منزل البدايات ، بقلم : د. شهد الراوي
ولدتُ في الأول من فبراير، وولادتي المعنوية كانت في ذلك البيت الذي انطلقت منه إلى عالم الكتابة.. العالم الذي بدأ يتشكل في خيالي قبل أن يتحقق في الواقع.. «كراجه» هو الأفق الواسع الذي كنت أرسم في فضائه آمالي الكبيرة، لقد طبعت تلك الجدران حضورها في روحي، وعرفت ملمسها، ورائحتها، وعدد النتوءات التي تنتشر عليها، فأنا صديقة الأبواب والشوارع.. الصَّبِيَّة التي خططت الرصيف كله بالطبشور ثم قفزت من فوقه.
في ذلك البهو، مثلت دور شريهان في الفوازير، وبين تلك المشابك، رددت أغاني نيلي بمرح لا مثيل له، وحفظت تاريخ الثورات وجغرافية البلاد وأنا أخطو في المكان ذهاباً وإياباً.. تسلقت شجرة التين، وتحت تربتها دفنت عصفورة تهاوت عن عشها.. طاردت الفراشات، وقطفت آلافَ الورود صباحاً كي أهديها إلى معلماتي.
في المنزل ذاته، بكيت كثيراً من أجل علاماتي المدرسية!، وفيه قرأت الأدب وأحببت الكتابة، وفتحت مساحاتٍ للخيال.
في رأسي، بدا لي المكان أكبر والنوافذ أوسع وأشجار النارنج أكثر كثافة، ومنذ أن غادرته مرغمة بدأت رحلتي الحقيقية مع تجربة الكتابة.
كل شيء كتبته كان لأجل البيت الأول، وكل الحنين الذي يجثم على صدري يبدأ منه.. ذلك المكان هو بدايتي، ويوم ولادتي، والحقيقة الوحيدة التي أعرفها، وهو التقويم الرسمي في حياتي.. نقطة بداية العالم، وإن أصبحَ اليوم غريباً، ستظل شمس روحي تحميه من برد الغربة التي يعيشها.
في الملحمة الإغريقية عادَ «يوليسيس» إلى مسقط رأسه إيثاكا بعد 20 عاماً من الفراق، ولولا أنه شاهد شجرة الزيتون نفسها التي ألفها في طفولته في المدينة، ما كان قد ابتهج بعودته.
حين زرت هذا المنزل بعد 19 عاماً من الفراق، لم تجرحني الأحراش والنباتات السامة المنشرة فيه، ولم يخنقني الغبار الذي يجثم على وجه الزجاج، ولم تشطر روحي شجرة الغاردنيا المبتورة من مكانها.. لقد احتضنت صورته في قلبي، وقبلت هذه الأطلال التي سمحت لي باللعب والقراءة والحب معاً.
أهدتني هذه الزيارة غير المخطط لها عاماً استثنائيّاً أيضاً، أستطيع أن احتفل بهِ ما حييت، لقد بثت النور في قلبي من جديد، وردمت كل فجوات الاشتياق التي كانت تسحبني إلى اليأس، ولأن شجرة ما هنالك لا تزال باقية.. سأظل باقية على العهد من أجلها، وابتهج في عيد ميلادي.