المِلحُ الزائدُ أفسدَ كل شيءْ! بقلم : ثائر أبو لبدة.
التجربةُ السابقةُ بالنسبة للتجربة الأحدث؛ هي كالملح الزائد في الطعام تفسدُ طعمه وتخرّبُ قوامه؛ خاصة إذا ما كانت التجربة فاشلة ومليئة بالخيبات. حالنا مع طبّاخي المقاطعة، حال المتذوٍق المغلوبِ على أمره ؛ الذي يواسي نفسه كلّ مرّة ؛ بإمكانيةِ تحسنٍ قدْ يطرؤ المرة القادمة. لكنّ الأمر في كل مرةّ يزداد سوءاً وتعقيداً، دون أن نجدُ -نحنُ المتذوقون- ما يبرر لهؤلاء الطبّاخين الفاشلين إفسَادهم للطعمِ والقوامِ الوطني.
يُحسَدُ شعبنا -المتذوقُ الفذْ- على صبرهِ المبّجلْ، سعةِ صدره، وطولُ نفسه. وعلى الرغم من محاولات أرباب المطبخ السياسي استغلال هذه المناقب لإفساد ذوقهِ وحواسهِ اللمّاحة، إلا أنهم لم ينجحوا في ذلكْ.
على ما يبدو أنّ الدائرةَ دارتْ هذه المرة، وطباخُ السُمِّ ذائقهُ ولو بعد حين. حيثُ بدأ المتنفذونَ في سلطة رام الله يشعرون بقربِ النهايةِ، وينقلون لأبي مازن ؛ رسائلَ إسرائيلَ الناعمةَ ذاِت اللهجة المتعاليةِ والغيرِ ممتنة لسنواتِ حكمِه!
لا تريدُ الأخيرةُ صداماً مباشراً، على الرغم من الاحتمالية الكبيرة لعدمِ وقوعه، إلا أنها اختارتْ الجانبَ الأكثر أماناً وهدوءاً، كيْ تٌعلم المستوى السياسي في رام الله بأنها الآمر الناهي، وأنّ الأمرَ كلهُ بيدها.
ومن ضمنِ الرسائلِ التي وجهتها إسرائيل للسلطة؛ كانت مخاطبة كميل أبو ركن بشكل مباشر للبنوك الفلسطينية، دونَ عملِ أي اعتبارٍ للسلطةِ ككيانٍ سياسي فلسطيني.
رغم خطورةِ هذا المستجدِ، إلا أنّ الأكثر خطورة كان في امتثالَ بعضِ البنوكِ للخطابْ، والردِ عليهِ دونَ تأخرٌ بما يفيدُ التأهيلَ والتسهيلْ.
توازياً، مع قيامِ إسرائيلْ باستثناء السلطة عند مخاطبتها للبنوك الفلسطينية ؛ فإن الأخيرة أيضاً في ردها الأوليّ على خطاب الحاكم العسكري الإسرائيلي ؛ تجاهلتْ السلطة. الأمر الذي يضعُ صناعَ القرارْ في خانة الضعفِ وتحتَ طائلةِ المسؤولية أيضاً!
لمْ تفرشْ إسرائيلُ يوماً الطريقَ للفسطينيينْ بالوردْ ، حتى وإن بدا الأمر ظاهرهُ كذلك. أما طالبُ الودِ فقدْ أعيّتهُ المحاولاتْ. وضعَ نتنياهو منذ سنواتٍ قواعدَ للتعامل مع الجانبِ الفلسطيني، فلم تعدْ تهمه الطاولةُ التي كانتْ تجمعهُ سابقاً مع المفاوضين الفلسطينيين، ولاحقاُ أصبحتْ اللقاءاتْ الثنائية التي كانتْ تجمعُ الجانبينْ، بالنسبةِ للمستوى السياسي الإسرائيلي أمراً منَ الماضي ؛ لا يَستحقُ الرجوع إليه بأيّ حالٍ من الأحوال!
أُوْكلتْ المهامُ مباشرةً للحاكم العسكريِ وإدارته المدنية؛ التي تتولى متابعة الأمور في الجانب الفلسطيني، لتكونَ سلطةٌ فوقَ السلطة. هذه الحقيقة، التي يرفضُ البعضُ أنْ يعترفَ بها، ويفضلُ رؤيتها بمساحيقَ التجميلْ.
اختارَ رئيسُ الحكومة الإسرائيلية قضايا أكبر وأكثر عمقاً من وجهة نظره للإنشغالِ بها، خاصةً؛ تلك المتعلقة بتعميق العلاقة مع العالمينِ العربي والإسلامي، الأمر الذي يجعلُ من السلطةِ الطرفَ الأضعفَ في هذهِ المعادلةِ الإقليمية!
يُغيظُ أولئكَ الحالمينَ الموهومين؛ تعاملَ إسرائيل الفظْ، وخطابها المتعالِ والمليء بالصلف ، خاصة بعد سنواتِ من التنسيقِ الأمنيِ عاليِ الجودة، وكأنّ سياسة إسرائيلَ اليمينية المتطرفة لم تكن كافيةً لأن يستفيقوا من أحلامهمْ الساذجة. وهنالكَ منهم الطامحينَ بتكلفُ شؤون الوكالةِ بشكلها الحالي؛ والذين يرغبونَ مستميتينَ في خوضِ التجربةِ، وهم دافني رؤوسهم في رمالِ المقاطعةِ!
قرارُ الضم الإسرائيلي – الأمريكي ، لا فرق ! يُؤسس لمرحلةٍ جديدةٍ قديمةٍ، عاشها الشعب الفلسطيني سابقاً لتأسيس السلطة الفلسطينية. إلا أنّ الفروقاتَ كبيرةٌ ؛ بينَ هذا الوقتِ وذاك، مع زيادةٍ لا بأس بها بمزمناتِ الضعفِ، القنوتْ، والتعايش مع الأمر الواقعْ!
أفضلُ أحوالِ السلطةِ الفلسطينية في التعاطي مع قرار الضمْ، هو تشكيلُ لجنةٍ لبحث آلية الردْ. معولةً على حالةِ مواساةِ الفلسطينيِ الدائمة لنفسه، ومرضُه المزمنُ بالأملْ بأنَّ بعد هذه العتمة لا بدّ من نهارٍ آتْ!
لا شيءَ يدعوني لحسنِ الظنِ هذهِ المرةَ ، فليست هذه اللجنة الأولى التي تقررها السلطة ، مع كاملِ أمنياتي السليمة منْ كلّ شرٍ بأن تكونَ الأخيرةُ.
لجانُ التبريرِ والتخديرِ المميتةِ ؛ أمثلتها كثيرةٌ ووافرةٌ في عهد عباس . وعلى من ينتظرُ النتائجَ ؛ أنْ ينتظر ولوجَ السَفيفةِ في خرمِ الإبرة!
رسائلُ إسرائيلَ الناعمةُ لنْ تبقى كذلك أبداً، فالأمرُ حسب ما تخطط لهُ يسير في اتجاهٍ واحدٍ فقط، وهو الانتقالُ لمرحلة لا تكون السلطة الفلسطينية فيها جزءاً من المشهدْ، لقناعتها التامة بأن دورَ السلطة الفلسطينية قدْ انتهى.
ما يفكرُ بهِ الجانبُ الإسرئيليُ بمزيدٍ من الخوفٍ والتوجسْ ، السيناريو الأصعب ، هو ردُ فعل الشعبْ الفلسطيني، البارعُ في التحولِ والمخالفُ لكلّ عادةٍ مهما طالتْ. ومن الأكيد أن المستويين السياسي والأمني في إسرائيل يضعان جميع الاحتمالات على الطاولة، حيث يتم تدارسهن والتفكير في حيثياتهن في كل لحظةٍ، ولآخر لحظةٍ قبل اتخاذ القرار الآخيرِ الحاسمْ!
باعتقادي ؛ أن القادمَ السياسيٌ غير منفكٍ البتة عن الجانبِ الاقتصادي ، فتباعاً للفلسطيني الجديدْ ؛ اعتقد أننا في مواجهة فكرةِ الفلسطيني المطيعْ ، الذي يعملُ كي يعيشْ ، ويعيش كي يعملْ ؛ ولا شيءَ آخر!
لا أعتقدُ أنّ الغد سهلٌ ، كما لم يكنْ الأمسُ سهلْ ، لكنّ الفرق بين الغدِ و الأمسْ ، بأنّ الأمسَ قدْ مضى ، وأنّ الغدَ لم يأتِ بعدْ ؛ وبينهما مكمنُ الذكاءِ والجرأةِ في اقتناصِ الفرصةِ، التي تمكننا مجتمعين منْ إعادة تكوينِ الهوية الوطنية على أقل تقديرْ!!!