الدولة الواحدة كحل أمثل للقضية الفلسطينية بقلم : محمد أرسلان علي
أثارت تصريحات السيد محمد دحلان خلال المؤتمر التنظيمي الذي عقد في ساحة غزة، وحديثه في المؤتمر حول “الدولة الواحدة” كحل بديل لحل “الدولتين” الكثير من التساؤلات في هذه الفترة بالتحديد، حول فحواها ومعناها وماهيتها. وكيف أنها ربما ستكون أقصر الطرق لعيش كافة الشعوب في هذه الجغرافيا (فلسطين-اسرائيل) بكل قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم مستندين على الثقافة المشتركة التي تكونت عبر آلاف السنين من جميعهم.
لطالما كانت ولا زالت القضية العربية الإسرائيلية والفلسطينية – الإسرائيلية هي محور الصراع في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، والتي استنزفت قوى وخيرات كِلا الطرفين المتناحرين والمتنازعين على أحقية السيطرة أو الوجود في هذه البقعة التي يعتبرها كِلا الطرفان مقدسة ولا يمكن التنازل عنها. رغم أن قدسية أي مكان تأتي بالدرجة الأولى من قدسية الانسان بحدِ ذاته، فإن انعدمت قدسيته فلا يبقى أي معنى للقدسية المكانية مهما كانت صفتها ومكانتها دينياً أو قومجياً.
هذا الصراع الذي استثمرت فيه معظم الدول والتيارات والأطراف الإقليمية والدولية وكذلك والأحزاب اليمينية منها واليسارية، القومية منها والدينية. صراع تحول إلى ظاهرة مستمرة منذ أكثر من سبعة عقود راح ضحيته عشرات الآلاف من الضحايا. ومنه تشكلت جبهات واصطفافات وتوازنات إقليمية ودولية انقسمت فيه على تأييد هذا الطرف أو ذاك. الثنائيات القاتلة التي ابتليت بها منطقتنا منذ قرون عِدة ولم نتخلص منها حتى راهننا، رغم التطور التقني والعلمي والمعرفي الذي يتغنى به الانسان. ليتم إثبات أن عقلية القبلية السطيحة ما زالت مسيطرة على القرارات المصيرية والبعيدة.
رغم أن الكل متفق على أن المنطقة برمتها تم تقسيمها إلى دويلات متناحرة داخلياً ومتصارعة خارجياً من قبل بريطانيا وفرنسا، وهي نفس الجهة التي منحت إذن تشكيل دولة إسرائيل لليهود على حساب الشعب الفلسطيني.
إذاً، هي نفس الجهة التي منحتنا إثنتان وعشرون دولة قومية على أنه من خلالها فقط سيتم القضاء على كافة المشاكل التي تعانيها المجتمعات من الناحية الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ومنها سيبزغ نور الاستقلال الوطني لهذه الشعوب، وهي نفسها التي تدعم إسرائيل في استمراريتها والحفاظ عليها من أي هجمات من تلك الدول التي شكلتها وفقاً لأجنداتها ومطامعها التوسعية. يعني مربض اللعبة لقوى الهيمنة والحداثة الرأسمالية (بريطانيا وفرنسا وأمريكا) هي بيدهم وهم الذين يحركون هذه الأطراف في نهاية المطاف.
لهذا، يجب فهم الاشتباكات الناشبة خلال القرن العشرين في منطقة الشرق الأوسط بعين سليمة بعيداً عن التحليلات الدينية والقومجية الضيقة والتي لم تتجاوز مرحلة الشعارات الرنانة، والتي لم تستطع تحقيق أية من أهدافها التي صاغتها إلا زيادة في ارسال القرابين الإنسانية لمقصلة النزعة الدينية والقومجية التي كانت تستتر خلفها.
هذه العقلية والتي ولدت من رحم الأحزاب العلمانية والقومية التي انتشرت في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى على وجه الخصوص، والتي تأثرت بانتصار الثورة البلشفية في روسيا وكذلك استيراد فكرة الأحزاب القومية التي أتت من أوروبا، لتكون عنواناً لمرحلة من الصراعات فيما بينها وبين التيارات الإسلامية التي ما انفكت تدافع عن وجودها والحنين إلى السلطة بعد زوال واضمحلال الخلافة العثمانية التي كانت تشكل بالنسبة لهم الحضن الدافىء الذي يحلمون من خلاله بالعودة لقيادة المجتمع.
من الصعب استيعاب الواقع بعيون سليمة من دون إدراك واقع العبرانيين تاريخياً واليهود راهناً على أنهم مجرد قوم أو مجموعة أثنية، إنما يحتوي أخطاء كبيرة. من الأهمية تقييمهم كمصدر ثقافي أساسي ذي أصول شرق أوسطية، لكنه في نفس الوقت مصدر يؤثر في العالم أجمع. ونقصد تقييمهم ثقافياً أي من الناحية الأيديولوجية والمادية. وبنفس الوقت يجب الابتعاد عن المغالاة في وصف اليهود على أنهم القوة المتحكمة بزمام العالم (شعب الله المختار)، أو أنهم مصدر كل شرّ يحصل في المنطقة. الابتعاد أو الامتناع عن سلوك هذا النمط من المبالغات ربما يفتح الأبواب أمامنا لحل الكثير من المشاكل المنتشرة في المنطقة. وبالمقابل تحديد الصراع على أنه ديني (إسلامي – يهودي) بحت أوصل المنطقة لحالة من التناحر الذي لا حلّ فيه بتاتاً.
استثمار الصراع من قبل الأحزاب القومية اليسارية منها واليمينية وكذلك الأحزاب الدينية من كِلا الطرفين، جعل منه يمتد حوالي سبعة عقود ولا حل يلوح في الأفق حتى الأن رغم شدة هذا الصراع ونتائجه المهولة على كافة الأطراف من حيث الضحايا والمعتقلين والمهجرين.
التقرب حتى الآن من أجل القضية الفلسطينية – الإسرائيلية زاد من حِدة العنف وأدواته التي لا مصلحة لها في حل هذه القضية والتي حولتها إلى تجارة مربحة على حساب الانسان، وكل ذلك تحت ستار ديني وقومجي مقاوم. رغم الاتفاقيات المبرمة وجولات المباحثات التي تمت وبرعاية أممية إلا أننا لا زلنا أمام تراجيديا نشهدها يومياً على أن معظم الحلول التي تم طرحها غير متوافقة وحقيقة الجغرافيا والثقافة في المنطقة. فلا حل الدولتين سيكون جالباً للاستقلال والرفاهية التي يتخيلها الكثير ممن يدعون أو يصطفون إلى جانب الفلسطينيين. لأنه تأكد أن النخب المتحكمة في القرارات من الطرفين ليست مع هذا الحل. حتى أنه بعيد عن الواقع الذي سيؤدي إلى بناء تلك الدولة المنشودة والتي لم يعرف عاصمتها حتى الآن. إنهم يريدون حل الدولتين ورسم الحدود التي ستقسم ما كان مقسماً بالأصل، ولكن الأمر الهام الذي لن يجعل هذا الحل ممكناً هو العاصمة؛ ستكون تحت سيطرة من؟ فلا الفلسطينيين يوفقون على أن تكون القدس “أورشليم” ولا اليهود يقبلون أن تتحول أورشليم إلى “القدس”. لذلك حسب رأيي أن من يصرّ على هذا الطرح يسعى إلى أن تمتد حالة عدم الاستقرار واللا حل لهذه القضية التي يتاجر فيها.
إن القضية الفلسطينية متشابهة جداً مع القضية الكردستانية التي لا زالت مستمرة حتى الآن من دون حل كردستان تم تقسيمها
بين أربعة دول شديدة المركزية للسيطرة عليهم من قبل الكرد واستخدامهم كورقة للسيطرة على هذه الدول، هي نفسها الجهة التي منحت فلسطين للاسرائيليين. أي أن اللعبة نفسها يتم تسييرها على الشعبين الفلسطيني والكردي، اللذين أصبحا ضحية تقسيم المنطقة من قبل قوى الحداثة الرأسمالية وشكلت دويلات قومية ودينية على حساب هذين الشعبين. فمنطق تشكيل الدولة القومية لا زال يدغدغ مشاعر البسطاء من الشعب بعد أن تم وضع ألف قناع وقناع عليه لإظهاره بحالة من القدسية. وتك تحويل الدولة إلى مذبح يتم تقديم الشعب قرابين من أجل رضا الدولة والسلطة عنهم. فمن أجل تشكيل الدولة يتم الزج بالشعب على مذابح التعصب الديني والقومجي، بعد أن تكون النتيجة عشرات الآلاف من الضحايا تم تقديمهم كقرابين لهذه وتلك المصطلحات بعد أن تم وضع هالة من القداسة عليها.
لهذا وضع السيد أوجلان فلسفة جديدة لحل هذه الإشكالية والقضية الشائكة والمعمرة منذ قرن من الآن. حل العيش المشترك واللا مركزية “الفيدرالية المجتمعية” والبعيدة عن المنطق العرقي والديني والاثني، ربما تكون الحل الأمثل لحل الكثير من المعضلات والقضايا التي تحولت إلى عقد كأداء لا يمكن فكها وحلها بتاتاً. فنتيجة التعصب القومجي المصاحب لتشكل الدول الأربعة (تركيا-سوريا-ايران-العراق)، والتي لا تعترف بوجود الكرد على أرضهم التاريخية، كانت الحروب والاقتتال هو العنوان الرئيس لقرن كامل من المجازر والتهجير والثورات التي قمعت بأبشع صنوف الأسلحة والتنكيل والاعتقالات والتهجير لأكثر من عشرة مليون كردي من وطنه كردستان.
وبكل تأكيد أن الطرح الذي طرحه السيد محمدحلان “الدولة الواحدة في نظام لا مركزي” في المؤتمر التنظيمي لساحة غزة ربما يكون الحل الناجع للخروج من هذا المستنقع الذي أنهك الجميع. إنه طرح عقلاني مقارنة بالأطراف التي لا زالت تطرح حل الدولتين الذي لن يرّ النور مهما تشدقت به بسبب إصرار الطرفين على عقليته في الحل. وأعتقد أن طرح السيد محمد دحلان سيربك الكثير من الأطراف والتيارات الإسرائيلية والفلسطينية التي كانت تتاجر بهذه القضية وتسعى لاستمراريتها. وأعتقد أن هناك الكثير من الشعبين اليهودي والفلسطيني الذي سئم هذه الحرب ويبحث عن وضع حلول لها لينعموا بالهدوء والاستقرار بعد عقود من الحروب والاغتيالات والتهجير والخوف. وهذا الطرح الذي طرحه السيد دحلان يلزمه الكثير كي يتحول إلى رؤية وتصور قابل للحل عند كافة الأطراف. واعتقد قبل كل شيء هو إعادة التفكير بأسباب هذه القضية بعيداً عن التعصب الديني والقومي عند كلا الشعبين، والبحث في الخلفية التاريخية والثقافية التي كانت تجمعهما والتي كانت سبباً لثقافة مشتركة لا يمكن الفصل بينهما تحت أية حجة كانت أو شعار قومجي
فهل سيلقى تصريح السيد محمد دحلان آذاناً صاغية للخروج من مأزق الصراع ومستنقع التناحر الذي لم يعد له أي معنى ونحن في الربع الأول من الألفية الثالثة. ورغم ما تشهده المنطقة من فوضى تضرب الكثير م الدول والتي حولتها إلى أشباه دويلات فاشلة نتيجة تعنتها وإصرارها على عقليتها القومجية والدينية العرجاء والعقيمة والتي لم تنتج أية حلول لأية مشكلة تعانيها المنطقة من كافة النواحي.