الاستيقاظ الوحشى للتاريخ بقلم : د. عبد المنعم سعيد
لم يكن احتفال تركيا بالذكرى الثامنة والتسعين لمعركة سميرنا Smyrna عام 1922 الحاسمة فى استقلال الدولة التركية إلا استدعاء للتاريخ فى لحظات تريد لها القيادة فى تركيا أن تلهب حماس الجماهير للاستعداد لمواجهات تاريخية جديدة. وقال الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى رسالة بمناسبة يوم النصر: إن نضال تركيا من أجل الاستقلال والمستقبل مستمر اليوم أيضًا. ليس من قبيل المصادفة على الإطلاق أن أولئك الذين يسعون إلى استبعادنا من شرق البحر الأبيض المتوسط هم نفس الغزاة الذين حاولوا غزو وطننا منذ قرن مضي. ولم يكن تاريخ ما بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية هو ما تم استدعاؤه فقط، وإنما ما قبل ذلك أيضا حيث جرى استحضار التجربة فى ثوب جديد هو العثمانية الجديدة لعلها تعطى لتركيا الحديثة نصيباً وحظاً فى كل دول اليوم التى دانت يوما لسلطة الباب العالي. لم يكن هناك فى أى من ذلك حديث عن القرن الواحد والعشرين، ولا حتى عن التجربة المشتركة والقريبة لليونان وتركيا داخل حلف الأطلنطي، ولا بالطبع للتجربة البعيدة التى كانت فيها الإمبراطورية الهلينية حاكمة لغرب تركيا حيث جرت الإلياذة وأسطورة طروادة الشهيرة، ولا حتى للإمبراطورية البيزنطية التى أقامت كاتدرائية صارت فيما بعد مسجد آيا صوفيا. حرص أردوغان أن يعيده إلى ما قبل عام 1934 عندما جعله أتاتورك أثرا مشتركا إسلاميا ومسيحيا للدلالة على علمانية تركيا وتسامحها. اختلط الدين مع التاريخ، والتاريخ القديم الذى شهد عهودا ذهبت فيها اليونان إلى تركيا مع الحديث الذى استعمرت فيه تركيا اليونان، وهذا الأخير مع المعاصر الذى كانت فيها تركيا العثمانية طرفا فى الحرب العالمية الأولى وتحاول الحياد فى الحرب العالمية الثانية، لكى يشعل النار ويقيم السخونة الكافية لكى تبدأ حرائق جديدة فى منطقة كثر فيها الدخان واللهب.
فى الأسابيع الأخيرة، شاركت القوات التركية واليونانية فى سلسلة من التدريبات العسكرية فى البحار بين قبرص وجزيرة كريت اليونانية . اندلعت المواجهة عندما أرسلت تركيا سفينة أبحاث مصحوبة بسفن حربية للبحث عن احتياطيات الغاز والنفط. وترى اليونان، وهى عضو فى الاتحاد الأوروبي، أن المياه هى جزء من جرفها القارى وقد حشدت دعم الكتلة الأوروبية التى تضم 27 دولة، والتى أدانت الأنشطة غير القانونية لتركيا وحذرت من احتمال فرض عقوبات على أنقرة. وتقول تركيا إن اليونان ودولا أخرى تنكر حقها فى التنقيب عن موارد الطاقة فى البحر المتوسط فى الوقت الذى لا تجد تبريرا لهذا الحق بالتوقيع على الاتفاقية الدولية لقانون البحار لكى يكون ممكنا تصور السند القانونى لما تدعيه تركيا من حقوق.
طبول التاريخ هنا تكفى القيادة التركية، وهو ما نجده فى الاستدعاء الإثيوبى للتاريخ بصورة أخرى عندما أدانت كل الاتفاقيات الخاصة بمياه النيل ( 1902، 1929، 1959) على أساس أنها جرت خلال الفترة الاستعمارية دون اعتبار لا لحقيقة أن إثيوبيا كانت دولة مستقلة طوال زمن هذه الاتفاقيات، ولا لحقيقة أن حدود إثيوبيا الحالية كلها قامت على خطوط جرى رسمها خلال الفترة الاستعمارية، ولا لحقيقة أن إثيوبيا لم توقع على قانون الأنهار الذى يسمح بتقنين وتنظيم عمل الأنهار الدولية والتى جرى تطبيقها فى مناطق مختلفة من العالم.
هذا الاستدعاء الوحشى للتاريخ يأتى لتبرير الهروب مما حققته البشرية خلال أكثر من قرن من أجل تنظيم العلاقات بين الدول سواء كان ذلك فيما يتعلق بالبحار أو الأنهار، أو الحقوق السيادية للدول فيما يتعلق بأراضيها وقراراتها التى تحقق مصالحها الخاصة. مواقف تركيا وإيران التى تنبع من تمثيل غير مفهوم للأمة الإسلامية يعود إلى مشاهد تاريخية لم يعد لها دلالة فى التاريخ المعاصر ولكنه يستخدم على سبيل الوصاية على أيه حال. آخر هذه الأشكال موقف الدولتين المتناغم من الاتفاق الإماراتى الإسرائيلى على توقيع معاهدة سلام وتطبيع بين البلدين استنادا إلى دفاع مزعوم عن الأمة الإسلامية والقضية الفلسطينية. فى دورية The Hill الأمريكية فى 29 أغسطس الماضى تحت عنوان «إيران وتركيا تغنيان على نفس النوتة الموسيقية ضد التقارب الإسرائيلى الإماراتى» نشر أنه على الرغم من أن تركيا وإيران قد تنافستا على الهيمنة الإقليمية لقرون، إلا أنهما أظهرتا فى الآونة الأخيرة استعدادًا لتجزئة التنافس بينهما والاستفادة القصوى من أى تقارب تكتيكى، سواء كان ذلك من خلال سياسات خرق العقوبات أو مناهضة الأكراد على سبيل المثال. كان المحرك وراء هذا التقارب هو نفسه: الاستيلاء على الدولة الإسلامية، أولاً عبر ثورة شعبية فى إيران (1979) ثم باستخدام صندوق الاقتراع فى تركيا (2002).الدولة الإسلامية سواء كانت تحت رداء ولاية الفقيه أو أيدلوجية جماعة الإخوان المسلمين تستدعى بكل قسوة تاريخا لا يقدم لحاضر متقدم فى المنطقة. المدهش أن دولة قطر وحركة حماس، وكلاهما على علاقات قوية مع تركيا وإيران، ويشاركان فى الحملة ضد الاتفاق الإماراتى الإسرائيلى لم يجدا غضاضة لا فى التفاوض مع إسرائيل ولا حتى بالتحضير للتطبيع معها. اتفقت حماس مع إسرائيل بوساطة قطرية، وتمويل قطرى أيضا، على إنهاء تصعيد عسكرى مستمر لأسابيع على طول الحدود بين إسرائيل وغزة. وبموجب الاتفاق، ستنهى حماس إطلاق البالونات الحارقة وتنهى إسرائيل من ناحيتها الضربات الجوية. وقالت حماس إن التفاهم سيسهل الطريق أمام تنفيذ مشاريع تخدم سكان غزة وتخفيف المعاناة وسط موجة فيروس كورونا؛ أما إسرائيل فصدر عنها أنه فى حالة استمرار حالة الهدوء فإن إسرائيل سوف تقوم بمد غزة بخط كهربائى عالى القدرة. باختصار سوف تضاء شوارع غزة بالكهرباء الإسرائيلية.
الأطراف الأربعة: تركيا وإيران وقطر وحماس تستخدم التاريخ بغزارة وبانتقائية ونفاق فاجع لفرض اختيارات سياسية واستراتيجية مناسبة أولا لاستمرار حالة من التوتر والعداء والصراع فى المنطقة تستطيع من خلالها التسلل إلى الدول العربية واختراقها عبر جسور أيديولوجية أو طائفية؛ وثانيا الحصول على مكاسب مادية وسياسية لا تستحقها فى الخليج أو شرق البحر الأبيض المتوسط .