعاصر
الرياض 14/11/2012م :
قدمت الباحثة الفلسطينية / آمنة عارف حجاج / صباح يوم الأحد 26/ذو الحجة/ 1433هـ الموافق 11/11/2012م في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض بحثها الذي عالج ((إشكالية الغياب في الشعر الفلسطيني المعاصر)) للفترة من 1980م إلى 2010م، وقد أجازت لجنة المناقشة البحث لنيل الباحثة درجة الماجستير في الآداب بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى وأوصت اللجنة بطباعة البحث وهنا تقدم الباحثة عرضاً موجزاً عنه . والجدير بالذكر أن الباحثة من مواليد مدينة الرياض وهي ابنة المناضل / عارف محمد حجاج / من كادر اللجنة الشعبية لمساعدة الشعب الفلسطيني بالسعودية.
ملخص
الغياب في الشعر الفلسطيني المعاصر
( 1400 – 1430هـــ / 1980 – 2010م )
الرسالة المقدمة لنيل درجة العالمية ( الماجستير ) في الأدب و النقد
في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – المملكة العربية السعودية.
النتيجة
أوصت لجنة المناقشة التي انعقدت صبيحة يوم الأحد الموافق 11 نوفمبر 2012 المكونة من الأستاذ الدكتور صالح بن الهادي رمضان الأستاذ في قسم الأدب – جامعة الإمام (مقررًا) و الدكتور حسن بن أحمد النعمي الأستاذ المشارك في قسم الأدب – جامعة الإمام (عضوًا ) و الدكتور عبدالله بن محمد المفلح الأستاذ المشارك في قسم البلاغة والنقد – جامعة الإمام (عضوًا) بقبول الرسالة ومنحها درجة الماجستير بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى والتوصية بالطباعة .
آمنة بنت عارف بن محمد حجاج
إنَّ إفراغَ الذاتِ الفلسطينيةِ من معنى الترابِ و الأرضِ و الجذورِ وتغييبَهَا جعلَ من الغيابِ مدخلًا مغريًا و مهمًّا لقراءةِ الشعرِ الفلسطينيْ ، ذلك أنّ الذاتَ الفلسطينيةَ تمرّست في التعاملِ مع مستوياتِه و تكرست فيه حتى باتَ ضرورةً حتميّةً في الوعي الجمعيّ ؛ إذ لم يعد قضمُ الاحتلالِ لمساحاتِ الأرضِ و تغييبُ شعبِهَا هو الغيابُ الوحيدُ الذي يواجهُهُ الفلسطينيْ ، فلقد تجاوزَ الغيابُ ذلك إلى قضمِ الروحِ الجمعيّةِ للأجيال المتعاقبة .
و لئن كان الغيابُ يقتضي في معناهِ العام غيابُ شيءٍ عن المكانِ و حضورُه في مكانٍ آخر فلقد بدأتُ من ذلك المكانِ الآخر الذي يحضرُ فيه الشيءُ الغائب ، أعني تجــرِبتي الحضورِ في المنفى و السجن ، سعيًا إلى تجليةِ خصوصيةِ الغيابِ الفلسطينيْ ، و ذلك من خلالِ تتبعِ خصائصِ كتابةِ هذا المعنى الشعريِ المتنامي في ثلاثين عامًا ، أي : بدءًا من الربعِ الأخيرِ من القرنِ العشرين ، وهي الفترةُ التي تكرّسَ فيها الغيابُ و خرجت معها القصيدةُ الفلسطينيةُ من بوتقةِ القصيدةِ المعركةِ.
و مع نضجِ ثقافةِ الإحساسِ بالغيابْ ؛ بدأت تظهرُ ملامحُ التجديدِ والتطويرِ في المفاهيم المشكّلةِ لهذهِ الظاهرةِ فلم تعد مجردَ مفاهيمَ مرجعية يعبّـرُ الشعراءُ عنها في المفاصلِ التاريخيةِ من القضية ، بل أصبحت الأساسَ الذي ينطلقُ منه الإبداعُ و الجوهرَ الذي يرومُ الشاعرُ الوصولَ إليه من خلالِ البحثِ عن الملامحِ الغائبةِ في بعض التفاصيلِ الحاضرة ، والعكسُ بالعكسْ .
و لتتبعِ تحوّلاتِ هذه الظاهرةِ و تمددهِا على جسدِ القصيدةِ الفلسطينيةِ لدى جملةٍ من شعراء فلسطين كان التوجهُ نحو ضبطِ جوانبِ هذه الظاهرةْ، ابتداءً من الحدودِ الماديةِ لتجرِبتي المنفى و السجن لتكون جسرًا مؤديًّا إلى تشكيل ثقافةٍ ذهنيةٍ كبرى هي الغيابْ ، تترقى من الذاتي إلى الجمعي ومن الحقيقي إلى المجازي ليبرزَ في خضم ذلك أثرُ الغيابِ في المعاجمِ اللغويةِ و المجالاتِ الاستعاريةِ و الموضوعاتِ الشعريةِ و الوشائجِ الرابطةِ بين أعلامِ الشعرِ الفلسطينيِ .
وسعيًا إلى تحقيق ذلك ؛ انعقدَ البحثُ في تمهيدٍ وثلاثةِ فصولْ ؛ فقد انقسم التمهيدُ إلى مبحثين ، عُني الأولُ بمعنى الغيابِ في الشعرِ و مستوياتِه، و عُني الثاني بالأحداثِ التاريخيةِ المؤثرةِ في الشعرِ الفلسطيني . أمّا الفصلُ الأول المعنونُ بالغيابِ الحقيقي ؛ فانقسم إلى مبحثي المنفى ، والسجن . و اضطلعَ برصدِ الموضوعاتِ التي عرض لها شعراءُ فلسطين و بتتبع خطابِ البداياتِ والمعجم الشعريِ الدالِ على التجرِبتينْ . و لقد انقسم الفصلُ الثاني المعنونُ بالغيابِ المجازي إلى ثلاثة مباحث : المنفى : هُويةُ شاعرٍ و التحامٌ بالوطنْ ، السجنُ : مشاعرَ مقيدةٍ ، و مشاعرَ محررةْ. ورؤيةُ الشاعرِ للزمانِ و المكانِ . و اهتمت هذه المباحثُ بتطورِ وعيِ الشعراءِ بمفاهيمِ الغيابِ الماديةِ و بتحوّلـِها إلى ركيزةِ تشكّلُ رؤيةَ الشاعرِ الفلسطيني للوجودِ برُمَتِه . أمّا الفصلُ الثالث المعنونُ بصدى الغيابِ في الموضوعاتِ الشعرية الذي انقسم إلى ثلاثةِ مباحث : الحب ، الموت والحزن، و المستقبل ؛ فُعني بتمددِ ظاهرةِ الغيابِ على جسدِ التجربةِ الشعريةِ؛ إذ أصبحَ الغيابُ بؤرةً تلتقي فيها موضوعاتُ الشعرِ الفلسطيني المختلفةِ وبوتقةً تنصهرُ فيها مختلِفُ المعاجمِ اللغويةِ والثنائياتِ الضديّةِ ليصبحَ للغيابِ لغتُهُ الخاصةُ التي يتميزُ بها من الظواهر الشعريّةِ الأخرى ؛ ويغدو تشكيلًا استعاريًّا دلاليًّا فنيًّا واعيًا يميزُ الشعريّةَ الفلسطينية .
وفيما يلي أبرزُ نتائج التَطوافِ في ديوانِ الغيابِ الشعريِ الفلسطينيِ المعاصر :
1. إن العمليةَ الإبداعيةَ تبتدئُ من الغيابْ. و الغيابُ مفهومٌ ذهنيٌ وجوديٌ إدراكيٌ ليس له ماهيةٌ في ذاتِه ، و إنّما يستمدُ ماهيتَهُ من مرجعٍ ماديٍ – كالنفي و السجن – . و تحويلُه إلى ظاهرةٍ شعريّةٍ يتطلبُ ذاتًا شاعرةً تعي بجدليةِ الحضورِ و الغيابِ و تمتلك أداةَ تصنيعِ هذه الظاهرةِ الشعرية التي تستمدُ قِوامَهَا من الذاكرةِ و المخيلةِ و المجالاتِ الاستعاريةِ والثنائياتِ الضديةِ التي تتحدد قوةُ النصِ الشعري بقوةِ جدليتِهَا .
2. لقد انتظمَ شعراءُ الغيابِ على اختلافِ أجيالـهِم في بؤرةٍ لغويةٍ واحدةٍ و فلكٍ مضمونيٍ واحد يحاكي بلغة الغيابِ الاستعارية الأحداثَ التاريخيةَ التي عاشَهَا الشعبُ الفلسطيني دون أن تكتفيَ مرحلةُ الثمانينيات و مابعدَهَا بأحداثِها التاريخية ، فلقد ظلّت أحداثُ الماضي – التي شكلت الوعيَ الجمعي – تُطلُ برأسِهَا على التجربةِ الشعريّةِ المعاصرة ؛ ففي كتابةِ الغيابِ الحقيقي لاحظنا كيف أن شعراءَ المنافي انطلقوا من بؤرةٍ مضمونيةٍ كبرى هي ” ضياعُ الوطنِ و العيشُ في الشتات ” كما انطلق شعراءُ السجونِ من بؤرةِ ” تجربةِ الأسر”؛ لينسجوا على منوالـِها موضوعاتٍ تحاكي هذا الضياعَ والقيد.
3. لقد تجاوزَ الغيابُ – في كتابةِ المنفى و السجن الحقيقيين – كونَه حقيقةً موضوعيةً قد تنتهي بتحقق العودةِ أو التحررِ من الأسر فلقد أصبحَ الغيابُ حالةً وجوديةً و نظرةً عامةً إلى جميع الأشياء ، بحيثُ يرى الشاعرُ وراءَ كلِّ حدثٍ أو كلمةٍ دالةٍ على الحضور ما يذكّرُه بالغياب . كما أنّ إدراكَ الذاتِ الشاعرةِ للهزائمِ و الانكساراتِ المتلاحقةِ نجمَ عنه جنوحٌ إلى الذاتي و مراجعةُ الماضي و التفاصيل المركوزةِ في الوعي الجمعيّ في إلماعةٍ إلى أنَّ المشكلَ الفلسطينيَ الحقيقيَ يبتدئُ حلُّه بإدراكِ الذاتِ التي تتصالحُ و تلتحمُ بوعي جمعي .
4. و بتتبع التحولاتِ المجازيةِ لمفاهيمِ الغيابِ المرجعيةِ نلحظُ أنّ الذاتَ الشاعرةَ أثناء كتابتِها للمنفى المجازي تنقسمُ إلى ذاتين ، ذاتُ ترفضُ النفي وتلتحمُ بالوطن ، و ذاتُ تندمجُ و تتماهى في حالةِ النفي. إلّا أنَّ الانتقالَ من صورةِ إلى أخرى لم يكن بشكلٍ فجائي ؛ فلقد سقطتْ الذاتُ الشاعرةُ في منزلةٍ وسطى بين هاتين الصورتين ، و هو السقوطُ الذي نجمَ عن كثرَةِ الإيغالِ في الذكرياتِ ما أدى بالذاتِ إلى المكوثِ طويلًا في منطقةٍ ضبابيةٍ شكلت ذِرْوَةَ الضياعِ و التأرجحِ بين الثنائياتِ و السقوطِ في فضاءِ التسآلِ و التشيؤِ و الغموضِ و الشعورِ بالانعزالِ و فُقدَانِ الأمانِ و التمردِ على جدليةِ الـــــ ” هنا ” و الــــ ” هناك ” و هو الأمرُ الذي زاد من تفطنهِم إلى الشعورِ بالغياب كأداةِ استلابٍ تمارسُ سطوتــَها على الذاتْ ، ما أدى إلى تخلّقِ فكرةِ الوطنِ أداةَ استلابٍ التي نجمت عنها صورةُ ” الوطنِ المنفى ” المتجليةُ بوضوحٍ لدى إبراهيم نصر الله و مريد البرغوثي وفدوى طوقان . فأصبحت أنانيةُ اللغةِ الطبيعيةِ مشكلا تعبيريًّا و وجوديًّا في آن، لأن الغيابَ يهدّدُ القيمةَ الأنانيةَ في اللغةِ فيصبحُ الهنا هناك .
5. و ذاتُ الانقسامِ نجدهُ في كتابةِ الأسرِ المجازيّة فلقد تأرجحتْ الذاتُ الشاعرةُ بين الشعورِ بالقيدِ و وطأتِهِ المعنويةِ حتى بعدَ الخروجِ من السجنِ الحقيقي ؛ إذ تحوّلَ الخارجُ إلى سجنٍ كبيرٍ يتمتعُ بملامحِ سجونِ الاحتلال ؛ ثم انسحبت حالةُ القيدِ على كلِّ الموجوداتِ في محيطِ الشاعرْ. حتى الوطنُ أصبحَ يُطلُّ على التجرِبةِ الشعريِة من خلفِ القضبان ، و لقد تمثلت ذِروةُ التخييلِ و التصويرِ الشعري في جعل الغيابِ نفسِه بكلِّ ما يحتويِه من مفاهيمَ مرجعيةٍ زنزانةً كبرى تتكرسُ فيها كلُّ الحقولِ الدالةِ على الغياب .
6. و لـمّا كانت القضيةُ الفلسطينيةُ عميقةَ الصلةِ بالآخر فقد أولى شعراءُ الغيابِ عنايةً خاصةً به – أي : بالآخر / المحتل – ؛ فأصبحَ تيمةً متناميةً و متطورةً في القصيدةِ الفلسطينيةِ التي لم تعد تُقصي الآخرَ من خطابـِها و من دائرةِ وعيِها بالوجود ؛ فظهر الخطابُ الشعريُ الإنسانيُ الموجهُ إلى العدوِّ دون أن يحملَ في طياتِه تراجعًا عن الموقفِ الجمعيّ في مقاومةِ هذا المحتل .
7. و لئن كانت تجربةُ الغيابِ في أصلِهَا تنعقدُ على أساسِ فقدِ الزمانِ و المكانِ الفلسطينيين ؛ فإنّ شعراءَ الغيابِ استطاعوا أن يعيدوا تشكيلَ الزمانِ و المكان الضائعين تشكيلًا مجازيًّا تأثثَ على عدةِ لبنات ، منها : الإحساسُ بالحاجة إلى زمنٍ أوسعْ ، لاستيعابِ الفجيعةِ الحقيقةِ ، و أسطرةُ الزمنِ و الحيز الفلسطينيين ظنًّا منهم بأنِّ هذه الإجراءاتِ قد تعينُهم على ترميمِ الماضي أو على إنقاذِ ذلك الماضي من بطشِ الغياب . و بلغَ بعضُ الشعراءِ مبلغًا أعمقَ حين ظنوا أنّ باستطاعةِ اللغةِ الشعريةِ أن تردعَ الغيابَ و توقفَ زحفَه ، و هذا ما يفسّر اتكاءَ شعراءِ الغياب على الزمنِ و الفضاءِ المدورين .
8. إنّ تكرارَ المعجمِ و الصورِ عند شعراءِ الغياب يحملُنَا على القولِ بأنّ معجمَ الغيابِ و حقوُلَه الدلالية أصبحت قاسمًا مشتركًا لدى مختلِفِ شعراءِ الغيابِ على اختلاف أجيالـِهم العمريةِ و رؤاهُم الفكرية ، كما أنّ تشظيَ الغيابِ على جسدِ التجرِبَةِ الشعريةِ منحَنَا مدخلًا ملائمًا لاستقراءِ التيماتِ الأساسيةِ لدى مختلِفِ الشعراء ؛ إذ تحوّلت هذه الظاهرةُ إلى عنصرٍ استعاريٍ مدلوليٍ نُدركُ رجعَ صداهُ على مختلِفِ الموضوعاتِ الشعريِّة الأخرى ، فلقد أصبحَ الغيابُ هو االخيطَ الذي تنتظمُ فيه قصيدةُ الحبِ و الموتِ و المستقبلْ .
9. على الرُغمِ من أنّ تجرِبةَ الغيابِ وزعتْ نفسَهَا على الشعراءِ فتشابهتِ المضامينْ ؛ فإننا نستطيعُ أن نلحظَ الاختلافَ بينهم بتتبعِ الرؤى الشعريةِ و التقاناتِ الفنيةِ و الأسلوبيةِ الموظفةِ لتحويل هذه المضامينِ إلى أيقوناتٍ شعريّةٍ كبرى ؛ فتوقفُنا صورُ المخيماتِ لدى إبراهيم نصر الله و أحمد دحبور ، كما يوقفنا سقوطُ سميح القاسم في التشيؤ و الغرقِ في شعورِ الحزنِ و الموتِ المجازي ، و خوضُ محمود درويش في غموضِ جدليةِ الـــ “هنا ” و الــــ “هناك ” و مصادقةِ الموت ، و سقوطُ خيري منصور في فضاءاتِ التسآل ، و جنوحُ المتوكل طه و محمود درويش نحو أنسنةِ العدو ، و تحررُ باسم الهيجاوي بواسطةِ الحلم ، وأسطرةُ أيمن اللبدي للزمن الفلسطيني ، كما توقفنا تجرِبةُ عز الدين المناصرة في تشكيلِ المكان الفلسطيني ، و تجربةُ خلقِ كونٍ من حبّ لدى فدوى طوقان . كما أنّ التبادلَ المعجمي بين تيمات الغيابِ المتفرقة ( المنفى ، السجن ، الحب ، الموت و الحزن ، المستقبل ) منحَ اللغةَ الشعريّةَ عمقًا دلاليًّا يحيلُ على تجربةٍ تأثثت بالغياب . و لقد لاحظنَا تسرّبَ لغةِ الغيابِ في شقوقِ التجربةِ الشعريّةِ لدى شعراءَ نزعوا إلى الغيابِ و أخذوا يجربون إنشاءَ فضاءٍ شعريٍ قطبهُ الدلاليُ الأساسْ التعبيرُ عن الغياب ، سواءَ وقع عليهم فعلُ من أفعالِه أم لم يقع، و هو ما وجدناه في كتابةِ الأسرِ لدى هاون هاشم رشيد و إبراهيم نصر الله .