الحرية هي أن تكون حراً في اختيار أن تفعل ما تشاء، كل ما تشاء، حتى وإن لم تستطع فعله فعلاً. إذا كنت تريد، بمناسبة حلف د. محمد مرسي اليمين، أن تصبح رئيساً لجمهورية مصر العربية، أنت حر. ما سيحول بينك وبين رئاسة الجمهورية هي فقط قدرتك أنت على أن تبلغ هذه الغاية. الحرية محدودة دائماً بالقدرة. كذلك الحرية محدودة بشيء آخر، حرية الآخرين. إذا أعجبتك امرأة في الشارع وأردت أن تنكحها، أنت حر. لكنها هي أيضاً حرة، من منطلق أنها إنسانة مثلك ولها نفس الحق مثلك تماماً في التمتع بالحريات الخاصة، وعليها نفس واجبات المواطنة مثلك تماماً أيضاً. إذن، ما الحل؟ أن توافق حريتها حريتك، بعدئذ فقط يمكن أن تنعقد عقدة النكاح بينكما. لكن الأمر قد لا ينتهي عند ذلك الحد. يوجد شرط آخر لابد أن يتحقق حتى يكون هذا النكاح شرعياً وقانونياً: المصلحة العامة؛ القانون العام هو الفاصل الوحيد ما بين الزواج والزنا. هكذا تكون الحرية الشخصية، حريتي أنا أو أنت أو هو أو هي أو نحن أو هم، مقيدة بحريات الآخرين المتفقين أو المختلفين معنا، وبمصلحتنا جميعاً كتلة واحدة، أو المصلحة العامة. أنظمة الحكم الديمقراطية تصون الحريات الشخصية المختلفة، وتصون في الوقت نفسه المصلحة العامة، التي تمثل مصلحة الجميع داخل الوطن الواحد.
في المجتمعات الإسلامية ذات الأغلبيات السكانية المسلمة، مثل مصر، ثمة إشكالية تواجهها اليوم في التوفيق بين الحريات الخاصة المتناقضة من جهة، وبينها وبين المصلحة العامة التي لا تتطابق بالضرورة مع المجموع الحسابي للمصالح الشخصية الفردية. هناك، مع تدشين هذه المرحلة الإسلامية الواضحة، من، ربما أغلبية عددية، يريدون إقامة الدولة الإسلامية الصريحة، عبر تطبيق الشريعة وجعل الدين مرجعية الدولة. هؤلاء، بحكم حرياتهم الشخصية، وبحكم أغلبيتهم التشريعية وغلبتهم السياسية، ربما يحق لهم أن يقيموا وأن يطبقوا ما يشاءون. لا جدال أن حقوقهم في الحرية الشخصية الفردية تكفل لهم ذلك. لكن، من جهة أخرى، المصلحة العامة، مصلحة الجميع ككتلة واحدة داخل نفس الوطن، لا تكون أبداً مجرد حاصل ضرب الحريات الفردية في إجمالي عدد السكان. المصلحة العامة منفصلة بذاتها حتى عن مكوناتها الأفراد.
على سبيل المثال، إذا جئت بدورق من الماء الصافي الأبيض يضم بلايين ذرات الهيدروجين والأكسجين، ثم سكبت فيه ما نسبته فقط 1% من مركز عصير البرتقال، هل نسبة الواحد بالمائة تلك تركت التسعة وتسعون على حالها السابق، أم حولتها، وتحولت هي بالضرورة معها، إلى شيء جديد تماماً؟ في قول آخر، إذا كان 99 بالمائة من الأفراد المصريين يريدون تطبيق الشريعة، لكن لا تزال نسبة لا تتجاوز الواحد بالمائة لها إرادة مغايرة، أبداً لن يكون حاصل جمع المصلحة العامة (99%+1%) معبراً عن الـ99% أو عن الـ1%. مؤكد ستكون النتيجة مختلفة عن هذا وذلك، مثلما تحول الماء الأبيض إلى عصير برتقال أعلاه.
كي لا يفهم من كلامي هذا، كما يروج بعض الدعاة الإسلاميين زوراً، أن الأقلية المسيحية، مهما كانت نسبتها، تقف في طريق تحقيق أحلام الأغلبية المسلمة بتطبيق شريعتها، أوضح أن نسبة مركز عصير البرتقال المعارضة أعلاه لا ترتبط أبداً بالدين المختلف فقط. المعارضة والاختلاف ظواهر بشرية طبيعية، وصحية، داخل ذات الأديان وذات النظم السياسية الواحدة؛ ستجدها حتماً في كل بلاد العالم، في دول بعيدة عن التعددية مثل إيران والسعودية وتركيا واليابان والفاتيكان، أو في دول قائمة ومزدهرة على التعدد والتنوع العرقي والديني والثقافي مثل أمريكا والهند وروسيا والصين وجنوب أفريقيا. الاختلاف والتباين سمة طبيعية وأساسية وسط الأفراد والتجمعات. وعبر التاريخ الإسلامي، بسبب خلافاتهم، قتل المسلمون من أنفسهم أكثر بكثير ممن قتلوا من أتباع الأديان الأخرى. في هذا السياق، يجب أن لا ينسى المسلمون الاقتتال الدموي بين علي بن أبي طالب وأنصاره ومعاوية بن أبي سفيان وأنصاره؛ وبأيدي من، وكيف، كانت نهاية الأسرة الحاكمة الأولى، أو الخلافة الأموية؛ ومن كتب نهايات العباسيين والأندلسيين والفاطميين والممالك والأتراك…الخ؟ مشكلة الإسلاميين في مصر مع المسلمين مثلهم، ليست مع المسيحيين.
مع أنني فرد مسلم مثلك، إلا أن اختياراتي السياسية قد لا تكون مطابقة لاختياراتك بالضرورة. علاوة على ذلك، حتى لو كانت اختياراتي السياسية مطابقة لاختياراتك، وبمعجزة ما كانت اختياراتنا نحن جميعاً المسلمين متطابقة تماماً لبعضها البعض، رغم ذلك تظل المحصلة الإجمالية لمجموع اختياراتنا السياسية، أو بتعبير آخر “المصلحة العامة” العليا، لن تكون أبداً مطابقة لمجموع تلك الاختيارات الفردية المتطابقة. المصلحة العامة، وإن كان أساسها مجموع مصالح الأفراد، إلا أنها منفصلة، وقد تكون مختلفة، بالضرورة عن مصالح الأفراد وأمانيهم وأحلامهم. في قول آخر، الكل أكبر من مجموع أجزائه.
ختام القول، حريتي أنا محدودة بحريتك أنت، وحريتنا نحن الاثنين معاً محدودة بحرية الكل مجتمعين، أو المصلحة العامة. النظام الديمقراطي لا يضحي بحرية لأجل أخرى، ولو كانت حرية فرد واحد مقابل المصلحة العامة لملايين البشر، طالما كان لذلك الفرد الواحد الحق في أن يمارس حريته. كذلك النظام الديمقراطي يعرف كيف يوازن ويصون الحريات جميعها، مع المصلحة العامة.