«أيار التشريني» بقلم : د. شهد الراوي
عاشت بغداد، يوم الثلاثاء الماضي، واحداً من أيامها المتناقضة، حيث أشرقت الشمس الحارقة على وجوه الشباب والشابات المليئة بالأمل والغضب، وهم يتوافدون عليها من مختلف المحافظات ومعهم سؤال في غاية الوضوح، حمّله إياهم أصدقاؤهم الشهداء: من قتلني؟
مرة أخرى كان العلم العراقي سيد الموقف، وعادت ساحة التحرير، ومعها ساحة النسور هذه المرة إلى ترديد الأغاني التي تدمع لها قلوب العراقيين قبل عيونهم، ويتكسر صداها مع تدفقات النهر.
وقبل أن تتراجع الشمس في الأفق البعيد، عاد القتلة أنفسهم في مباغتة هوليودية لقتل سؤال: (من قلتني؟)، ليعلنوا بوضوح أنهم القتلة الذين لا يزعجهم شيء كما تفعل الأغاني والأناشيد الوطنية، ولا يدمر مزاجهم شيء مثل رؤيتهم ألوان العلم العراقي الناصعة.
قتلوا يوم الخامس والعشرين من أيار، كما اغتالوا أيامنا كلها.. سقط الشهداء والجرحى وخيم المساء الثقيل ليخفي دموع العراقيين، ويتستر على نشيجهم الذي لم ينقطع.
وفي كل ليل معتم، تظهر الخفافيش السوداء من أوكارها لتلقي اللوم على الشهداء، ليس لذنب اقترفوه سوى أنهم أحبوا هذه البلاد، وأعادوا لها الروح، وصنعوا هويتها الجديدة، وكتبوا أهم الفصول في رواية الدولة الحديثة.
هؤلاء الذين يقفون مع القتلة، ويصطفون معهم، ويشاركونهم نشوة الانتصار على الشباب العُزَّل، هم من يهيئون مسرح الجريمة بالتبريرات، ويمنح القاتل حرية إطلاق الرصاص الحي، هم، بإرادتهم أو بدونها، جزء من آلة تكميم صوت الوطن، وهم أيضاً من يمنع الإجابة الصريحة على السؤال الكبير: من قتلني؟
القتلة في العراق ليسوا أشباحاً، فهم يمارسون هواياتهم تحت عدسات الكاميرات ويتحركون أمام أعين الحكومة، بل منهم من هو عضو الحكومة نفسها.
نعم، صعدت أرواح الشهداء إلى السماء ومعها أنين الأمهات الثكالى، وعاد الشباب إلى بيوتهم الموحشة من دون أصدقاء، بعد أن ودعوهم إلى المقابر، لكن قصة الوطن لم تنتهِ، لقد بذروا الأرض بالفكرة المقدسة التي لا تموت.
قد يطيل الرصاص من عمر «الكراسي» لكن الأوطان لا تموت من صوت البنادق، وأن الأفكار لا تسقط بالتقادم.. الأفكار تطير بلا أجنحة تماماً مثل أرواح الشهداء، وتشرين هو صراع إرادة الأمل ضد اليأس.
لقد منحتم الأمل لهذا الوطن، فتوقفوا عن الذهاب إلى الموت مرة أخرى، فنحن من دونكم: «لا نريد وطناً».