
فلسطين بين نيران الإبادة الجماعية وتطرف المستوطنين: قراءة في المشهد الإقليمي والدولي ، بقلم : سالي أبو عياش
تعيش فلسطين اليوم أقسى مراحلها منذ النكبة الأولى، فهذه المرة لا يتعلق الأمر فقط باجتياح عسكري أو تهجير قسري، بل تحوّل لمشهد معقّد تتداخل فيه مشاريع إبادة وتطهير عرقي من جهة، وتوترات إقليمية تعيد رسم خرائط التحالفات والعداوة والمنطقة الإقليمية بأسرها من جهة ثانية، مع صمت دولي فاضح.
في غزة، يُنفَّذ مشروع الإبادة الجماعية تحت غطاء “محاربة الإرهاب” لكنّ العدوان، في حقيقة، يهدف لإزالة غزة من الخريطة السياسية والسكانية، وتحويلها إلى “أرض بلا حياة” تمهيداً لحسم الصراع ديموغرافيا، بينما تُستهدف غزة بالقصف والتجويع. وتعيش الضفة الغربية وجهاً آخر للاحتلال، أكثر خبثاً وأشد صمتا. فهنا لا تُطلق الصواريخ، بل تُزرع المستوطنات. لا تُقصف الأحياء دفعة واحدة، بل تُخنق الحياة بالتدريج، من خلال الحواجز، والمصادرات، والعنف اليومي الذي يمارسه المستوطنون تحت حماية جيش الاحتلال وسياساته. يجري هذا كله في سياق دولي تغذّيه التوترات الأمريكية- الإيرانية، وتعقيدات وتغيرات إقليمية متشابكة.
إنّ ما يحدث من عدوان على الشعب الفلسطيني وقضيته جزءاً من سياسة ممنهجة، تهدف إلى تفريغ الأرض من أصحابها الأصليين. فالاستيطان في الضفة لا يُعدّ مجرد توسّع جغرافي، بل هو تطهير عرقي ببطء، تنفّذه حكومة يمينية متطرفة تحت غطاء “الشرعية الأمنية”. أكثر من 700 ألف مستوطن يعيشون اليوم في مستوطنات غير شرعية وفق القانون الدولي، ومع ذلك تُمنح لهم الحماية، ويُمنع الفلسطيني من الدفاع عن نفسه.
اليوم بات واضحاً أنّ الصهيونية لم تعد مجرد حركة تسعى لتأسيس “وطن قومي لليهود”، كما روّج لها في بداياتها، بل تحوّلت إلى مشروع توسّعي إحلالي قائم على فكرة “الأرض لليهود فقط” و”دولة إسرائيل الكبرى”، بكل ما تحمله من عنصرية وإنكار للآخر. ففي المشهد الحالي، وصلت الصهيونية إلى مرحلة متقدمة من التطرف، حيث باتت العقيدة الدينية المتطرفة والممارسات العنيفة للمستوطنين جزءاً لا يتجزأ من المنظومة السياسية الإسرائيلية.
فالشخصيات المتطرفة مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لم تعُد على الهامش، بل في صلب الحكومة، يشرّعون التطهير ويبرّرون الإرهاب ضد الفلسطينيين. هذه الصهيونية الجديدة، التي يمكن وصفها بالفاشية، لا تكتفي بالهيمنة السياسية والعسكرية، بل تسعى لإعادة تشكيل الواقع السكاني والثقافي لفلسطين بأكملها من ثم التوسّع نحو الإقليم تحت رؤية نابعة من فكر ديني تقوم على عقيدة أنّهم أصحاب الحقّ الإلهي في الأرض وغيرهم دخلاء يجب التخلص منهم فالهجوم ليس فقط على الأرض، بل على الذاكرة، والتاريخ، واللغة، والهوية.
في ظل هذا التصاعد، لم تعد الصهيونية مجرد حركة سياسية، بل تحوّلت إلى نظام هيمنة قائم على العنف، مدعوم من بنى قانونية، وجيش، ومؤسسات، وتحالفات دولية، على رأسها الولايات المتحدة. فهي ليست فقط احتلالا، بل أيديولوجيا متوحشة لا ترى في الآخر إلا عائقاً أمام مشروعها.
إنّ كل ما يحدث على الأرض الفلسطينية، يلوّح بصراع إقليمي أوسع، تُعد الولايات المتحدة وإيران طرفيه الأكثر وضوحا.
ورغم أنّ المواجهة بينهما لم تتحوّل إلى حرب مباشرة، إلا أنّ ميدانها الحقيقي يكمن في مناطق النفوذ، وعلى رأسها فلسطين. الولايات المتحدة، الحليف الأول لـ”إسرائيل”، لا تدعمها فقط بالسلاح والمال، بل تحميها سياسياً من أي مساءلة دولية. ومن خلال هذا الدعم، تسعى واشنطن إلى الحفاظ على “الاستقرار” الذي يخدم مصالحها في المنطقة، حتى لو كان ذلك على حساب دماء الفلسطينيين. فـ”إسرائيل” بالنسبة لها ليست حليفاً فقط، بل قاعدة متقدّمة للنفوذ في الشرق الأوسط. في المقابل، تضع إيران القضية الفلسطينية ضمن خطابها السياسي، وتدعم فصائل المقاومة بما تعتبره “رداً على المشروع الأمريكي الصهيوني” في المنطقة. هذا التموضع الإيراني جعل من غزة، ومن لبنان، وسوريا، والعراق، ساحات اشتباك غير مباشر بين واشنطن وطهران. التوتر بين الطرفين تصاعد بشكل حاد منذ بداية الحرب على غزة، خاصة بعد الهجمات الإسرائيلية المتكررة على دول محور المقاومة كما هو الحال في جبهتي اليمن ولبنان. لكنّ هذا الاشتباك ظل مضبوطا، فلا أحد يريد انفجاراً إقليمياً شاملاً حتى اللحظة. غير أنّ الواقع على الأرض يظهر علناً أنّ الفلسطينيين هم من يدفعون الثمن دائما. فهم وقود هذا الصراع غير المعلن، وضحيته المستمرة.
متلازمة الدعم الغربي والعربي لـ”إسرائيل”
مع كل ما يحدث في غزة والضفة الغربية المحتلة، يلعب المجتمع الدولي دوراً مزدوجا، يراوح بين العجز عن التدخل الفعلي وبين التواطؤ غير المباشر في استمرار الاحتلال وسياساته. فلا شك أنّ الفعل الفلسطيني في مواجهة الاحتلال يمثّل تحدياً كبيراً للقوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، التي تصر على تقديم الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني.
ومن جهة أخرى، نجد المواقف العربية والإسلامية غارقة في حالة من التردد والعجز المميت. على الرغم من أنّ القضية الفلسطينية تشكّل محور اهتمام كبير في الخطاب العربي، إلا أنّ العديد من الأنظمة لا تملك الجرأة السياسية أو القدرة على اتخاذ مواقف حاسمة ضد الاحتلال الإسرائيلي. إذ تبدو الخطابات العربية مشوشة، وغالباً ما تقتصر على بيانات استنكار أو دعوات لوقف العدوان، بينما يغضّ المجتمع العربي الطرف عن التواطؤ غير المباشر عبر العلاقات الاقتصادية والتجارية مع “إسرائيل”، أو حتى التعاون الأمني في بعض الحالات. وإذا نظرنا إلى بعض الدول في منطقة الخليج، نجد أنّها تطوّر علاقات علنية مع كيان الاحتلال أو ما يُعرف بالتطبيع العربي- الإسرائيلي، وتزيد من الاستثمارات والمشاريع المشتركة في عدة مجالات. هذه المواقف لا تتعلق فقط بالعجز، بل بالتواطؤ الصريح الذي يدعم “إسرائيل” في مواجهة المحور المعادي لها.
أما على الصعيد الدولي، فالوضع لا يختلف كثيرا. ففي وقت تحاول فيه الأمم المتحدة بذل جهد لإظهار الاهتمام بالقضية الفلسطينية، تبقى قراراتها غير ملزمة. ورغم إدانتها المبدئية للمستوطنات الإسرائيلية، والإبادة الجماعية للفلسطينيين لم يترجم أي قرار صادر عنها إلى فعل حقيقي على الأرض. هذه المؤسسة الدولية التي يسيطر عليها اللاعبون الأقوياء، مثل الولايات المتحدة، تتسم بعجز غير مسبوق في مواجهة مشروع الاستيطان الإجرامي في الضفة الغربية المحتلة، أو تصعيد العدوان على غزة.
أما الاتحاد الأوروبي، الذي يمثّل كتلة كبيرة من القوى السياسية والاقتصادية، فقد تجنّب اتخاذ خطوات جادة في الضغط على “إسرائيل”. حتى بعض الدول الأوروبية التي أظهرت شيئاً من القلق من توسّع الاستيطان أو العدوان، تبقى مواقفها ضبابية وضعيفة.
عندما نضع كل هذه المعطيات، نكتشف أنّ ما يحدث في فلسطين ليس مجرد صراع محلي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل هو جزء من حرب أوسع على الهوية، الأرض، والمستقبل. فالصهيونية، بتطرفها الجديد، تُدير المشروع الاستعماري في فلسطين، بينما القوى الدولية والإقليمية تتلاعب بتوازناتها السياسية على حساب دماء الفلسطينيين. المجتمع الدولي ليس غافلاً عما يحدث، لكنّه يبدو غير مهتم بتغييره. والأنظمة العربية ليست أكثر من شهادات زور صامتة، والأنظمة الغربية شريكة فعلية في توطيد الاحتلال وتوسيع نطاقه.
والنتيجة الواضحة على أرض الواقع أنّ فلسطين، مع كل التوترات الإقليمية والدولية، تبقى في قلب المعركة: أرض للقتل، والمساومات، والأيديولوجيات المتصارعة فإلى متى سيُترك الفلسطيني وحده في مواجهة مشروع استعماري متكامل؟.