الإيجاز الختامي! بقلم : المحامي ثائر أبو لبدة
ختاماً لا بد أن يكون الإيجاز خصباً وموجزاً، لا زيادة فيه ولا نقصان؛ تغلق بعده أبواب التخمينات والتأويلات. ولكي يكون الإيجاز كذلك، لا بد للموجزين أن يكونوا بليغين، عميقين، وحذرين من الوقوع في عثراتِ اللغة ولعثماتِ الكلام. دون أن يشعر هؤلاء الموجزون إطلاقاً – ولو لوهلة – بأنهم مجلس إدارة الكون – إن أحسنوا بإيجازهم صنعاً -.
الإيجاز في اللغة؛ هو تقليل الكلام واختصاره، بما لا يتناقض مع كمال المعنى ووضوحه. ولكي يكون المُوجِز متمكناً من أداءه؛ عليه لزاماً التزام المعرفة التي تؤهله لتأدية معانٍ كثيرةٍ بكلماتٍ قليلة. والمعرفة ليست حكراً ولا امتيازاً من امتيازات المنصب، بل هي نتاج الاجتهاد في الإطلاع والبحث.
الكلام خيره في قليله الدالْ، فلا خيرَ في كلام قليلٍ لا يدِلُ ولا يفيدْ. ويرتبط هذا القول بالإيجاز رباطةً وثيقةً تجعلُ من المُوجَزِ مادةً مختصرة، مركزة، وبليغة. يقدمها للعامة مُوجِزٌ فصيحٌ وبليغْ.
أكثر ما يعيب الإيجازَ ويضعفُ مبناه؛ هما أمران: التكرار والإطالة. اللذان بدورهما يُشعِران المستمع بالملل والنفور، ويتناقضان مع روح الإيجاز ومعناه.
فليس للمُوجِزِ أن يختار الكثير من الكلام على قليله، وليس له أيضاً أن يكرر اليوم ما قاله في الأمسْ!
ما نشاهده في الإيجاز الصحفي الصادر عن الحكومة الفلسطينية الذي يبث صباحاً ومساءاً على شاشة تلفزيون فلسطين، خروج عن المعنى الحقيقي للإيجاز، لما يعتري هذا العرض من عوامل تضعفه، وتجعل منه عرضاً دراماتيكياً هزيلاً. ولعلّ أهم هذه العوامل هي السطحية وعدم الشمولية. ولأننا اعترفنا منذ البداية، -وهذا جيد-؛ بأننا فقيرون للعلاج وليس أمامنا من سبيلٍ سوى الوقاية، فليس لنا لاحقاً أن نضع أنفسنا في معرض الحديث الكثير عن الإنجازات.
الصراع الذي يخوضه العالم اليوم؛ هو الصراع بين قطاع الصحة وقطاع الاقتصاد، وهو صراعٌ لم يختاره أحد بل فرضته هذه الجائحة. لقد تجاوز العالم صدمة انتشار الفايروس، وأصبحت الدول تعمل جاهدة لبلورة خطط تنقذ اقتصادها؛ دون أن تتسبب بالمقابل بتدهور قد يصيب القطاع الصحي.
إن الجوع مثل المرض قد يقتل الانسان، وإن شريحة كبيرة من الفلسطينيين إن لم يعملوا لن يأكلوا، خاصة تلك الفئة الغير بسيطة من العمال؛ والتي تضررت بشدة من الإغلاق. فماذا يفيد آلاف العمال الفلسطينيين ” إيجاز صحفي ” ليس فيه ما يضع بين يديهم ما يسدوا به جوع أطفالهم؟
الاهتمام بالجانب الصحي بمعزل عن الجانب الاقتصادي هي نرجسية مفرطة، والحديث عن قطاع الاقتصاد دون التطرق لقطاع الصحة هي براغماتية مقيتة، إن وظيفة الحكومة أن تشمل الصحة والاقتصاد في رعايتها، وأن توجز القول بالعمل، فما أغنى إيجاز القول عندما يكون
مقروناً بإطناب العملْ.
العنوان العريض لإيجاز الحكومة الفلسطينية هو وضع المواطن الفلسطيني في صورة تطورات الحدث، وهذا من وجهة نظري ليس بالأمر الصحيح. ويكفي أن تصل المعلومة للمواطنين عبر وزارة الصحة، حيث أن هناك العديد من المنصات التي يمكن لوزارة الصحة من خلالها
نشر آخر التحديثات والتعليمات فيما يتعلق بالفايروس، دون الحاجة لهذه الإطلالات الصحفية التي باتت ” دقة قديمة “!
أما عن ظهور الحكومة إعلامياً فقد يكون ذا معنى، عندما يكون الحديث متعلقاً بحلول توفرها الحكومة للمشاكل التي جلبّها الوباء، صحياً، اقتصادياً، اجتماعياً وفي كل منحى يمس حياة المواطنين، وما وجدت الحكومة إلا لتوفر حلولاً لهذه المشاكل مع بذل أشد الجهد ضمن المعقول والممكن!
فلا ضير حين تملك الحكومة حلولاً للمشاكل؛ من أن نشاهد رئيسها، وزرائه، أو مديري الوزارات، يطلون على المواطنين لتطمينهم وعرض الحلول عليهم. فالحكومات المحترمة هي التي يهمها رضاء المواطنين عن أدائها في النوائب!
ولأننا جزء من هذا العالم، فعلينا أن نعترف كما الجميع بأن هذا الفايروس لا يمكن مواجهته بالخوف والإغلاق فقط، خاصة بأننا لا نعلم متى يكون له علاج ناجع، وأننا غير قادرين على توفير التعويض و سبل العيش الكريم للمواطنين – خاصة الذين يعانون العوّز -.
الإيجازُ خالف مقصده اللغوي والاصطلاحي، والأفضل أن يعرض منه الإيجاز الختامي، الذي لا نرى بعده إيجازاً إلا بما يتوافق مع المعاني والمقاصد التي ترسخ مبدأ الحكم الرشيد، الذي ترضى به الشعوب عن حكوماتها.