
أيُّ عيدٍ يَجيءُ وغزّةُ تلفظُ أنفاسَها الأخيرة؟ بقلم : الأستاذ جندل صلاح
أيُّ عيدٍ يَجرؤُ أن يطرُقَ أبوابَنا، ونوافذُ غزّةَ مفتوحةٌ للريحِ والموتِ، وسقوفُ البيوتِ فيها غدتْ نجوماً متكسّرةً تحتَ ثقلِ القنابل؟ بأيِّ وجهٍ يأتي، وفي الأزقّةِ الصغيرةِ أطفالٌ تَيتَّموا قبلَ أن يعرفوا معنى الطفولةِ، وصغارٌ كُتبت أسماؤهم على الأَكفانِ بدلاً من بطاقاتِ التهاني؟ بأيِّ حالٍ جئتَ يا عيدُ، وأعينُ الأمهاتِ هناك تَغْرقُ في سوادِ الدموع، وأيديهنَّ تَتَلمَّسُ صُوَرَ الصغارِ كأنها تستجدي أطيافَهم كي تعود؟
يا عيدُ، أيُّ حزنٍ تحملهُ غزّةُ في راحتيها، وأيُّ ألمٍ يسكنُ عظامَها التي تكسَّرت تحتَ رُكامِ البيوت؟ كيفَ لألوانِ العيدِ أن تَزهو في مدنِنا، وثيابُ أطفالِ غزّةَ هي بياضُ الأكفانِ؟ كيفَ للحلوى أن تُوزَّعَ في ساحاتِنا، وطُعمُ الموتِ يتجرَّعُه صغارُهم معَ كلِّ فجرٍ دامٍ؟
غزّةُ لا تعرفُ الفجرَ إلا وهو يصرخُ من تحتِ الأنقاضِ، لا تعرفُ النورَ إلا وهو يتسلَّلُ خجِلاً بينَ الجدرانِ المهدّمة، لا تعرفُ الحياةَ إلا كأنها حلمٌ مستحيل. في غزّةَ، لم يَعُد للعيدِ نَكهةُ الزعترِ والكعك، بل صارَ طعمُه مرارةً في الحَلقِ، وغصَّةً في القلب، ووجعاً يضربُ عُمقَ الأرواحِ فلا يَبرحُها.
أيُّ عيدٍ يُحاولُ أن يُقنِعَنا بالفرحِ، ومآذنُ غزّةَ تَرفعُ الآذانَ على أرواحِ الشهداءِ أكثرَ مما تَرفعُ نداءَ العيد؟ أيُّ عيدٍ يُحاولُ أن يَلبَسَ ثوبَه المزيّنَ بالألوانِ، ومدارسُ غزّةَ تحوَّلت إلى مقابرَ جماعيّة، والمقاعدُ الخاليةُ تُحدِّقُ في السقفِ وتنتظرُ أصحابَها الذين لم يعودوا؟
كيفَ نحتفلُ والعالمُ صامتٌ صمتَ القبور، يراقبُ الدمَ المسفوكَ كما لو كانَ مَشهداً عابراً في نشراتِ الأخبار؟ كيفَ نُضيءُ فوانيسَ العيدِ، وسماءُ غزّةَ لا تعرفُ إلا وهجَ القنابلِ، كيفَ نفرحُ وأطفالُنا يَعدُّون العُدَّةَ للعيد، وأطفالُ غزّةَ يَعدُّونَ أسماءَ رفاقِهم الذين رحلوا؟
يا عيدُ، إما أن تأتيَ بغفرانِ اللهِ لهذه الأرضِ المثقلةِ بالحُزنِ، وإما أن تَتَوارى في زَوايا النسيانِ، حتى تَعودَ غزّةُ كما كانتْ، تَغْسلُ وجهَها بماءِ البحرِ لا بالدّم، وتُزهرُ ضحكاتُ أطفالِها كأزهارِ الربيعِ لا كصدى الوجعِ.
اللهمَّ فرجُكَ الذي وعدت، ورحمةٌ تُعيدُ لسماءِ غزّةَ نجومَها المضيئة، ولأرضِها أمانَها المسروق، ولأطفالِها ضحكاتٍ لا يَقطعُها صوتُ القنابل، يا ربُّ اجعلْ لنا عيداً لا يُلبسُ فيه الأطفالُ الأكفان، ولا تَرتدي فيه الأمهاتُ ثيابَ الفقد، عيداً لا يُزفُّ فيه الأحبابُ إلى القبور، بل إلى الحياةِ التي وُعِدوا بها.