مخاطر إحياء روسيا لـ”منظمة معاهدة الأمن الجماعي” بقلم : د. طارق فهمي
لن يقف الجانب الروسي كالمتفرج في التعامل مع تتالي انضمام دول أوروبية لحلف الناتو.
ورغم أن الحالة الأوكرانية لا تنطبق على السويد وفنلندا ودول أخري، فإن الواقع الاستراتيجي والأمني يشير إلى أن روسيا ستتعامل بمنهجية مختلفة، في ظل مخطط تتحسب له جيدا، في إطار التعامل مع التصعيد الغربي، سواء من قبل الناتو، أو الإدارة الأمريكية، التي تريد إنهاك واستنزاف المقدرات الروسية ومحاصرة مساحات التماس بين روسيا ومحيطها الإقليمي.
فشروط المفاوضات، التي طرحت قبل وأثناء الأزمة الروسية-الأوكرانية، وما تزال، وبعد أن دخلت الحرب شهرها الرابع، ارتبطت بمشروطية روسية بـ”عدم تمدد الحلف إلى الفضاء الروسي”، وفقا لمقاربة روسية حقيقية تتجاوز ما هو معروض في المفاوضات المتعثرة بين روسيا وأوكرانيا، والتي سيسعى إليها كل الأطراف، وفق مصالحه، سواء أعضاء الناتو، أو الولايات المتحدة، التي ما تزال تدير الأزمة بصورة غير مباشرة ومن أعلى، دون دفع تكلفة حقيقية، باستثناء الدعم العسكري لأوكرانيا.
هذا الدعم الذي سيحتاج إلى بعض الوقت لتمريره بالفعل وفق آليات عمل الكونجرس، وفي ظل خلافات بدأت تعلن عن نفسها داخل الناتو في التجاوب الحذِر مع بعض المطالب والشروط الروسية، والتي تتعلق بالسياسات النقدية والمالية في سوق النفط، ولن تتوقف عند التعامل مع الروبل، فما زال البنك المركزي الروسي يُملي شروطه في ظل مساحة من الوقت لمعرفة ما الذي سيجري من تأثيرات في منظومة العقوبات التي أقرتها الولايات المتحدة والدول الغربية، والتي ستحتاج إلى مزيد من الوقت للتأكد أنها ستؤتي ثمارها.
هذا ما يجب وضعه في الاعتبار على كل المستويات، خاصة مع الرهانات الروسية على إحداث أكبر قدر من الانقسام في المواقف الدولية، والعمل على كسر منظومة العقوبات، والعمل على مسارات متسعة من السيناريوهات، خاصة أن القطاعات المتوقع أن يكون تأثيرها ممتدا ما تزال في المراحل الأولى بالفعل، وتحديدا في قطاع النفط والغاز والخطوط البديلة، وهو ما قد يدفع بسيناريوهات ربما ستكون مختلفة في الفترة المقبلة، فالدول الأوروبية في المدار الشرقي من أوروبا لن تتحمل ما يجري في ظل مواقف متباينة ومتصاعدة، وتحتاج إلى بعض الوقت للحكم عليها، خاصة أن هناك تصورا مسبقا بأن الأزمة الأوكرانية الروسية ستطول، وذلك بعد أن حققت روسيا بعض المكاسب العسكرية الممتدة والمؤثرة، برغم التكلفة العالية التي تدفعها، فلم يكن متوقعا في البدايات كيف تفكر روسيا، هل تريد الحسم سياسيا وعسكريا وإنهاء أي مخاطر على الأمن القومي الروسي، أم أنها تسعى إلى واقع استراتيجي جديد ما زال يتشكّل؟
على أي حال لن تمنعها دول الناتو، التي لا تريد حربا ومواجهة مع روسيا، ولكنها لا تريد أن تذهب الخيارات الروسية إلى مساحات أخرى من المواجهة وتمدد مسارح العمليات.
لذا كان القرار الأوروبي بسرعة ضم السويد وفنلندا إلى منظومة الأمن الاستراتيجي للحلف، لنقل رسالة إلى روسيا بأنها ماضية في توفير المتطلبات الاستراتيجية لدول النطاقات الروسية، وهو ما تتفهمه روسيا، لكنها لن تُسقط شرطها المهم بضرورة عدم ضم دول أخرى لنطاق الحلف أو القبول باستراتيجية الأمر الواقع، خاصة أن روسيا ستعمل على فرض استراتيجية مقابلة بالذهاب إلى التصعيد الحذر، وعبر إجراءات استراتيجية لن تتوقف عند نشر قوات، أو منصات إطلاق أو وضع رؤؤس نووية أو تحريك قواعدها، فالأمر بالنسبة لروسيا مهم، وسيعمل في اتجاهات عدّة، وقد برز ذلك في مجمل المواقف والتصريحات الروسية سياسيا واستراتيجيا مؤخرا.
ومنذ إعلان القرار الأوروبي بضم السويد وفنلندا لحلف الناتو، وفي ظل استمرار العمل العسكري في أوكرانيا، فالحل ليس إدخال دول أوروبية مهددة من قبل روسيا لحلف الناتو، وإنما في قدرة دول حلف الناتو على التعامل مع أي تطورات سلبية حقيقية تهدد أمن أوروبا، لهذا فإن الدول الكبيرة في النطاقات الأوروبية -كفرنسا وألمانيا- سيكون لها حساباتها المختلفة، وسط استمرار التشكك مما يجري، وتباينات سياسية واقتصادية في الرد على التوجهات الروسية الراهنة، والتي قد تتطور لتهديد الأمن الأوروبي بأكمله، فقد عاد التفكير مجددًا في إنشاء القوة الفرنسية-الألمانية وإحياء فكرة “الجيش الأوروبي”، وغيرها من الأفكار، التي طرحت منذ سنوات ولم تنفذ.
هذا هو مكمن الخطورة وسط مخاوف حقيقية من تعرض “الناتو” -رغم التضامن المعلن- لسيناريو المواجهة والتشرذم في التوجهات، ما يتطلب مراجعات حقيقية لمواقف الدول الكبيرة -فرنسا وألمانيا- للجزم بما يجري من تطورات سياسية واستراتيجية تشمل مسرح العمليات الروسية-الأوكرانية، وسيضم بطبيعة الحال مسارح العمليات لدول الجوار الإقليمي، ومناطق التماس الاستراتيجي للجميع، والتي يمكن أن تنضم لمساحات التجاذب حال تمدّد الناتو.
في مقابل ما يجري أوروبيا سيكون موقف روسيا هو إعادة التركيز على منظمة معاهدة الأمن الجماعي -تضم بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، إلى جانب روسيا- والتي تم توقيع معاهدة لإنشائها في 1992 قبل أن تنضم إليها في وقت لاحق جورجيا، التي قد تشكل تحالف روسيا أمام حلف الناتو، فيما يمكن أن يشكل نسخة جديدة لحلف وارسو القديم، حيث سيعمل الهدف الروسي على تعزيز دور هذه المنظمة، التي كانت أدوارها محدودة طوال السنوات الأخيرة.
إذ ستسعى موسكو لإعطاء مزيد من اهتمام أكبر بالمنظمة، وإظهار امتلاكها أوراق قوة ومناطق نفوذ ونطاقات استراتيجية عديدة، في مواجهة المحاولات الأطلسية.
الواضح أنه بعد غموض مسار العملية الروسية في أوكرانيا وتمدد الناتو، فإن تطوير وتنمية دور معاهدة الأمن الجماعي سيأتي ضمن مقاربة استراتيجية تسعى لإعادة الاعتبار للمنظومة الدولية الراهنة وتصويب اتجاهاتها المستقبلية.