” لا يمكننا أن نفهم فكر كاتب ما وأعماله من خلال الكتابات، أو حتى على مستوى القراءات والتأثيرات، إلا كمظهر جزئي لواقع أقل تجرداً هو الإنسان الحي الكامل، وهذا ليس بدوره سوى عنصر من الكل الذي هو المجموعة الاجتماعية.” / الإله الخفي/ لوسيان غولدمان
1
استعيد تلك اللحظات التي كنت خلالها في بدايات تطلعاتي وبساطتها، استمع بشغف لتغريد(بلبل.. محطة دار الإذاعة العراقية) في أولى لحظات بثها الصباحي بإشارتها الجميلة المميزة تلك ، والتي تختفي صباح 14 تموز 1958 ليحل بدلاً منها، صوت متخشب أجش وبصراخٍ عالٍ، ويعلن البيان الأول لثورة (العسكر) التي فتحت أبواباً متعددة للسعادات، والهناءات، والتحولات والحركات الاجتماعية، المقموعة سابقاً، فضلاً عن ضروب شتى من النشاطات المدنية والحضارية، التي لا عهد ولا تراث للعراقيين بها، لكنها مع الأيام التي تلت ارتبطت بالجحيم الذي فُتحَ على العراقيين،شتى أنواع المظالم والحيف والانتهاكات، وطالهم جميعاً دون تمييز، وما يزال مُشرعاً حتى اللحظة. كنا، بعض أبناء فقراء محلة (الفيصلية)، قبل أن تتحول إلى (الجمهورية)، بتلك الرؤوس الحليقة والأجساد الهزيلة، والعيون التي استوطنها التراخوما، والملابس التي تعلوها الخصاصة، نفكر، بمستوى أعمارنا، ونعمل فنصدر بأيدينا، تحت شمس (الفيصليّة) وبين سواقي أزقتها الآسنة،التي تشطر طرقها الترابية إلى نصفين، مجلات تزيّنها تخطيطات ورسوم بألوان مائية وألوان أخرى غيرها، يحسبها غيرنا الآن وكأنها بمستوى مشاريع وزارات. شَفنا ذلك الصباح التموزي الذي غير كثيراً من تطلعاتنا وتوجهاتنا ومستقبل بعضنا ومصائرنا الشخصية، ففي فورة (مراهقتنا) وجموحها الذي لا يحد تهرأت أحذيتنا من الركض في المسيرات ولوحتنا الشمس البصرية الحارقة التي كنا تحتها إلى ما بعد العصر نصرخ بأعلى ما نستطيع بأصوات مبحوحة، وحناجر أكل منها العطش، دفاعاً عن ذلك (الصباح) الباهر الذي كنا نعتقد ، بنقاء وطيب سريرة وبراءة ،أن (العسكر) أهدوه لنا، ولوطننا دون منةٍ، لكنهم شيئاً فشيئاً سرقوه منا وسرقوا معه كل الأحلام والآمال والتمنيات. لاهتماماتنا الثقافية بتنا نتابع الكتب والصحف والمجلات المتعددة التي لا عهد لنا بها، ونقرأ أسماء جديدة..أسماء لامعة تنطوي كتاباتها على الإخلاص والحماس والجديد علينا وتمدنا بزاد من المعرفة بات رصيدنا في توجهاتنا الفكرية والثقافية القادمة، أسماء أثق إن الأجيال الراهنة لم تعرف عنها وأعمالها ونشاطاتها الاجتماعية والثقافية-الفكرية شيئاً ما. ثم بعد سنوات تلقفت بعضنا المواقف وغرف التعذيب والمهانات التي لا حصر أوعد لها ، والسجون والفصل التعسفي من مدارسنا، واختفت تلك الأسماء وبات ما صدر عنها ومنها بمثابة أدلة جرمية تطال كل من يعثر عليه وهو يقرؤها أو يتحدث بها، أسماء كثيرة طوتها الغربة والإهمال المتعمد وغيبها التعسف والضيم والأهوال والغدر، ونال من بعضها الموت بوحشية لا مثيل لها.. ولكن:
” إن كان هو الموت دائماً
فهو يأتي تالياً.
الحرية ، أبداً ، هي الأولى .” يانيس رتسوس
2
كنت غالباً ما اردد مقطعاً من شعر لشاعر اسمه” الفريد سمعان” حفظته، بعد أن قرأته في مجلة” “المثقف” التي تصدرها جمعية الخريجين العراقيين، بورق اسمر وغلاف من الكارتون وسعر زهيد ومضمون راقٍ. كان ذلك المقطع الشعري منسجماً مع تلك الأيام وفورتها وتوجهاتها، نبهني جارٌ لنا، وهو الشقيق الكبير، لأحد أقراني، ويعمل معلماً:أن هذا الشاعر”بصراوي” وكان زميله في الإعدادية المركزية بالعشار!. عندها انخطفتُ بالشاعر وفي حدود وعيي وعمري ذلك الزمان. ذات عصر بصري ، وأنا حينها الفتى، في طريقي نحو السينما في (العشار)،رأيت مجموعة شعرية معروضة عند بائع الصحف “سالم” وكان يتخذ من نهاية سوق “الهنود”، وقرب محل لبيع(الكاري والتوابل الهندية) مكاناً له، وقبل أن أمد يدي نحوها قرأت عنوانها فكان “كلمات مضيئة” فزادني العنوان شغفاً، ثم استفسرت عن سعرها فأخبرني “سالم” انه (100) فلساً. حاولت جاهداً مع “سالم” أن يخفض لي من سعرها (10) فلوس فقط ، أجرة عودتي إلى “الجمهورية” في باصات “مصلحة نقل الركاب الحكومية ” فأبى ذلك نهائياً. ودفعت ثمنها ولم أكن أملك غيره، وتوجهت مشياً إلى دارنا بعد أن سجلت تاريخ اقتنائي “كلمات مضيئة” على صفحة ما بعد الغلاف المصمم من قبل الفنان(يحيى جواد)، وكان كما أراه، إمامي محتفظاً به كل تلك السنوات التي تتجاوز نصف قرن ، مكتوباً بالحبر الأزرق مع توقيعي البسيط عليه (3 /4 /1960). عدت مشياً على قدميَّ بين غابات بساتين النخيل التي كانت تفصل “العشار” عن “الجمهورية” منتشياً وأنا أجوب تلك البساتين العامرة بالخضرة ، والترع الجميلة الصغيرة ، وأقرأ “كلمات مضيئة” وذلك الإهداء الذي نصه:
” إلى الطليعة
الظافرة
السائرة
في طريق الشمس
نحو غد أفضل.”(الفريد)
أستاذنا الفاضل الراحل الدكتور “صلاح خالص” كتب مقدمة المجموعة الشعرية وعنونها بـ(كلمة) مؤكداً فيها ” انه يقدم في هذه الصفحات وجهاً مضيئاً من وجوه الأدب العراقي المعاصر في “كلماته المضيئة” التي استوحها من كفاح الشعوب الفتية ونضالها المرير من اجل الحرية والسعادة والرفاهة ولاسيما كفاح الشعب العراقي الجبار ونضاله البطولي وتضحياته الجسام في سبيل توفير حياة أفضل لأجياله القادمة، استوحاها الشاعر من هذا الوطن الذي عاش فيه هذا الشعب النبيل مُروياً تربته من عرق عماله وفلاحيه ومخضباً بطاحه بدماء أبطاله الذين ذادوا عنه عبر القرون..استوحاها (الشاعر) من هذه التربة العطرة الكريمة.”(ص2 -3). كما يذهب أستاذنا الراحل د. خالص إلى أن لشعر ( الفريد) قيمة خاصة ومنزلة متميزة، لأنه جمع في ” كلماته المضيئة” بين الجماهيرية والإخلاص، جمع بين الروح الجمعية الواسعة وبين الإحساس الخاص الذي امتزجت فيه المشاعر الفردية بشعور الجماعة ولم تختفِ فيه أو تضيع في طياته، وان أهم العناصر التي تتفتح فيها شخصية الشاعر (الفريد) وأصالته الفنية هي تحسسه بالموسيقى اللفظية، ومحاولته استنزاف ما في الألفاظ من قوة تعبيرية، لا بما تحمل من معان لغوية فحسب، بل بجرسها وموسيقاها، وغالباً ما تكون نتيجة ذلك في شعره ، قوة في الفكرة وتحمساً لها ووضوحاً في المعنى ورقة في التعبير وبساطة محببة، قد تتجاوز حدها أحياناً، وتكون كلها الصفات المميزة لفن(الفريد) الشعري.
3
“ها أنت
مشحون بصندوق الحديد
تغادر صدرك الأنفاس
يخنقك الغبار
ترافق رحلة الأحزان والحسرات
والذكرى
وتأريخاً
تكبله المواجع والسجون
وصيحة الغضب الدنيء
أتموت دون أن يلقي عليك صغارك
نظرة
وتصيح زوجتك الحنون
لا ترحل…أريدك أن تعيش.” الفريد سمعان
منذ العام 1952 والأستاذ “الفريد سمعان” يمارس العمل الصحفي ، واصدر المجاميع الشعرية التالية: في طريق الحياة/ 1952/ قسم 1954/ رماد الوهج 1957 /كلمات مضيئة1960 /طوفان 1962/أغنيات للمعركة 1968 / عندما ترحل النجوم 1971 /الربان 1967 /مراحل في درب الآلام1974،وأصدر كذلك مسرحية شعرية، وثلاث مجاميع قصصية. الأستاذ “الفريد سمعان”، الذي يعقد (المربد التاسع) في البصرة بتاريخ 9-11/ أيار/ 2012 ويحمل اسمه لما يتمتع به من حضور ونشاط حياتي- ثقافي ونضالٍ وطني وتأريخ مشرف، قد طوحت به السنوات بين سجون عدة منها: سجن الكوت، ومعتقل خلف السدة ، وكان (ضيفاً)على (قطار الموت) بعد إعصار 8شباط 1963 الدموي نحو نقرة السلمان، وسائق القطار حينها، كما تؤكد الوثائق التي كشفت بعد سقوط النظام ، كان العراقي النبيل(عباس المفرجي) الذي علم، بطريقة ما، أن بضاعته (بشر) وأنها أرقى وأخلص وأنبل العقول والشخصيات العراقية ، والتي وضعتها أخطاء تاريخية قاتلة في جحيمها هذا ، فقرر أن يسبق بحمولته الغنية تلك ، غدر وانقضاض (طائر الموت) الذي كان يحوم حول قطاره، وحقق ما أراده وقرره بشهامة نادرة في محطة قطار (السماوة). ومن (نقرة السلمان) ، بعد سنوات نقل (الفريد) إلى سجن الحلة وسجون ومواقف عراقية لا عد لها ، ومع كل ذلك لم تتلطخ يده وضميره وروحه بمغانم وولائم اللئام في زمن النظام المنهار أو هذا الزمان. يبقى الأستاذ “الفريد سمعان” بالنسبة لجيلنا، الذي بدأ يدشن كهولته ، مثالاً على السجل الحياتي المشرف الناصع، بالترافق مع عفة اليد ونقاء السمعة و الثبات المبدئي الراسخ ، رغم كل العذابات والمحن التي تعرض لها، والأيام والسنوات المرة القاسية التي طالته بوحشيتها وعذاباتها ومراراتها ولم تهز قناعاته الراسخة، دائماً، بمستقبل وطنه وشعبه.
* شهادة قدمت إلى مهرجان ” المربد التاسع”