النميمة التي شكلتنا ، بقلم : د. شهد الراوي

النميمة التي شكلتنا ، بقلم : د. شهد الراوي

يفترض «نوح هراري» مؤلف كتاب «العاقل» أن الإنسان اخترع اللغة، واضطر إلى تطويرها أيضاً لتصبح مطواعة من أجل تبادل النمائم فقط.
وزعم أن أهمية تقصي أخبار الآخرين وصفاتهم الشخصية لدى أسلافنا القدماء، تتفوق عندهم على رغبتهم في معرفة أماكن تواجد الأسود المفترسة، التي تشكل خطراً على بقائهم، أي أن حاجتهم لتكوين علاقات تُعرِّف نفسها عبر نبذ الآخر، هي الحافز الرئيسي الذي يضمن بقاءهم كمجموعة بشرية.

وتؤشر بعض الأبحاث التي يتبناها هراري إلى أن أسلافنا الغابرين واجهوا بعض المشكلات في بداية الأمر، مع صعوبة تطويع اللغة في الحديث خلف ظهور بعضهم البعض.

بعد ذلك، أتاحت المهارات اللغوية الجديدة، التي تطورت قبل حوالي 70 قرناً، تبادل النمائم لساعات، وأدت آلية النميمة إلى تنظيم المجتمعات الإنسانية.

وتؤكد «نظرية النميمة» في علم النفس التطوري أنها أداة اجتماعية لبناء العلاقات بين الأفراد، ولم يكن هدفها الانخراط في حوارات هادفة.

وبالرغم من معرفتي هذه بضرورة النميمة في تكوين المجتمعات القديمة، فإن هذا لم يؤثر على شعوري بالنفور الواضح من هذه الممارسات، وقد بدأتُ، وبشكل فعلي، ازدراء هذا النوع من الجلسات حين قرأت رواية «صباح الخير أيها الحزن»، والتي تأثرت ببطلتها سيسيل، حيث عانت من وخزة ضمير أبدية، ظلت تلاحقها كل صباح حزين بسبب النمائم التي مارستها ضد «آن» عشيقة والدها، التي فقدت حياتها بسبب طبيعة سيسيل النزقة والتواقة لتهشيم كل ما يقف في طريق حريتها.

ومنذ ذلك الحين بدأت أنتبه إلى البشاعة والنتائج الكارثية، التي تنتج عن فعل النميمة في تشويه سير تاريخية وشخصية على حد سواء، وبالرغم من أنها إحدى حاجات الكائنات الاجتماعية، وبسبب من وظيفتها القديمة في تكوين سيكولوجية الإنسان، أصبحت النميمة تسبب حالة من المتعة أثر تراكم ممارستها منذ أسلافنا حتى اللحظة، لكن السيطرة عليها هي ممارسة إنسانية حديثة، نقاوم فيها ما ورثناه من الإنسان القديم وعاداته البدائية.

التحضر المدني يتلخص في الممارسات التي هي ضد كل ما هو مدمر لحياة الآخرين.. فكم من «آن» ذهبت ضحية النمائم المسلية، وكم من سيسيل، لا تزال حتى اللحظة تختنق وتعيش داخل الرسائل الخاصة، تدمر نفسها والعالم ببطء من حيث لا تعلم.