غادَرَنا فجأةً ورحل ، بعدَ أن تركَ لكلٍ منا شيئاً للذكرى ! .. استغربنا من تصرفه الغريب هذا عندما وجدنا أسماءنا مكتوبة على ما تركهُ لنا . وحصتي من ارثِ زوجي ” سجل أحمر ” ! سجلٌ دوّنَ فيه مذكراته .. تلك المذكرات التي حاولت جاهدة أن أعثر عليها بوجوده .. ولم أفلح ! وهو الذي كانَ يغلقها كلما دخلتُ عليه غرفة المكتب .. كان يرتبك _ رغم قوة شخصيته _ مثلَ طفلٍ ضُبطَ وهو يرتكب ذنباً !
لأقرأ إذاً .. !
* * *
في داخل كلٍ منا يسكن حلم صغير .. يكبر يوماً بعد آخر .. ولا يموت ! .. ولكلٍ منا فتاة أحلام .. ربما لا نقابلها العمر كله ، لكنها تبقى تلمع في الذاكرة كنجمة ! .. وإني ككل رجل كانت لي فتاة أحلام أتمناها بمواصفات خاصة تروق لي وحدي ، وقد لا تروق لغيري .
مضتْ عشرونَ سنة وأُعقبتْ بعشرٍ أُخرى .. ولم أرتبط ! لأني _ وبكل أمانة _ لم أجدها .. لا في الجامعة ولا في مجال عملي ولا حتى في سفراتي وأنا أجوب بلاد الأرض !
آلاف النساء حولي ولا أجد مبتغاي .. أيعقل ! .. سألتني أُمي : ماذا لو لم تأتِ هذهِ التي تحلم بها ؟ وتحت إلحاحها تزوجت ابنة خالي . ليسَ فيها أي شيء مما حلمتُ به ، إلاّ انها امرأة فاضلة احترمتني واحترمت بيتي ، وحتى خصوصياتي !
قابلتُ بعض النساء مَنْ كان فيهن جزء من أحلامي ، ولكن لم تكن كاملة فتنتهي علاقتي بهن . لي كل شيء .. بيتي ، زوجتي ، أولادي ، مركزي المرموق .. ولم أكن سعيداً !
كسمكةٍ ملونةٍ دخلتْ مياهي الدافئة .. دخلتها صدفة .. وما يجمعنا بالأشياء الجميلة .. الصدفة ! فيها كل ما حلمتُ به .. لكن ، قبل عشرينَ سنة ! كمن يبحث عن خاتمٍ أضاعهُ في صحراء ووجدهُ فجأةً ! هل أغلق الباب بوجهِ الحب وأهرب منه ، وأقول له : جئت متأخراً أيها الحب ؟!
يُفتح ذلك القلب الذي أغلقتهُ منذ زمن ، يُفتح من جديد كما تتفتح الوردة تحت قطرات الندى . وجدتُ نفسي منجذباً إليها بقوة لا تقاوم . كانَ وجهها بحدِ ذاته لوحة رائعة التكوين .. أما عيناها فكانت سماوات صافية يكفي أن تنظر إليهما لتتساءل : ما ذلـك الشـيء
الذي قضيتُ عمري كله أبحثُ عنه ؟!
يعجبني ترقبها .. كل ما فيها رقيق ، هادئ .. حتى عندما ترفع كوب الشاي بأناملها الرفيعة ، ترفعه ببطء إلى شفتيها اللوزيتين .. وددتُ لو باستطاعتي لمس تلك الأنامل ! كيفَ لي أن أصفَ جمالاً يحوي غموضاً بقدر ما يحمل من رقة .
تتكلم بتلقائية عذبة .. واكتشفتُ بأنها مثقفة جداً .. وتُعلقْ على المواضيع بتذوقٍ مرهف. فتاة تختلف كل الاختلاف عن كلِ مَنْ عرفت .. ورغم صغر سنها إلاّ أنها توازيني فكراً ووعياً وتتصرف بذكاء ، وذكاؤها كانَ صفة فيها .. طبيعياً فيه الكثير من الحنان والطيبة .
جميلة كدمية .. لها ابتسامة مضيئة .. أشعر بالنور يغرق المكان كله إذا ابتسمتْ .. ملامحها الهادئة ، البريئة تجعلني أحس بالاطمئنان القريب من الرضا .. بالدفء الذي يثيره الهدوء . وشعرتُ بحبها في عينيها التي تشع بالفرح .. هذا الفرح تعجز الكلمة أن تُعبر عنه !
بوجودها تحول العمر إلى فردوسٍ كبير . وتمطر الدنيا غبار أنجمٍ تتفتت كلما التقيتُ بها .. وأصبح حبها واحة أرسلت بظلالها في صحراء حياتي ، منحت النفس الدفء بعدما كانَ الصقيع معششاً فيها .. كضوءٍ أنارتْ أيامي الرتيبة فامتلأت لحظاتي بالنعومة والشفافية .
وحققت لي الأيام ما تأملتهُ ، فكانت مثل ما رسمها خيالي ولونتها أحلامي .. لكن ، متى ؟ .. بعد عشرين سنة !
اتفقنا على الحب بصمت _ في البداية _ ودونَ أن تكون هناك مصارحات أو إيحاءات .. وبدأتُ معها أستعيد مراهقةً أضعتها .. فلا يخجلني أن أتصل بها .. ففي داخلي تكمن رغبة شديدة في أن أُحدثها .. أنفض لها ذاتي .. ويأتيني صوتها عبر الأسلاك .. هادئاً ، مثيراً كالغابة !
لو تزوج الشاعر المرأة التي يحب يموت الشعر عنده ويحيا الحب ، وبالعكس .. وفي كل مرةٍ .. مات الحب فيَّ وعاش الشعر .. لكن هذهِ المرة أردتُ أن يحيا الحب ، وليذهب الشعر إلى الجحيم !
تصغي إليّ بلهفة شديدة .. ارتسمتْ بشكل واضح على محياها .. فقلتُ لها بصدقٍ وخوفٍ ومباغتة :
_ تتزوجيني ؟!
ورفعتُ سبابتي إلى شفتيّ مشيراً لها بالصمت .. فشردت عيناها قائلة وبصوتٍ أقرب إلى الهمس :
_ لكن !
وصمتتْ .. نظرتُ إليها .. توقفتْ وكأنها نسيتْ كل ما حولها .. عادت ونظرت إليّ .. وجدتُ تقاسيم وجهها وقد تبدلت .. وارتسم على ملامحها الجد في الحال .. رأيتُ الجواب في عينيها .. فأسقطت عن كاهلي كل ذلك القلق الذي كنتُ أتعثر به .. وقالت بدلال :
_ رغم كل شيء ، إلاّ اني سعيدة بك ملءَ وجودي .
اقتربتُ منها .. شعرتُ بدفءِ أنفاسها ، ورائحة عطرها .. اقتربتُ أكثر .. ونسيت العالم وما فيه .. إلاّها !!
كُليزار أنور