9:21 مساءً / 22 نوفمبر، 2024
آخر الاخبار

حديث في تطور مفهوم الأخلاق في المسيرة التاريخية للفلسفة بقلم : غازي الصوراني

ظهرت الأفكار الفلسفية الأولى عن الأخلاق في كتاب “الفيدا” الذي تضمن الأفكار الفلسفية الهندية القديمة ما قبل الفلسفة الاغريقية ، التي عرفت بإسم الفلسفة “البراهمانية” (برهمان هو الله ) التي ظلت مسيطرة في الهند حتى ظهور البوذية في القرن السادس قبل الميلاد التي أسسها “غاوماتا بوذا” أو المستنير ، وقد كانت –وما زالت- الفلسفة أو الديانة الهندية القديمة قائمة على الخضوع والاستسلام ، كما أن حجر الزاوية في هذه الفلسفة يقوم على “أن الحياة مليئة بالشقاء، واحتقار الحياة الدنيا … وإن الخلاص من الشقاء لا يكون إلا عبر ما تسميه الفلسفة الهندية بـ”النرفانا” التي تعني الفناء في الاله ، وهو شكل من أشكال التصوف والزهد.

ثم برزت الفلسفة الكونفوشية التي أسسها “كونفوشيوس” (551 – 479 ق . م ) في الصين ، واشتهرت بتعاليمها الأخلاقية السياسية التي تقوم على أن السماء هي الإله الأعلى تفرض مشيئتها على الناس ، وإن حياة البشر رهن بالقدر ، وأن الجاه والثروة منّة من السماء.

هذه هي بعض ملامح الفكر الفلسفي في الشرق القديم الذي تأثرت به الفلسفة الاغريقية، بمثل ما تفاعلت وتأثرت مع المعطيات الفلسفية المصرية الفرعونية والبابلية في العراق بشكل خاص .

إن أفضلية الفلسفة الإغريقية اليونانية (التي ظهرت في القرنيين السادس والخامس ق.م) أنها كانت الرائدة في تحرير الفكر عبر تساؤلاتها عن طبيعة الواقع وحقيقة الكون والعقل والعديد من القضايا ذات الطابع المعرفي والشمولي .

وفي سياق الحديث عن الفلسفة الإغريقية أشير إلى عدد من الفلاسفة الذين سبقوا سقراط (469 ـ 399 ق.م ) ووضعوا الأسس التي تأثر بها ، ومن أشهرهم “فيثاغورث” ( 580-500 ق.م) الذي آمن بتناسق الأرواح، وكان من الرواد في علوم الهندسة والحساب ، ثم “هيراقليطس” (540 – 475 ق.م) الفيلسوف المادي الذي أعلن أن “بداية هذا الكون من النار وأن هذا العالم سيظل ناراً حية تنطفئ بمقدار وتشتعل بمقدار”، و الفيلسوف “آناكساغور” (500 – 425 ق.م) الذي قال أن “الحياة عملية دائمة ومتصلة ومستمرة” واتهمه حكام آثينا الارستقراطيين بالإلحاد وطردوه منها ، بعد ذلك برزت “الفلسفة السوفسطائية” كظاهرة فلسفية لعصر ديمقراطية العبيد في آثينا ، حيث كان الإنسان عندهم “معيار الأشياء جميعاً وشككوا في التصورات الدينية” ، وفي هذه المرحلة برز الفيلسوف “ديمقريطس” (460-370 ق.م) الذي كان نصيراً للديمقراطية العبودية .

يعتبر الفيلسوف سقراط (469 ـ 399 ق.م ) رائد الفلسفة الأرستقراطية النخبوية الذي وقف بعناد ضد الديمقراطية في آثينا ، باعتبار أنها تؤدي – كما يقول- إلى الفوضى عبر تحكيم جماهير الدهماء في هذه العملية ، وجاء بعده الفيلسوف “أفلاطون” (427 – 347 ق.م) ليستكمل الرسالة في العداء للديمقراطية ، بحيث أصبح فيلسوف الفردية الارستقراطية بلا منازع ، حيث حرص على تكريس أخلاق الأرستقراطية ضد الفقراء أو العبيد .

أما الفيلسوف أرسطو ( 284 -322 ق.م ) فهو أول من استخدم مصطلح الأخلاق أو الحكمة العملية Ethics من أجل صياغة الأفكار عن الواجب والخير والشر ، وكان مثل استاذه ومعلمه أفلاطون ، يرى أن أفضل أشكال الحكم هو النظام الأرستقراطي الذي يعتمد حكم الأقلية من النخبة المختارة ، ورفض الديمقراطية لأنها كما يقول تقوم على افتراض كاذب بالمساواة منسجماً بذلك مع أفلاطون وسقراط ، وهو القائل بأن “هناك أخلاق للعبيد وأخلاق للسادة ، فمنذ المولد هناك اناس معدون للعبودية واناس معدون للإمارة” .

لقد امتد العصر العبودي حتى القرن الثالث الميلادي ، حيث ظهرت في هذا القرن ثلاث تيارات رئيسية هي :

1- الريبية – مذهب الشك: ومن أشهر فلاسفتها “بيرون (365-275 ق.م) ، الانسان عندهم عليه “ألا يتخذ موقفاً من ظواهر الطبيعة أو الحياة، وإذا أراد أن يعيش سعيداً عليه أن لا يفكر فيها”، إنها دعوة مبكرة إلى أن يظل الإنسان أبلهاً أو مكرهاً على الإستسلام للظلم .

2- الفلسفية الابيقورية : نسبة إلى الفيلسوف “ابيقور” ( 341-270ق.م) ، المهمة الاساسية للفلسفة عنده ، هي وضع الاخلاق وقواعد السلوك التي تؤدي الى السعادة‍‍ المرتبطة عنده بـ”الشعور باللذة” ، فاللذة خير ، والألم شر ، شرط أن تشك في كل شيء لأنه ” من أجل بلوغ السعادة لابد من ازالة الخوف من تدخل الالهة في حياة البشر ” ، لكن الانسان الحكيم عند “ابيقور” هو الذي يصغى للذة الاولى ويعيش حياته راضياً وهذه هي السعادة الحقيقية. وفي هذا السياق اشير إلى أنه على الرغم من ان ابيقور كان مادياً عبر مذهبه الشكي، الا أنه كان داعية للاستسلام والخنوع والتأمل وهي صفات صبغت المرحلة اللاحقة حتى القرن الرابع عشر .

3- الرواقيون :- اشهر فلاسفتهم زينون الفينيقي ، دعوا ايضاً الى الاستسلام والسكون ورفضوا مبادىء ابيقور الالحادية ، وقالوا بأن الانسان الحكيم هو الذي يؤثر مصلحة الدولة على مصلحته الخاصة او الذاتية.

 

فلسفة العصور الاقطاعية : ظهرت هذه الفلسفة بعد استقرار وتكريس دور الكنيسة في الغرب خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين ، وتعاظمت هيمنتها في القرن السادس بعد الغاء الافلاطونية واعلان المسيحية الوعاء أو المصدر الرئيسي لأخلاق البشر دين الدولة الرسمي عام 529م(يوستينيانوس).

ففي العصر الاقطاعي، هيمنت الايديولوجية الدينية على الحياة الفكرية ، حيث تحولت الفلسفة الى خادمة للاهوت عبر طابعها الرجعي التصوفي وكان مبررها ان الحكمة والمعرفة تتم فقط عبر الوجد الصوفي ورفض التجربة او طريق العقل ، لقد انحطت الفلسفة والأخلاق في هذا العصر الى درك التصوف والسحر والاساطير ، وارتدى صراع الطبقات فيه شكل خافت من الصراع الديني.

ابرز فلاسفة هذا العصر : افلوطين (205-270م) الذي قال ان التطور يبدأ بالالهي الذي لا يمكن الاحاطة به ويجب الايمان به ، ثم اوغسطين(354-430م) الذي تأثر بالافلاطونية الجديدة (التي وضع اسسها افلاطون) واعتنق المسيحية فيما بعد ، من اقواله “الانسان يملك الحرية ولكن كل ما يفعله بارادة مسبقة من الله” الحياة الدنيوية سقوط وانفصال عن الازلي واتصال بالناقص الجزئي” ” اننا نعرف الله لا بالتفكير بل بالاعراض عن التفكير” ، هذه المواقف تم تطبيقها عمليا في هذا العصر بما يخدم الكنيسة والامراء والارستقراطية الحاكمة، بحيث تحولت الفلسفة الى “علم” جنوني بالغيب وامتزاج الايمان بالسحر، حيث سادت بالاكراه أخلاق الاستستلام للواقع أو الطبقة الحاكمة وللغيب في آن واحد .

بعد ذلك ظهرت الفلسفة السكولائية (المدرسيةscholasticism) خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر ، وهي فلسفة تأثرت بالافلاطونية المحدثة، ومثَّلت التيار الرئيسي في فلسفة المجتمع الاقطاعي ، كان السكولائيون أعضاء مؤثرين في الرهبنة المسيحية وكانوا اعضاء في محاكم التفتيش ، من اهم مفكري هذا التيار توما الاكويني (1225-1274م) الذي خاض صراعا حادا ضد فلسفة “ابن رشد” (1126 – 1198 م) ومنهجه العقلاني، حينما كان أستاذا في جامعة باريس قال الاكويني “ان الايمان والعقل يشكلان وحدة منسجمة ولا يختلفان بعكس ابن رشد” ، وان الوحي الإلهي لا يتضمن أي خطأ ، وفي حالة وجود التناقض فان المخطىء هو العقل لا الايمان او الفلسفة لا اللاهوت ، وان الحاكم يجب ان يخضع للسلطة الروحية التي يقف على رأسها المسيح في السماء والكنيسة على الأرض ” لقد كانت “التوماوية” بمثابة المرتكز الفكري للكنيسة الكاثوليكية المهيمنة على عقول الناس في ذلك العصر.

مجابهة السكولائية: بدأت المجابهة عبر عدد من المفكرين كان من أبرزهم العالم الفيلسوف روجر بيكون (1214-1294م. )؛ الذي كان مسيحياً مؤمناً لكنه طرح فكراً نقدياً ” للمدرسية عبر إعلانه أن الوصول إلى الحقيقة يتطلب إزالة العوائق التي تعترض المعرفة ” وأهم هذه العوائق عند بيكون: رواسب الجهل وقوة العادة والتبجيل المفرط لمفكري الماضي، وأن أفكارنا الصحيحة يجب أن تثبت بالتجربة ” .

إن المغزى الذي ندعو إلى استخلاصه من هذا الاستعراض لبعض جوانب الفلسفة عموماً وفي العصر الإقطاعي على وجه الخصوص يكمن في امكانية توفير بعض المقومات الفكرية اللازمة لعقد المقارنة الموضوعية لبعض أوجه السمات الفكرية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية المتردية في وطننا العربي التي تتقاطع أو تتشابه في جوهرها أو في نتائجها مع المقومات الفلسفية والفكرية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا في العصر الإقطاعي ، الذي تميزت فلسفته بأنها:-

1. تبرير قهر واستغلال الفلاحين والفقراء باسم الدين .

2. تكريس مصالح الطبقة الارستقراطية بقوة البطش والارهاب .

3. لم تتطلع إلى البحث عن الحقيقة، فقد كان هم معظم المفكرين في هذه المرحلة إثبات صحة العقائد الدينية لتثبيت مصالح ملوك أوروبا والكنيسة ورموز الإقطاع .

إن الفكر الإقطاعي لم يهتم ببحث المسائل المطروحة بل زجَ في إطار النتيجة المسلم بها، وكان لابد للفلسفة القائمة على مثل هذه الأسس أن تسير في درب الانحطاط في ظروف بدأ فيها يتعزز العلم ليتحول إلى ميدان بحث مستقل نسبياً، وهذا ما حدث عندما بدأ أسلوب الإنتاج الجديد يتشكل في أحشاء المجتمع الإقطاعي مفسحاً الطريق لعصر النهضة وللديمقراطية البرجوازية بعد أن تم كسر هيمنة الكنيسة على عقول الناس.

ومع بداية عصر النهضة ظهرت أفكار الفيلسوف الانجليزي ” فرنسيس بيكون” (1561_ 1626) الذي يعتبر –حسب المؤرخ ول ديورانت – “أعظم عقل في العصور الحديثة” ، طالب بتطهير العقل وغسله من التصورات والأوهام المسبقة التي تهدد العقل، ثم جاء الفيلسوف الفرنسي “ديكارت” (1596-1650) ، الذي أكد أن المهمة الأساسية للمعرفة هي ضمان رفاهية الانسان وسعادته عبر سيطرته على الطبيعة وتسخير قواها لصالحه ، وعلى هذا الأساس ظهر ما نستطيع أن نسميه أخلاق العقل ، التي أعلن عنها بجرأة تلميذه الفيلسوف المادي “باروخ سبينوزا” (1632-1677)حينما انتقد أخلاق “الكتاب المقدس” انتقاداً مراً، واستنتج مبدأ الحق من القوة، واعتبره مبدأ كل أخلاق . ثم جاء “جان جـاك روسو” (1712 -1778 ) ودعا إلى المساواة بين البشر وأن يظل الناس أحرارا كما ولدوا، أما فولتير (1694/1778 )، فقد عاش كل حياته مناضلاً ضد التعصب الديني.

أما الفيلسوف الألماني “كانط” ( 1724 -1804 ) فقال: إن الواجب هو المفهوم المركزي في الأخـلاق وهو الذي يحدد مفهوم الخير ( والخير هو فعل الواجب ) .والى جانب كانط ، حفلت الثقافة الألمانية بآراء فيخته وشلنغ و”هيغل” (1770 – 1831) الذي تقوم خصوصية مذهبه الأخلاقي على الالتزام الاخلاقي تجاه الاسرة والمجتمع والدولة . لقد دحض “هيجل” الأفكار الخاطئة في تعاليم “كانط وفيخته وشيلنغ ” ، فهو بالرغم من أنه يتفق مع “كانط” في ضرورة البحث الفلسفي عن منطلقات النشاط المعرفي لدى الناس.. إلاَ أنه أخذ عليه كونه يدرس ملكة المعرفة عند الإنسان خارج نطاق التاريخ؛ إنه يقول رداً على كانط: “أن دراسة المعرفة ممكنة فقط أثناء عملية المعرفة ، وأن البحث فيما يسمى أداة المعرفة ليس إلاً معرفة هذه الأداة” .. والرغبة في المعرفة قبل أن نبدأ المعرفة لا تقل سخافة عن ذلك السكولائي الذي يريد أن يتعلم السباحة قبل أن ينزل إلى الماء..!!، لقد رأى في نابليون والثورة الفرنسية والتنوير الأوروبي تحولاً حاسماً في تاريخ العالم ، أدى هذا التحول إلى إخضاع الواقع الاجتماعي للعقل الذي يحتل مكانة بارزة أو مركزية في فلسفته ، فهو يقول وما أروعه في قوله : “كل ما ليس بعقلي يجب أن يصبح عقلياً.. فمتى نؤمن بالعقل؟؟إن الواقع العربي يجب أن يتحول إلى واقع عقلاني .. ذلك هو المدخل الضروري نحو التغيير الديمقراطي المنشود .

أما “أوغست كونت”- رائد علم الاجتماع الحديث – ( 1798 _1857 ) ، فالأخلاق لديه علم يهدف أول ما يهدف إلى البحث عن قوانين الحوادث الأخلاقية في المجتمع ، وعلى هذا الاساس اصبح مفهوم الاخلاق أحد مكونات علم الإجتماع .

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت أفكار نيتشة ( 1844 _1900 ) ، التي تدعو الى تدمير الأخلاق القديمة وتمهيد الطريق لأخلاق ما يسميه” الإنسان الأعلى ” !!، فالأخلاق الحقة عنده هي إرادة القوة، هكذا كان نيتشة واضحاً وصريحاً في احتقاره للضعفاء، وكان ملهماً للنازية الألمانية فيما بعد .

بعد نيتشه ، ظهر سيغموند فرويد ( 1856_1939) الذي قال بأن دوافع الانسان واخلاقياته هي انعكاس لميوله اللاشعورية ، ولا سيما الجنسية ، أما التفسير التطوري ، وخاصة مذهب ” هربرت سبنسر ” ( 1820 -1903 )- فان مصدر الأفكار والآراء حول الأخلاق التي نادى بها تشكلت على أساس بيولوجي ، وهي فكرة ” بقاء الأصلح ” في تطبيقها على الواقع الاقتصادي والبقاء للأقوى فيه . وفي هذه المرحلة ظهرت فلسفة البرجماتزم عبر افكار وليم جيمس ( 1842 _1910 ) الذي تأثر بالمفكر الأمريكي تشارلز بيرس(1839-1914) صاحب مقولة ” لكي نجد معنى للفكرة ينبغي أن نفحص النتائج العملية الناجمة عن هذه الفكرة ” ، فعوضاً عن سؤالنا عن مصدر الفكرة ، فان فلسفة البرجماتزم تفحص النتائج ولا تهتم بالمصدر ، إنها تتجه الى النتيجة أو الثمرة او المصلحة المباشرة، والأخلاق هنا مبنية على هذا الأساس الذي اعتمدته الولايات المتحدة الأمريكية في سيطرتها الإمبريالية من أجل استغلال الشعوب الفقيرة واستمرار تبعيتها وتخلفها .

بعد وليم جيمس ، جاء تلميذه جون ديوي ( 1859 – 1952 ) الذي قال أن النمو و التطور ، هما أعظم الأشياء وأفضلها وأجدرها بالاحترام ، فقد جعل ديوي من النمو والتطور مقياسه الأخلاقي ، أما عالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 ـ 1920)، فقد رأى أن الحداثة المعاصرة، وانتقال العالم من العصر القديم إلى العصر الحديث، يمكن إرجاعه إلى سببين رئيسيين، هما : «روح» الرأسمالية، و«الأخلاق» البروتستانتية . من خلال دراساته استنتج فيبر أن الرأسمالية ، وهي التي – كما يقول -خلقت العالم الحديث، لم تنشأ إلا في تلك البلاد التي تحولت إلى البروتستانتية ، وبذلك كانت الأخلاق البروتستانتية –عند فيبر – هي الحاضن لروح رأسمالية تكمن وراء كل إنتاج أو إبداع” .

من كل ما تقدم ، نلاحظ انتقال المسألة الأخلاقية في عصر النهضة أو في حضارة الغرب الرأسمالي عموما ، من مستوى الدين الآمر ، والفكر اللاهوتي إلى مستوى الفكر الانتقادي ، وأصبحت قواعد الأخلاق الرأسمالية موضوعاً من مواضيع الثقافة الإنسانية “دون القطيعة الكاملة مع جوهر الدين” ، فقد تضاءلت –كما رأينا- فكرة المذاهب الأخلاقية القديمة على أثر انتشار النزعات الأخلاقية الذرائعية الى جانب الفلسفة الوجودية ،كيركغارد، سارتر، كامو، دي بوفوار ، علاوة على سان سيمون وشارل فورييه وروبرت أوين وغيرهم من الاشتراكين الطوباويين والفلاسفة والمفكرين العقلانيين في عصر النهضة الذين قدموا اسهامهم في علم الأخلاق، حيث حاولوا أن يتنبئوا وأن يصوروا علاقات أخلاقية جديدة بين الناس ، واسهموافي توليد مفاهيم وأفكار ومدارس فلسفية جديدة معلنة موت النظام القديم وميلاد عصر جديد للبشرية ، عصر الثورات البرجوازية الأوربية التي كانت بمثابة الإعلان الحقيقي لعصر النهضة أو عصر الحداثة ، ووضعت قواعد الأخلاق الجديدة .. أخلاق البورجوازية .

وبإزاء هذه الحركة “الميتافيزيائية” قامت الفلسفة المادية الجدلية عبر إعلان ماركس عن “فلسفة علمية تقوم على مبدأ المادية التاريخية المتطورة تبعا لحتمية جدلية صارمة هي حتمية الصيرورة والغائية، فقد بين كل من ماركس وانجلز أن الأخلاقيات يحددها النظام الاقتصادي والاجتماعي للأمة، وأنها نتاج تاريخي . ورسم ماركس وانجلز – في تعاليمهما – الدرب الصحيح إلى السعادة والعدالة والحرية ، إن ماركس ، باكتشافه القوانين الخاصة ، المميزه لتطور الرأسمالية ، اكتشف – في السياق نفسه – ” المفهوم العام عن القانون ، بما في ذلك الفهم العملي للقوانين الأكثر شمولاً لتطور الطبيعة والمجتمع والمعرفة ، ويأتي وصف ماركس للقانون العام للتراكم الرأسمالي مثالاً رائعاً على هذا البحث الملموس للقوانين الشاملة لكل تطور ، إن هذا القانون يعكس العلاقة المتبادلة بين إثراء طبقة الرأسماليين وبين تفاقم بؤس الطبقة العاملة والكادحين ، فكلما ازداد تراكم في أحد قطبي المجتمع يزداد بالمقابل تراكم البؤس في القطب المعاكس ، ولذا فإن التراكم الرأسمالي لايؤدي إلى القضاء على الفقر : كما يروج أصحاب الأفكار الليبرالية والديمقراطية الكاذبة ، بل إنه على العكس ينتج الفقر باستمرار ، ذلك إن هذا الفقر هو الشرط الرئيسي للغنى في صيغته الرأسمالية ( ولذلك قيل : إن رأس المال ينزف دماً من جميع مساماته ..) ، كما أن تفاقم التناقضات بين الرأسماليين والكادحين وجموع الفقراء ، سيقود بالضرورة إلى أذكاء نضال الفقراء الطبقي ، والتعجيل بعملية التغيير والثورة . كذلك أقامت الماركسية البرهان العلمي على أن الحل المادي لكافة مشكلات الحياة الاجتماعية – بما في ذلك الأخلاق- إنما ينبع من الحل المادي لمسألة علاقة الوجود الاجتماعي ، بالوعي الاجتماعي الذي بدوره يمارس تأثيراً عكسياً على الوجود الاجتماعي .

ولم يخرج لينين وبليخانوف وتروتسكي وعلماء مدرسة فرنكفورت يوركهيمر وأدورنو وماركيوزة وكذلك انطونيو جرامشي والتوسير وهابرماس وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الماركسيين في الغرب …وعلى نفس المنهج سار المفكرين الماركسيين العرب من امثال الياس مرقص وصادق العظم وحسين مروة ومهدي عامل و سمير امين ومحمود العالم وفالح عبد الجبار وجورج طرابيشي وفواز طرابلسي وجلبير اشقر وكميل داغر وهشام غصيبوياسين الحافظ وغيرهم الذين عبروا جدليا عن جوهر الرؤية الماركسية… لرؤية حاملة لاخلاق المستقبل ..اخلاق الحرية والمساواة القائمة على الغاء كل اشكال الاستلاب والاستغلال والاستبداد..

شاهد أيضاً

مفاوضات السلام في الشرق الأوسط: الاستيطان، دور رئيس السلطة، ومصير المفاوضات، بقلم : م. غسان جابر

مفاوضات السلام في الشرق الأوسط: الاستيطان، دور رئيس السلطة، ومصير المفاوضات، بقلم : م. غسان …