
حين يترك المعلم أثرًا خالدًا ، الدكتور فايز عقل رحمه الله ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
هناك أشخاص يمرّون في حياتنا مرور العابرين، وهناك من يتركون بصمة لا تمحوها الأيام، وأثرًا لا يبهت بمرور الزمن، وذكرى تبقى نابضة بالحياة رغم الغياب. ومن هؤلاء الذين كان لهم أطيب الأثر وأعمقه في مسيرتي الأكاديمية، أستاذي الفاضل الدكتور فايز عقل رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
حين كنتُ طالبة ماجستير في جامعة النجاح الوطنية، كنتُ محظوظة أن أدرس على يد هذا الرجل الذي جمع بين الهيبة والتواضع، وبين الوقار والرحمة، وبين قلة الكلام وعظمة الأثر. لم يكن مجرد أستاذٍ يلقّن طلابه المعلومات، بل كان مُعلمًا بالفطرة، يزرع المعرفة بحكمة، وينثرها بتأنٍ، ليترك في كل طالبٍ بذرته التي ستنبت علمًا ونورًا على مر السنين.
من بين اللحظات التي لا تزال عالقة في ذاكرتي، موقف طريف لكنه حمل في طياته رسالة لا تُنسى. كان ذلك في أول اختبارٍ لي في مادته، وكانت الأعصاب مشدودة، والأنفاس محبوسة انتظارًا للنتائج. دخل الدكتور فايز إلى القاعة بهدوئه المعتاد، يحمل في يده أوراق الامتحان، وجلس بنظرته العميقة التي تخفي خلفها الكثير من الفكر والحكمة. ثم قال بصوته الرصين: “أحسنتم، ولكن شدّوا الهمة أكثر!”، ثم التفت إليّ قائلًا: “أين تهاني بشارات؟”
في تلك اللحظة، لا أعلم ماذا حدث بدقات قلبي، لكنها كانت تدقّ وكأنها تحاول اللحاق بكلماته. أجبتُ بخجل، فقال: “لقد حصلتِ على 18 من 20، ولكن…” وهنا توقفت أنفاسي للحظة، ثم أكمل بابتسامته الهادئة: “أشكركِ على خطكِ الجميل والواضح، أنتِ تستحقين العلامة الكاملة لهذا الخط!”.
لم أكن أعلم حينها هل أفرح بالعلامة أم بالإطراء أم بالدعوة المستجابة من أمي في ظهر الغيب! لكني أدركت أن الدكتور فايز لم يكن فقط يمدح خطي، بل كان يبعث برسالة مبطنة للجميع عن أهمية الخط الواضح في التعبير عن المعرفة، وكأنما كان يقول بطريقة غير مباشرة: “العلم لا يكتمل إلا إذا أوصلته بوضوحٍ وجمال”.
وما زالت نظرات زملائي في تلك اللحظة محفورة في ذاكرتي، ليس فقط لأنها حملت دهشةً وفرحة، بل لأنها شهدت على معلمٍ يعرف كيف يعزز طلابه ويزرع الثقة فيهم بأبسط الكلمات.
ومن المواقف الأخرى التي لا تُنسى، ذلك اليوم الذي طُلِب منا أن نحضر جزءًا من المادة ونشرحه أمام الزملاء. كان الموقف مهيبًا، والتجربة جديدة، لكنني وقفت أمام المرآة لساعات، أُعيد التحضير وأتدرّب، لأكون على قدر التحدي أمام أستاذ بحجم الدكتور فايز.
وحين وقفتُ أخيرًا أمام زملائي، شعرتُ أن كل ما حضرته قد اختفى فجأة! لكنني استجمعت أنفاسي، وبدأت الشرح بحماس، مستخدمةً الرسوم التوضيحية، والمخططات، والملخصات التي أعددتها بعناية. وما إن انتهيت، حتى نظر إليّ الدكتور فايز نظرةً حملت في طياتها الكثير، ثم قال بصوتٍ يحمل تقديرًا صادقًا: “أحسنتِ يا تهاني، طريقة شرحكِ رائعة، والتنظيم الذي استخدمتِه في التوضيح يستحق الإشادة!”
في تلك اللحظة، شعرتُ وكأنني لم أكن مجرد طالبة تُلقي عرضًا، بل كنتُ معلمةً ناشئة تتلقى الإشادة من أستاذها الكبير. ولا يمكنني أن أنسى دعم صديقتي العزيزة حنان الصفدي، التي كانت دومًا تشجعني وتقف بجانبي في كل خطوة.
رحمك الله يا دكتور فايز عقل، فقد كنتَ معلمًا من طرازٍ نادر، تترك أثرًا في القلوب قبل العقول، وتعزز الثقة في طلابك بلمساتك الإنسانية الراقية. لم تكن مجرد أستاذٍ، بل كنتَ مدرسةً في العلم، والأخلاق، والإنسانية.
شكرًا لك من القلب، فقد كنتَ بصمةً خالدة في مسيرتي العلمية، وأثرًا طيبًا لا يُمحى من ذاكرتي، ولا من ذاكرة كل من حظي بشرف التعلم على يديك.