تحدث الجانب الفلسطيني «الرسمي» مطولا عن «استحقاق أيلول». وبدا الأمر عقب خطاب الرئيس عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي وكأن المعركة السياسية والدبلوماسية ستمضي حتى نهاياتها المرجوة في نيل الاعتراف بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران/يونيو 67 وعاصمتها القدس، ربطا بخريطة المواقف الدولية المؤيدة للمسعى الفلسطيني.
وعندما لم ينجح المسعى الفلسطيني في تحقيق الاعتراف بعضوية كاملة للدولة بسبب مواقف عدد من أعضاء مجلس الأمن وعلى رأسهم الولايات المتحدة، كان الخط الذي يجب العمل بموجبه هو الانتقال مباشرة بالمعركة إلى ميدان أرحب هو الجمعية العامة والحصول على عضوية الدولة بصفة مراقب. لكن الذي حدث أن المعركة توقفت في منتصفها بفعل الرضوخ للضغوط الأميركية وغيرها، وبسبب مواصلة الرهان الخائب على وقوع مستجدات تضع عملية التسوية على أسس ومعايير جديدة..
فمنذ أن انطلق المسعى الفلسطيني بالتوجه للأمم المتحدة ومؤسساتها لنيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية وبالتالي بعضويتها كدولة واقعة تحت الاحتلال، قلنا إن هذا المسعى يعني معركة سياسية وميدانية مفتوحة ضد الاحتلال ومؤيديه. وإن هذه المعركة تتطلب إرادة سياسية، وأن يتم خوضها ضمن إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني التحرري، وليس كما فهمها البعض، مجرد تكتيك سياسي هدفه استدراج عروض تفاوضية أفضل مما هو مطروح على الجانب الفلسطيني. لأن الذي يحصل وفق هذا الفهم هو أن تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل باستدراج الجانب الفلسطيني نحو طاولة التفاوض بالشروط السابقة مع «الحرص» على تقديم إغراءات «خلبية» لا تغير شيئا من الأساس المجحف الذي انطلقت بموجبه المفاوضات منذ نحو عقدين.
ومنذ أن انطلق المسعى الفلسطيني، كان منظورا في حال تعثر طلب العضوية الكاملة للدولة الفلسطينية أن يتم الانتقال مباشرة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على العضوية ولو بالصفة المراقبة، لأن الموضوع برمته لا يتعلق بالمكانة الدبلوماسية للدولة بل لخلق إطار سياسي وقانوني يعيد النظر بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وقف معايير وقرارات الأمم المتحدة. وبالتالي، فإن البحث عن حل سياسي لهذه القضية سيخضع لاستحقاقات الشرعية الدولية بحيث يتم دحر الخطاب الإسرائيلي الذي يروج للأراضي الفلسطينية بأنها أراض متنازع عليها وليست محتلة كما هو الواقع الفعلي.
لقد جاء الانكفاء «الرسمي» الفلسطيني عن مواصلة معركة الاعتراف بالدولة ليعبر عن استمرار سياسة تبديد الوقت الفلسطيني الحرج، وقد أضاعت هذه السياسة على الشعب الفلسطيني عاما كاملا عاش فيه تحت عسف إجراءات الاحتلال وسياساته التوسعية، وأعطت الاحتلال عاما آخر استثمره في توسيع الاستيطان وتهويد القدس، في الوقت الذي يواصل فيه مناوراته بالحديث عن مفاوضات مشروطة باعتباراته الأمنية.
كما ألحق هذا الانكفاء الضرر بجبهة المواقف الدولية والإقليمية المؤيدة للمسعى الفلسطيني ووضعها أمام تساؤلات عن مدى جدية الجانب الفلسطيني في حال تكرار المسعى مرة أخرى على أبواب انعقاد الجمعية العامة مجددا، وهو الأمر الذي يجلعنا نؤكد على أن ما يتم بحثه في بعض الأوساط الفلسطينية حول طلب عضوية الدولة بصفة مراقب يدفع للتخوف على مستقبل المسعى الفلسطيني برمته. فما يجري الحديث عنه يتلخص في أن يقدم الجانب الفلسطيني طلب العضوية ويضعه كوديعة لدى رئاسة الجمعية العامة دون أن يطلب طرحه للنقاش والتصويت فورا (؟). على أن يتحدد في وقت لاحق موعد التصويت على الطلب. أما لماذا؟ فإن التجربة تشير إلى أن عامل الرهان على السياسة الأميركية ونتائج الانتخابات الرئاسية القادمة هو ما يحكم هذا التصرف.
لقد تحدثنا مرارا عن الموقف الأميركي «الإستراتيجي» من مسألة حل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وأشرنا إلى تعهد الإدارة الأميركية في عهد بيل كلينتون أمام رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إيهود باراك (صيف 2000) بأن لا تسمح للجانب الفلسطيني الدخول إلى الأمم المتحدة وطلب بحث حل سياسي للصراع بعيدا عن قواعد المفاوضات التي انطلقت بموجب اتفاقات أوسلو. وقلنا بأن هذا التعهد سحب نفسه إلى إدارة أوباما الذي لم يقدم للفلسطينيين سوى بعض الوعود التي سرعان ما تراجع عنها وعاد إلى الالتزام بالموقف الإستراتيجي الأميركي من الصراع وسبل حله. لذلك فإن الرهان على نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة هو رهان فاشل بغض النظر عمن يفوز فيها.
إن استمرار هذا الرهان هو أحد محددات الأزمة السياسية الحادة التي تعيشها الحالة الفلسطينية وتبقيها في حالة من العطالة لا يتحرك فيها سوى مؤشر الأزمات الداخلية على المستويات الاقتصادية والسياسية، فيما تتراجع مكانة القضية الفلسطينية على سلم الاهتمامات الدولية، في الوقت الذي ينفلت فيه الاستيطان ويستشري وتتواصل حملات تهويد القدس.
على هذا، من الضروري أن يعاد الاعتبار إلى المسعى الفلسطيني نحو الأمم المتحدة، ويوضع في إطاره الصحيح كمحور أساسي في النضال الوطني الفلسطيني وتوضع في خدمة تحقيقه جميع الوسائل السياسية والشعبية المتاحة. وفي حال استمرار غياب الإرادة السياسية لدى الجانب الفلسطيني «الرسمي» من أجل خوض هذه المعركة الوطنية العامة حتى نهاياتها المرجوة، فإن هذا يضع مسؤوليات كبيرة على عاتق الحركة الوطنية الفلسطينية من زاوية استنهاض الضغط الشعبي لتصويب المسار السياسي تجاه عملية التسوية، والنهوض بمحاور العمل الوطني الأساسية وفي المقدمة إطلاق المقاومة الشعبية ضد الاحتلال وسياساته التوسعية.
إن الوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني لا يحتمل تبديد عام آخر من التسويف والتأجيل. فبعد الانتخابات الأميركية هناك ترتيبات الإدارة الجديدة أو حتى المستمرة ربطا بأية تغييرات في مناصبها أو مسؤوليها ومهامهم. ومن ثم تمضي أشهر أخرى للنظر في نتائج أية تغييرات يمكن أن تجري في إسرائيل على ضوء الحديث مجددا عن الانتخابات المبكرة. وبين هذا وتلك يواصل الجانب الفلسطيني جلوسه على مقاعد الانتظار وتستمر حالة العطالة السياسية وتتفاقم الأزمات الفلسطينية الداخلية.
المسعى الفلسطيني يصوب الطريق باتجاه الدولة الفلسطينية عندما توضع القضية الفلسطينية في بيئتها الصحيحة ونقصد مؤسسات الأمم المتحدة وخاصة الجمعية العامة. والطريق إلى الدولة الفلسطينية يستمد بوصلته الصحيحة من البرنامج الوطني التحرري الذي يكفل إنجازه، تجسيد الحقوق الوطنية، ويسير جنبا إلى جنب مع ضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها ويكفله لهم القرار الدولي 194. وهذا الترابط ضروري لقطع الطريق على محاولات المقايضة ما بين الحقوق الفلسطينية.
شاهد أيضاً
ثلاثة شهداء بينهم عسكري في الغارات الإسرائيلية المتواصلة على لبنان
شفا – استشهد شخصان وأصيب آخرون، اليوم الأحد، في غارة شنتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي على …