لماذا ننتقد الغرب .. ولم ننتقد أنفسنا؟ بقلم : داود السلمان
لا ننكر أنّ الغرب، وفي فترة من الفترات، كانت متخلفة (كشعوب) وتعاني من مشاكل اجتماعية وفكرية ودينية، وربما حتى نفسية، يوم كانت الكنيسة هي التي تحكم وتسيطر على كل شيء، فُتنصّب الملك المطلوب وتعزل آخر، بما يحلو لها الأمر، بشرط أن يخدم مصلحتها، وأن يطبق جميع الأحكام والأوامر التي تصدرها، دينية كانت أم سياسية.
ولم تتخلص أوروبا من قبضة الكنسية إلا قبل فترة وجيزة من الزمن، أي يوم نجحت الثورة الفرنسية، ثم اتسعت شرارة هذه الثورة لتعم أوروبا كُلها.
ولا ننسى أيضًا حجم الإضرار التي خلفتها الكنسية، فترة حكمها، مما انعكس سلبًا على نفسية المواطن الأوروبي، وقرأنا عن الانتقام الذي لحق برجال الكنيسة، بعد سحب البساط من تحت أقدامها، إذ نصبوا لهم مشانق خاصة واخذوا يعدمونهم بلا محاكم، على غرار محاكم التفتيش التي نصبها المقيمون على الكنيسة، وكانوا يعدمون ويحرقون ويسجنون العلماء والفلاسفة واصحاب العقول النيرة، لمجرد اتهامهم بمخالفتهم للكتاب المقدّس (وهي دعوى بلا مبرر)، وكانوا يعدون ذلك هرطقة، حتى اسكتوا الأصوات التي دعت إلى الإصلاح والانفتاح، وتعديل القوانين المجحفة بحق شعوبها، وإلى اعطاء حرية في التفكير ومساحة في النتاج والانتاج، بهدف التطوّر وتقدم البلاد نحو ما يقيم أود الحياة.
ولما تخلصت أوروبا من هيمنة الكنسية، وهزمتها شرّ هزيمة، انفتحت انفتاحًا كبيرًا على العلوم والصناعة، واعطت المفكرين والعلماء فسحة كبيرة وحرية واسعة، حيث نهضت تلك الشعوب من سباتها، فعم الإعمار واتسعت رقعة الانتاج وبدأت الاختراعات يزداد اطرها بالتوسع، وانتشرت السّوق الحرّة واخذ الطلب يزداد على التعلم، وعلى تعليم الحرف اليدوية والمهنية، وعلى أخذ العلوم الحديثة والحث على المعرفة، وغير ذلك الكثير- الكثير مما هو اليوم واضح لدى القاصي والقريب.
ونحن العرب والمسلمين، بقينا متمسكين بالماضي، ونتباكى على العهود المظلمة، وما قال السّلف، الذي أسموه بـ “الصالح” وعلى العادات القبلية والعشائرية، التي أكل عليها الدهر وشرب، وكذلك على قوانين ما عادت تجدي نفعًا اليوم، لأنها قوانين قديمة مستهلكة لا تصلح لإنسان العصر الحديث، كون هذا الإنسان تطوّر وتعلمّ وراح يفكّر ويتساءل، ويطلب أجوبة مقنعة لكلّ تساؤلاته: الفكرية والدينية والفلسفية، فهو اليوم ليس إنسان الأمس، يوم كان ينخره الجهل، وتعوزه المعرفة، وكان رجل الدين يضخ إلى عقله من اشياء ما انزل الله بها من سلطان، من خرافات وترهات واباطيل، ما عادت تنفع اليوم وقد كشفها العلم الحديث وفندها.
رجل الدين مكانه الحقيقي في المؤسسة التي يعمل فيها، وواجبه التوجيه والحثّ على الأخلاق، ونشر المحبة والسلام بين مكونات المجتمع الذي يعيش في كنفه، لا واجبه السياسة ودخول البرلمانات، فالسياسة لمن يعمل بالسياسة، ففيها أحيانًا يصح الكذب والمراوغة، لمصلحة ما، هو يراها صحيحة، لكن بالدين لا يصح للكذب والمراوغة، كما ترى جميع الأديان.
إنسان اليوم تفتحت ذهنيته وأتقد عقله، وتوسعت زواياه المعرفية، وسئم القديم الذي كان ينطلي عليه، في العهود الغابرة، وبه سيطروا على كيانه وسلبوه نفسه، وسرقوا عقله، ووصلوا بهم الأمر أن سرقوا امواله تحت ذرائع كثيرة ومتعددة، ومسميات اخترعوها، بل أتوا بها من جيوبهم واختراعاتهم، بهدف الهيمنة والتجهيل حتى يظل الإنسان تحت ظل تعاليمهم، لا يُحرك ساكنًا، ولا يثور على قوانينهم، ولا يخالف أمرًا من أوامرهم.
في كثيرٍ من الأحيان اقرأ هناك، واسمع هنا من وسائل الإعلام المختلفة، كلام أو رأي لجماعة، ينتقدون فيه الغرب ويصبون عليهم جام غضبهم، كونهم فعلوا القضية الفلانية، أو سنّوا قانونًا معينًا، أو دعموا فكرة ما أو ظاهرة ما، أو نظرية فيها خلاف، فتذهب الانتقادات تفند وتستنكر وتارة تشجب، ناسين أو متناسين إنّ تلك الشعوب لها قوانينها الخاصة بها، وليس بالضرورة أن تتوائم وتنسجم مع قوانيننا، واعرافنا وقيمنا وعاداتنا، فحن شعوب لنا عاداتنا واخلاقنا وقيمنا، الخاصة بنا. لماذا نقيس قيمنا على قيمهم وعاداتنا على عاداتهم؟، أليس هذا من السّفه بمكان، ومن المغالطات والكذب على انفسنا بمكان آخر؟.
طالما أنّ معظم تعاليمنا مازالت تصدر عن المؤسسة الدينية، بقوانينها القديمة ورؤاها الماضوية، وهي تفرضها علينا فرضًا، وبقوة فسنبقى متخلفين لا نسير مع الركب الحضاري، ولا نرتقي التقدم الذي يشهده العالم، ولا حتى السباق التكنولوجي والصناعات بكلّ أشكالها، وسنبقى أيضًا مستهلكين غير منتجين كالبهائم تأكل علفها من تحت اقدامها؟، إن جاز لي هذا التعبير.
رجل الدين، وعلى كلّ مستوى الأديان، هو من يؤجج الحروب ويفتعل التفرقة ويؤلب الناس. قبل ثلاثة أيام قام منشد أناشيد دينية، مشحون طائفيًا، بشتم معتقد لطائفة من المسلمين كبيرة، وكاد أن يشعل المنطقة بشرارة حرب لن يهدأ أوارها، لكن آماله بائت بالفشل وعدت الأمور على خير، وانكشفت اللعبة.
وإذا بقينا نتبع هذه العقول الجافة، وعلى نمطية تفكيرهم وهم يدسونها في عقول أبنائها، بطرق متعددة، سنبقى في تخلفنا نراوح، ولا نتنفس نسيم الحرية.
إنّ الأمم والشعوب التي نهضت، وقامت من سباتٍ كان جاثمًا على خوانيقها، لم تنهض إلّا بهزة أو صاعقة كهربائية، وانتبهت إلى نفسها فثارت كالحصان الجامح، لتخرج من الأسر الفكري والذهني، بل وحتى الديني، فرجالات الدين كانوا يعدون أنفسهم هُم من يمثّل الدين، بل هم الدين نفسه، فإذا رأوا من ينتقدهم ويشير اليهم بأصابع الاتهام، قالوا: إنّ الدين في خطر، فلا يلومون أنفسهم بماء يجري.
للأسف الشّديد، نحن لا نمتلك ثقافة النقد حتى وإن كنّا نمتلك تلك الادوات، أما نخاف لأننا لا نمتلك لسان الشجاعة، وأما بعضنا يسير وهو مطأطأ الرأس كونه يعمل تحت مظلة هؤلاء الذين عنيناهم، فيخاف أن يُطرد من وظيفته، أو لا هذا ولا ذاك، إذ يرى طرف ثالث أنّ الأمر لا يعنيه، بالمرّة، طالما هو متنعم ويسير بسلام، كالمثقف السّلطوي، على سبيل المثال.
فالصحيح، يجب أن نتعلم من الشعوب التي سبقتنا، نتعلم كل شيء، ونتخذ تلك الشعوب المثل الأعلى، لاسيما ونحن نرى ما حققته من تقدّم ملحوظ على كافة المستويات، لا أن نسكت ونخنع، فالسكوت والخنوع يعنيان الهزيمة، والمهزوم لا يمكن أن يصنع دولة ويخلق مجتمع ناهض، يسوده التقدم ويعمه الانبثاق.
في كلّ مرة أسمع: إن شعوبنا العربية والاسلامية أنما تأخرت بسبب الإسلام السياسي، أخوان المسلمين ومعيتهم، بهذه الأفعال الدخيلة المسمومة، هي من فعل بشعوبنا الأفاعيل، هي من دمرتنا والقت بمستقبلنا في قاع المجهول، هي من هيمن علينا وسيطر على أفكار شبابنا، فسرقهم من أنفسهم، وبالتالي هي من سيطر على السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وراحت تشرهن وتصدر قوانين على مقاس أفكارها وأيديولوجيتها؟.
وهذا لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي لا نحرك ساكنًا، بل يجب أن تكون أصواتنا عالية، وبالخصوص طبقة المثقفين وطبقة المتعلمين، وممن يجد فيه الشّجاعة الكافية ليقول بالرفض، ويرفع شعار الحرية للتخلص من هيمنة هؤلاء.
ويبقى السّؤال هل ستنهض الأمة من سباتها، وتصو على نفسها فتسلك الطريق نفسه، الذي سلكته أوروبا من قبل حتى أصبحت على ما أصبحت هي عليه اليوم؟.