
جبر الخواطر ، نهرٌ من نورٍ يروي ظمأ القلوب ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في دروب الحياة الطويلة، حيث تتقاذفنا الأيام بين أمواج الأقدار، وتلقي بنا في مرافئ الحزن تارةً، وتمنحنا بسمةً عابرة تارةً أخرى، يبقى جبر الخواطر ضوءًا لا يخبو، وشعاعًا يتسلل إلى زوايا القلوب المثقلة، كأنَّه شمسٌ دافئة تشرق بعد ليلٍ حالك، أو نسمةٌ باردة تداوي وهج القيظ في صحراءٍ جرداء. إنَّ جبر الخواطر ليس مجرد كلمةٍ تُقال أو يدٍ تُمدّ، بل هو رسالة حبٍّ تُكتب على جدران الزمن، تظلُّ شاهدةً على أنَّ الإنسانية لا تزال تنبض بالرحمة، وأنَّ العطاء، مهما بدا صغيرًا، يخلّد أثره في ذاكرة الكون.
كلُّ قلبٍ منكسر هو صفحةٌ تحتاج إلى لمسةِ لطفٍ تعيد ترتيب حروفها المبعثرة، وكلُّ روحٍ متعبة هي قاربٌ يبحث عن مرفأٍ آمن وسط عواصف الحياة. حينما تجبر خاطرًا، فإنَّك لا تضيء طريق غيرك فحسب، بل تضيء دربك أنت أيضًا، لأنَّ النور الذي تهديه يعود إليك يومًا، ولو بعد حين. وكما أنَّ البذور التي نزرعها اليوم تنمو في غدٍ لا نراه، فإنَّ الكلمات الطيبة التي نهمس بها في آذان الآخرين تظلُّ تنمو في أرواحهم، تُزهر حين يحتاجونها، وتفيض عطرًا لا ينضب.
ليس عبثًا أن قال النبي ﷺ: الكلمة الطيبة صدقة، فالكلمات الطيبة لا تخفت، بل تسكن الأرواح كأنَّها نجومٌ في سماءٍ معتمة، تهدي الحائر، وتؤنس الوحيد، وتمنح الأمل لمن كاد أن يفقده. أثبتت الدراسات الحديثة أنَّ الإنسان حين يسمع كلمات إيجابية، ينشط لديه الجهاز العصبي، ويزداد إنتاج هرمونات السعادة، مما يعزز جهاز المناعة لديه. فالكلمة الطيبة ليست مجرد صوتٍ عابر، بل هي بلسمٌ يسري في العروق، يحيي النفوس الذابلة، ويغسل عنها غبار الهموم. تخيَّل أنَّ جملةً واحدةً قد تنقذ شخصًا كان على حافة الانهيار، أنَّ نظرة حانية قد تمسح عن جبينه سحابة الحزن، أنَّ يدًا تُربَّتُ على كتفٍ مثقلٍ قد تعيد لصاحبها الإيمان بالحياة!
جبر الخواطر لا يحتاج إلى كثيرٍ من المال، لكنه يحتاج إلى كثيرٍ من النُبل، إلى قلبٍ يُحسن الإصغاء قبل أن يُحسن الحديث، إلى روحٍ تُضيء بوجودها حتى وإن لم تتكلم، إلى إنسانٍ يدرك أنَّ أعظم العطايا ليست تلك التي تُمنح بالأيدي، بل تلك التي تُبذل بالقلوب. وحين تُسارع إلى رفع عثرةٍ عن طريق أحدهم، أو تهمس له بكلمةٍ تردُّ له ثقته بنفسه، فأنت في الحقيقة لا تواسيه وحده، بل تواسي روحك، لأنَّ كل ساقٍ سيسقى بما سقى، وكل رحمةٍ تمنحها ستعود إليك في اللحظة التي تحتاجها.
فلا تؤذِ أحدًا، ولا تكن سببًا في انطفاء روحٍ كانت تحاول أن تضيء، لا تُثقل قلبًا بما لا يحتمل، ولا تكسر جناحًا بالكلمة كما يُكسر الزجاج بالحجر. كن عابرًا خفيفًا على القلوب، كنسمةِ ربيعٍ تحمل عطر الورد، كغيمةٍ تمطر في صيفٍ قائظ، كضوء قمرٍ يتسلل إلى نافذة من أرهقه السهر. كن ذلك الأثر الطيب الذي لا يُنسى، كن الجمال الذي يُقال عنه بعد سنوات: “لقد كان هنا شخصٌ رائع، ترك بصمةً لا تُمحى”.
إنَّ الحياة ليست سوى انعكاسٍ لما نمنحه، والأيام ليست سوى دفاتر تحفظ أفعالنا، فازرع الخير ولو في أرضٍ قاحلة، وتيقن أنَّ الله يسوق إليك الفرج من حيث لا تحتسب، في وقتٍ لم تكن تتوقعه. وما أجمل أن يكون لك في كل قلبٍ بصمة، وفي كل ذاكرةٍ ذكرى طيبة، وفي كل دعاءٍ اسمك دون أن تعلم!