“وحلمت أن ما اعتبرته الواقع كان حلما، والحلم واقعاً”. تشيخوف.
فتحت عينيها وهي مستلقية على السرير، نظرت إلى ساعة على المنضدة المجاورة، إنها الخامسة فجراً، كان حلماً غريب النكهة، يقال إن أحلام الفجر تتحقق نبوءاتها…
و عت رداء خفيفاً فوق رداء النوم, غسلت وجهها ثم أخذت مفتاح البيت ومنظاراً يعمل بالبطارية وكيساً صغيراً، أغلقت الباب خلفها وغادرت..
الخطوة هي التي ترسم الفكرة ولا ترسم الفكرة خطوة! الألق دائماً في الخطوة. الفكرة مجردة لا حياة فيها، والخطوة هي كل الحياة ترقص حيناً، وتتباطأ أحياناً أخرى، لكنها تنبض دائماً..
أين موقع زقزقة طيور الصباح و أين ظلالها؟ هناك عش للحمام فوق تلك الشجرة خلف الحديقة، ما إن عثرت عليه حتى فتحت المنظاروخفضت بصرها، الر ؤية هي ما تراه الروح لا العيون فقط، بد أت تجمع الريش المترامي بهمة ونشاط الخطا التي تدفعها، أكملت البحث في الاتجاه نفسه، انتقلت يميناً و شمالاً، لالتقاط أكبر كمية من الريش المتهاوي بلا جدوى. بدا الريش سعيداً بين يديها كمن ينتشل طفلاً من الضياع أو هاوية الريح، وفي غمرة اندماجها وجدت نفسها تمشي في الشارع. بعض الاختراعات جميلة ومغرية، كا لأ طفال حين يخترعون أمراً أو لعبة جديدة يستمتعون بها. أشعة الشمس المبكرة غلفتها بهالة كأنها ملاك مضيء بذاته، لم تبالِ بنظرات المارين وفضولهم. ها هم الصغار يتوجهون إلى مدار سهم، كل يحمل حلمه في حقيبته ويم ضي، ساورها هاجس: لماذا لا يطلقون سراح تلك الأحلام؟ خطوة أخرى تقترب نحوها، الطفلة أمل ابنة جارتها تقطع عليها أفكارها:
صباح الخير خالتي عن أي شيء تبحثين، هل أ ضعت إبرة ما هنا؟
هل تريدين أية مساعدة؟.
صباح الورد ياصغيرتي، لم أ شعر بالوقت ف أنا منذ الفجر أقوم بجمع الريش..
تفتح الصغيرة عينيها بإعجاب:
الريش يا خالتي لماذا، ما الذي ستصنعينه به؟.
تواصل سحر بحثها وتنقيبها في المكان، وترفع رأسها للصغيرة متألقة بجدية خطواتها:
نعم أريد جمع الريش أحتاجه يا صغيرتي.. هل ستساعدينني؟.
جمع الريش! تروق الفكرة للصغيرة أمل، التي تقول: حسناً لن أذهب إلى المدر سة.. سأبقى معك أجمع الريش.. كم هو جميل منظر تلك الريشات بين يديك.
لا يا حبيبتي، فقط إن كان عندك بعض الوقت حاولي البحث عنه قبل أن يحين موعدك فلن أقبل تركك اليوم للمدر سة..
ترمي الصغيرة بثقل أحلام حقيبتها أرضاً، وتدفع بيديها نحو الأ سفل وتقفز:
لا.. لا..لن أذهب إلى المدرسة.. سأجمع معك الريش ثم إن جدولنا المدرسي اليوم ليست فيه دروس مهمة، فقط در س الريا ضة والرسم والقصة، بالله عليك لا تقولي لأمي، لن أذهب دعيني أجمع الريش معك..
حسناً حسناً يا أمل إذاً هيا ابحثي معي يجب أن نجمع أكبر كمية من الريش!.
تتحرك سحر و أمل في اتجاهات مختلفة، بحثاً عن الريش المغترب، من يعيد الغريب إلى الوطن؟ لابد من جوازسفر، وعناء، وخطوة أيضاً.
أخذت سحر كل الريش من كف الصغيرة أمل و أودعته داخل الكيس، وودعتها شاكرة بقبلة…لكن الصغيرة العنيدة أ صرت على السؤال:
أرجوك يا خالتي أخبريني ما الذي ستصنعينه بالريش هذا؟.
فضول الطفولة لا ينتهي، حتى أجابتها سحر بأول أمر خطر ببالها: لا شيء يا عزيزتي، فقط أملأ وسادتي به، لعل الوسادة تطير!..
أمل لم تفهم: و سادة تطير كيف! لكن كما تشائين يا خالتي، و شكراً لك على كل حال لقد تمتعت حقاً بجمع الريش معك…
تغيب أمل عن ناظري سحر، التي عادت تفتح باب بيتها، وتنثر كل الريش الذي جمعته على المنضدة أمامها، لاحظت أمراً عجيباً.. الريش كله ذو لون أبيض، هل هي صدفة؟!
قامت بتنظيف الريش من التراب العالق به، غبار، غبار، ثم بهاء ونقاء، رشت عليه قليلاً من عطرها المفضل، وبعض العطور متحركة أو ذات أجنحة، سعادة بريئة غريبة من نوعها، كمن يقوم بتلوين لوحة بألوان جديدة على تاريخ الر سم, أو كمن يخلق وطناً جديداً ، صوت فيروز يشدو بالمذياع:
دخلك يا طير الوروار….
انتظرت بعض الوقت حتى يجف الريش، انتظار بزوغ الوطن متعب.. كم هو متعب، لكن الفكرة تقيم فيها، جلبت خيطاً و إبرة ناعمة كي لا تجرح الريش، ووزعت الريش في مجموعتين متساويتين، صفت ريشات كل مجموعة بتنا سق و أناقة حسب أحجامها وخاطت منهما جناحين..ما أن انتهت حتى صفقت لنفسها كمن حقق إنجازاً هائلاً وخاطبت نفسها:
يا إلهي لقد تمت المهمة بنجاح..كم من خطوات صغيرة تجلب فرحة بلا حدود.
إنها الثانية بعد الظهر، بد أت تستعد، ارتدت ثوبها الأخضر، وقفت أمام مر آتها، لم يعجبها الثوب الذي ترتديه فا ستبدلته بالثوب ذي الورود الملونة، كما لم يرق هذا لها فاستبدلته أخيراً وا ستقرت على الثوب الأبيض الطويل.. إنها تتقبل هيئتها في المرآة الآن، و ضعت قليلاً من أحمر الشفاه، تزينت بأ ساورها الملونة، تركت شعرها منسدلاً، ووضعت قرطاً متدلياً يغطي نصف رقبتها..تخيلت نفسها غجرية خارجة من الصحراء الإسبانية سيما حين غرست وردة حمراء في ثوبها، حاولت أن تؤدي رقصة الفلامنكو فوقعت ضاحكة، وقبل أن تخرج و ضعت الجناحين اللذين خاطتهما في كيس صغير..
بدت لها أرواح النا س جميلة. لم تكن قبلاً تشعر بجمال هؤلاء البشر، بل إن السماء تبدو لها الآن أعجوبة بديعة كأنها لم ترها قبلاً.. حتى و صلت إلى المقهى. هناك في تلك الزاوية كان يجلس هو ….
راقبته من بُعد، فيما هو منهمك بقراءة جريدته، بدا لها فارساً خارجاًً من العصورالوسطى للتاريخ، تود أن تختزن التفا صيل الدقيقة لهيئته. التمعت عيناها، تلألأت، خطت نحوه وفي كل خطوة قَدَرٌ من دلال الخجل الأنثوي المغلف بروح بالغة المرح، ما أن وصلت نحوه حتى همست مساء الخير.
رفع عينيه الصغيرتين، بدت له فراشة هاربة من حقول مغتصبة، وقف و صافحها كحقل آمن ا ستقبل فرا شته المنتظرة، جلست أمامه:
كيف حالك اليوم؟ قلقت كثيراً عليك بالأمس و أنت تحدثني عن بعض شجونك.
لا تقلقي يا حبيبتي أنا بخير. هذه الحياة عبث في عبث حتى شجونها لا طائل منها، وهذا الوطن صار يكسر خطواتنا!.
فتحت سحر كيسها الصغير، و أخرجت الجناحين منه، واختصرت ضحكة عمر كامل بلحظة، زقزق فيها عصفور، وقفت خلفه ومن ثم وضعت الجناحين على رأسه!….
بالله عليك يا سحر ما هذا؟ ما الذي تفعلين؟
قال ذلك وهو يقهقه وقد هزه الانفعال حتى غا صت عيناه في محجريهما، حرك رأسه بعد تثبيت الجناحين عليه, بدا حقاً كطائر يرفرف جناحاه فوق رأ سه..
جلست قبالته بابتسامة هادئة: والله تبدو في منتهى الروعة لقد قمت بتحويلك إلى طائر نادر جداً، لا مثيل له في الوجود، طائر جناحاه في رأ سه عوضاً عن صدره.. أ شارت إليه نحو تلك الحمامة التي تقف في الزاوية..
ألا تصدقني؟ حتى هذه الحمامة صارت تغار منك وتبحلق فيك، تدري حتى الحمام له شجون لا يعرف الخلا ص منها!
سحر هذا الذي يحدث بيننا عجيب حقاً.
يا عزيزي, همومك التي حدثتني عنها بالأمس أرقتني، وفكرت بأن أحسن سبيل للخلا ص منها أن أصنع لك بيدي جناحين في رأسك، فتطير منه كل الهموم حيث لا عودة. ثم حركت كف يديها لتدفع الهواء نحوالجناحين:
هيا هيا أيتها الهموم اخرجي من رأ س حبيبي..
أخرج لها من خلف ظهره لوحة فنية بدت مذهلة قائلاً: انظري يا سحر قضيت الليل و أنا أرسمك متخيلاً أنك تجمعين الريش مع طفلة صغيرة…هل حقاً كانت معك طفلة؟!
التقت نظراتهما وتوحدت عيونهما صارت لشخص واحد، وطن واحد، بل إن الوجهين أ صبحا وجهاً واحداً..
وحارت سحر بعدها: أكانت اللوحة في الحلم، أم الحلم في اللوحة؟!.
رغد السهيل