يحتار الكاتب الفلسطيني حين تستدعيه المسؤولية الوطنية لكي يتابع بعمقٍ تحليلَ الأحداث التي تجتاح عاصمة فلسطين، فهذه مسألة أكثر من واضحة، وأكثر من واضحة المخططات والسياسات الإسرائيلية، فحين تضع “التهويد” عنواناً لما تعانيه القدس، فإن التفاصيل تبدو إخبارية، روتينية، لكثرة ما تعانيه مدينة السلام.
إلى حد كبير يشبه ملف القدس ملفَ غول الاستيطان الذي ينهب الأرض دون توقف، فيما تتحول بعض المستوطنات إلى مدن، وتنشأ فيها مليشيات، تكبر وتتسلح، ويكبر دورها في استباحة الأرض والشجر والبشر والتراث الفلسطيني.
المؤسسات الفلسطينية وحتى المؤسسات والصحافة الإسرائيلية، كل لدوافعه، لا تتوقف عن تقديم المعلومات، والإحصائيات، والإجراءات الإسرائيلية المتنوعة، مثلما لا يتوقف الجيش الإسرائيلي عن حماية والمساهمة في تنفيذ سياسات المستويات الأعلى إن كانت سياسية أو أمنية أو عسكرية أو بلدية، الفارق هو في زاوية وأبعاد النظر، في هذه السياسات والأهداف الأخيرة، التي تسعى إسرائيل لتنفيذها، وفي مدى مقاربة هذه السياسات والأهداف القانونَ الدولي، وقرارات الأمم المتحدة التي تحولها السياسة الأميركية الموالية لإسرائيل إلى مجرد قرارات وأوراق تعلو رفوف المنظمة الدولية.
الرئيس محمود عباس وكل القيادات والفصائل والمؤسسات الفلسطينية، الكل لا يتوقف عن الشكوى والتحذير مما تتعرض له القدس، وكذلك الحال بالنسبة لرجال الدين والمؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية، الكل يصرخ بأعلى الصوت مراراً وتكراراً، وا عرباه، وا إسلاماه، غير أن الإجابة تأتي مبحوحة، ضعيفة، لا يتجاوز صداها آذان من يطلقوا مثل هذه الإجابات. يتحمس القادة والزعماء حين تنعقد المؤتمرات الخاصة بالقدس، أو غير الخاصة بها، ويتنافخ الجميع في إطلاق التهديدات، والبعض يتحدث عن جيوش للقدس، وعن أموال طائلة يجري تخصيصها لدعم المقاومة لكن أهل القدس ومآذنها وكنائسها وسورها وأزقتها القديمة يعانون من وحشة الوحدة.
يوم الجمعة الماضي، تصاعدت الحملة ضد المسجد الأقصى، فقد قام الجيش الإسرائيلي باقتحامه والاشتباك مع مئات الشبان، الذين أصيب منهم العشرات، لكن ذلك الفعل، لم يكن سوى تطوير وتصعيد لحملات قطعان المستوطنين المتطرفين وعصابات المتدينين من اليهود، تمهيداً لمرحلة قد لا تكون بعيدة، تستهدف تقسيم المسجد الأقصى على غرار الحرم الإبراهيمي في الخليل. تتجاهل السياسة الإسرائيلية الرسمية عن عمد، أن اقتحام شارون للمسجد الأقصى عام ٢٠٠٠، كان الشرارة، التي أدت إلى اندلاع انتفاضة الأقصى، واستمرت سنوات، إن ما يجري في القدس، هو نتاج طبيعي لحملات التحريض الديني التي تنظمها وتشرف عليها السياسة الإسرائيلية الرسمية، وهو إنتاج طبيعي للمناهج التعليمية والتربوية، التي تنسجم والاتجاهات العنصرية المتسارعة التي تشهدها السياسة الرسمية، والقوانين والتشريعات التي تقررها الكنيست.
هذا هو جوهر ما ورد في خطاب الرئيس عباس في السابع والعشرين من الشهر الماضي، ومن على منصة الأمم المتحدة، وكان ذلك دلالة واضحة بالإضافة إلى دلالات أخرى كثيرة تناولها الرئيس لفضح السياسة الإسرائيلية، وتبيان مدى خطورتها أمام المجتمع الدولي. الرئيس عباس، وجه مؤخراً دعوة عاجلة لعقد اجتماعات استثنائية، لكل من الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، لمناقشة ملف واحد، يجري التركيز عليه، ويستحق التركيز عليه من كافة جوانبه وهو موضوع القدس وما تتعرض له.
الدعوة، تتجاوز في معانيها وأبعادها، آليات المتابعة الروتينية التي دأبت عليها منظمة التحرير، إلى وضع العرب والمسلمين أمام مسؤولياتهم التاريخية، فهذه المدينة، هي فلسطينية بقدر ما أنها عربية، إسلامية، مسيحية، وإنسانية، فإن كانت رسالتها الإنسانية لا تصل لأسباب سياسية إلى أهل القوة والتأثير في العالم، فعلى الأقل، إلى أهلها وعربها ومسلميها ومسيحييها العرب. رب قائل، وماذا يمكن للجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي أن تفعلا غير ما تفعلانه، الحقيقة أن ما تفعله هذه المؤسسات حتى الآن لنصرة القدس، لا يسر صديقاً ولا يكيد عدواً، الفلسطينيون لا يريدون من العرب والمسلمين والمسيحيين أن يجردوا الجيوش انتصاراً للقدس ومن أجل تحريرها، وإن كان هذا فرض واجب، يكفي الفلسطينيين أن يراجع هؤلاء القرارات الكثيرة التي سبق لهم أن اتخذوها بشأن القدس وأن يمتلكوا الإرادة لتنفيذها، ففيها ما يكفي القدس وأهلها، أما ما تبقى فأهل القدس وفلسطين كفيلون بالمهمة.
قبل أن نتحدث عن دور الفلسطينيين إزاء ما تتعرض له عاصمتهم، تجدر الإشارة إلى أن نجاح المسعى الفلسطيني للحصول على مكانة دولة غير عضو في المنظمة الدولية، ستمكن الفلسطينيين لاحقاً من طرح ملف القدس وملاحقة الاحتلال وسياساته على أسس قانونية، تتوافر لديهم في ملفات الأمم المتحدة، ولكن وضعية السلطة، والمنظمة لا تمكنهم من أن يضغطوا إسرائيل في الزاوية، ويخضعوها للعقوبات. أما بالنسبة لأهلية السياسة الفلسطينية، ومدى فاعليتها في مجابهة السياسات الإسرائيلية، فإننا لن نكف عن الحديث مطولاً عن الآثار الخطرة المترتبة على استمرار الانقسام الفلسطيني، وحيث ينشغل الفلسطينيون في صراعاتهم الداخلية، على حساب خوض الصراع مع الاحتلال، ولو افترضنا أن الانقسام قدر على الشعب الفلسطيني، وهو لا يمكن أن يكون كذلك، فإننا نتساءل عن حجم ونوع المقاومة، سواء الشعبية، أو العنيفة، أم أن هذه المقاومة مجرد شماعة لتبرير العجز، ولتبرير البرامج والأهداف الفئوية؟ إذا كانت كثرة الكلام لا تفيد القدس، فإن تأخر المقاومة بصرف النظر عن الأسباب، سيجعلنا نقول يوماً، “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.