
فصل آخر من الحرب يجري في الضفة ، بقلم : صفاء أبو شمسية
بينما تتجه الأنظار إلى قطاع غزة، حيث مشاهد الدمار والدماء تطغى على كل ما عداها، تشهد الضفة الغربية فصلاً آخر من فصول المعاناة، أقل صخبًا لكنه لا يقل قسوة. الصمت الذي يلف مدن الضفة لا يعني هدوءًا، بل يخفي تحته واقعًا متوترًا، يتجلى في الاقتحامات المتكررة والمداهمات الليلية التي تنفذها قوات الاحتلال بلا هوادة، في مشهد بات مألوفًا رغم فظاعته.
في برقين، كما في مخيم عسكر، لا جديد يُذكر سوى تكرار الألم. شباب يُنتزعون من بيوتهم، عائلات تعيش على وقع الخوف اليومي، وأحياء تسهر على أزيز الجنود بدل أصوات الطمأنينة. ما كان يُظن أنه خاص بغزة وحدها، أصبح حاضرًا أيضًا في الضفة، وإن اختلفت الأدوات. فهنا، لا طائرات ولا قصف، لكن الأثر لا يقل وجعًا.
اللافت أن هذه الإجراءات تتواصل رغم انشغال الاحتلال بمعاركه في غزة، ما يشير إلى سياسة مدروسة أكثر منها عشوائية. وكأن التوتر بات فرصة لإعادة ترتيب الأوراق الميدانية، وترسيخ حضور أمني وسياسي في مناطق تشهد هشاشة متزايدة. لا تقتصر هذه التحركات على البُعد الأمني، بل تتصل برؤية أشمل تهدف إلى فرض وقائع جديدة على الأرض، مهما كان الثمن على حياة الناس واستقرارهم.
الاحتلال، كما يبدو، لا يفوّت لحظة فراغ إعلامي. يعلم جيدًا أن غزة تتصدر العناوين، وأن صرخات الضحايا هناك تحجب ما يجري في الأزقة الضيقة للضفة. وهو ما يمنحه هامشًا أكبر للتحرك بهدوء، دون مساءلة أو ضغط خارجي حقيقي. فالمأساة حين تصبح اعتيادًا، تفقد القدرة على إثارة الاهتمام، وهذا ما يُراهن عليه الاحتلال في الضفة.
وإن بدا أن الضفة تعيش على هامش النكبة المستمرة في غزة، إلا أن الواقع الميداني يروي قصة أخرى. لا وجود لاستقرار حقيقي، ولا ملامح واضحة لحياة طبيعية. الاحتلال لا يتوقف عن محاولة فرض هيمنته، سواء عبر العنف المباشر أو من خلال أدوات السيطرة اليومية، من الحواجز إلى حملات الاعتقال، ومن القيود الاقتصادية إلى الحصار الصامت.
أما الاقتصاد، فحاله في الضفة ليس بأفضل من غزة، وإن كان بعيدًا عن مشهد الدمار المادي الصريح. في مخيمات اللاجئين خصوصًا، يبدو أن الحياة تسير على حافة الانهيار. اكتظاظ، فقر، بطالة، وغياب لأبسط مقومات العيش الكريم. المساعدات قليلة، والفرص معدومة، والواقع أشبه بحياة مؤجلة، تنتظر ما لا يأتي.
في هذه المخيمات، لا يحتاج الفلسطيني إلى مشهد قصف ليشعر بالخطر. يكفيه أن يفتح باب بيته صباحًا، ليواجه يومًا جديدًا بلا كهرباء، بلا ماء، بلا عمل. الأجور بالكاد تكفي، والأسعار ترتفع، والهمّ الأكبر: لا أحد يرى. لا دولة، ولا مؤسسة، ولا حتى عدسة كاميرا.
قد يظن البعض أن الضفة ما زالت في منأى عن المصير الذي تعيشه غزة. لكن الحقيقة أن الفارق الوحيد هو أن الطائرات لم تحلق بعد. أما الأرض، فتمضي في مسار شبيه: اجتياحات، عسكرة للحياة، ومشهد يومي يُراد له أن يصبح طبيعيًا، رغم كل ما فيه من تضييق لسبل العيش.
إسرائيل، كما يظهر، تدير الضفة كمنطقة اختبار طويل الأمد. تراقب ردود الأفعال، تضبط مستوى الضغط، وتقرر متى تُفرج قليلًا، ومتى تُحكم القبضة. أما المخيمات، فتبقى القلب المكشوف لهذه المعادلة، تدفع الثمن الأكبر، لأنها ما زالت شاهدة على اللجوء، على النكبة، وعلى قصة لم تكتب لها نهاية.
ويبقى السؤال معلقًا: إلى متى يُسمح لهذا المشهد أن يستمر وكأنه جزء من الواقع العادي؟ متى يتوقف العالم عن التعامل مع الضفة كقضية فرعية، لا تستحق الضوء الكامل؟ الخطر ليس فقط في ما يُمارس، بل في ما يُهمل، في ما يُطبع معه دون أن يثير الغضب، وكأن ما هو غير طبيعي أصبح أمرًا معتادًا.