
البحث عن الهوية في رواية مرايا القدس ، سفر سقوط الأقنعة للكاتب الجزائري علي فضيل العربي ، بقلم : بديعة النعيمي
تعد الهوية من الموضوعات المحورية في الرواية العربية. حيث تعكس تحولات الفرد والمجتمع في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية. فمنذ بدايات الرواية العربية كانت الهوية الوطنية قد لعبت دورا أساسيا، خاصة في ظل الاستعمار الأوروبي.
وقد سعت الرواية إلى تصوير معاناة الشعوب العربية في البحث عن استقلالها وترسيخ ذاتها. فمثلا في رواية رجال في الشمس للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ظهرت أزمة الهوية الفلسطينية في ظل الاحتلال واللجوء. حيث عانى الفلسطيني فقدان الوطن والبحث عن معنى للوجود من خلال البحث عن هويته التي فقدها.
أما في الرواية التي بين أيدينا والموسومة بمرايا القدس للكاتب علي فضيل العربي فإن قضية البحث عن الهوية قد تجسدت من خلال بطل الرواية الطبيب سعيد الخديم الذي يواجه أزمة وجودية بعد أن يفقد رؤية وجهه في المرايا بعد السابع من أكتوبر/٢٠٢٣. حيث يشكل هذا التاريخ نقطة فاصلة في التاريخ العربي المعاصر ليس فقط على مستوى المقاومة الفلسطينية بل أيضا على مستوى كشف مواقف الحكومات العربية المتخاذلة التي لم يكتف بعضها بالصمت عما حدث في غزة بل وساهمت في زيادة المعاناة فيها من خلال دعم العدو سواء عن طريق مد خطوط المساعدات إلى كيانهم الغاصب أو من خلال تواجد قواعد أميركية غربية على أرضها لمد العدو بالأسلحة التي فتكت بأهلنا هناك.
فكأنما أراد علي فضيل لبطله سعيد الخديم أن يمثل شريحة الشعوب العربية المغلوبة على أمرها والمقهورة التي يبكتها ضميرها لأنها كانت في موقع المراقب لوحشية العدو في غزة دون استطاعتها فعل شيء لها بسبب القيود التي فرضتها حكوماتها عليها. وبالتالي شعورها بفقدان هويتها وسط هذا العجز.
فالبطل سعيد الخديم كأنما فقد ذاته القديمة التي اختفت مع التحولات التي طرأت بعد السابع من أكتوبر. وهذا بحد ذاته يحمل رمزا عميقا يشير إلى الضياع النفسي والسياسي، حيث وجد نفسه خارج سياقها الطبيعي، وهنا تتبلور أزمة الهوية لديه والذي يمثلها ضياع وجهه في المرايا.
ويظهر الحل عندما تبدأ رحلة البحث عن الهوية عند سعيد الخديم عندما يخبره شيخه أبي الحسن الزياتي أن وجهه لن بظهر مجددا إلا في مرايا القدس. ففي ص٢٢ على لسان السارد عن سعيد الخديم “قرر السفر إلى القدس لرؤية وجهه، هناك سيرى وجهه الحقيقي”. وفي ص٤٢ على لسان أبي الحسن الزياتي لسعيد الخديم في المنام “لن ترى وجهك بعد اليوم ما دمت هنا قائما”. وعندما سأله سعيد عن الحل، قال الشيخ “تسافر إلى القدس، هناك سوف تعيد لك مرايا القدس وجهك المفقود يا سعيد، يا بني”.
والمرايا في رواية علي فضيل ليست مجرد أداة لرؤية الانعكاس، بل هي رمز للحقيقة، للهوية، وربما للمواجهة مع الذات.
ويتجلى هذا ص٥ على لسان الشيخ الزياتي لسعيد الخديم “وتكون مرآتك هناك في القدس ستكتشف أن وجهك الماضي كان وجها مزيفا…كل الذي تراه في المرايا كان مزيفا، لا يعكس الحقيقة، وعندما عزمت الذهاب إلى القدس وسرحت قلبك، أدركت أن الظلام الذي حجب عنك الدروب المفضية إلى القدس قد بدأ الذوبان والانزياح عن بصرك”.
ويمثل سعيد الخديم حالة من الهوية المزدوجة. فهو جزائري، لكنه يشعر بانتمائه العميق لفلسطين، مما يعكس العلاقة التاريخية بين البلدين. وهذه الازدواجية لا تعني الانفصال بل تعكس التكامل بين النضالات العربية. فكما قاومت الجزائر الاحتلال الفرنسي فإن فلسطين تقاوم الاستعمار الإحلالي الصهيوني منذ ٧٦ عاما.
وتبدأ رحلة سعيد الخديم للبحث عن هويته في مرايا القدس حين يسافر إلى القاهرة ويدخل غزة عن طريق معبر رفح كعضو في حملة أطباء بلا حدود، في محاولة للوصول إلى المدينة التي طالما سكنته روحيا.
ويرتبط فقدان الوجه بفقدان الانتماء واليقين، مما يجعل رحلة سعيد ليست مجرد انتقال مادي بل تجربة روحية فكرية تعكس صراعه الداخلي في غزة فيما بعد حين يواجه واقع الحرب والدمار ويتحول من مجرد طبيب إلى شاهد على معاناة الفلسطيني. ثم يصبح جزءا من المقاومة وهو ما يعيد تشكيل هويته من جديد.
ففي ص١٠٨ على لسان السارد عن سعيد “ولما أبدى سعيد الخديم للدليل رغبته في الانضمام إلى فصيل المقاومين المدربين على نصب الكمائن وتدمير الدبابات الصهيونية، قال أحدهم: مهمتك يا خال إسعاف جرحانا وتطبيب مرضانا، وهي مهمة لا تقل عظمة عن خوض المعارك الضارية”.
واختيار الجزائر وغزة والقدس كمحاور جغرافية للسرد ليس اعتباطيا، بل يبرر العلاقة التاريخية بين الجزائر وفلسطين. وربما أراد الكاتب بهذا الإشارة إلى أن البحث عن الذات يمر عبر القضايا الكبرى، وهل أكبر من فلسطين قضية؟ وأن القدس تظل رمزا للحقيقة المفقودة، وبالتالي محطة لاستعادة الذات. ما يشير إلى ارتباط عميق بين الهوية الفردية والجماعية. وهذا يعكس مدى تأثير القضايا القومية على الوعي الذاتي.ويتضح هذا ص٤٥ على لسان السارد عن سعيد الخديم “قطع ثلاثة آلاف كيلومتر من أجل استعادة وجهه في مرايا القدس. هذا ما أوصاه به شيخه أبي الحسن الزياتي قدس الله روحه، وقال له: حيث يكون قلبك يكون وجهك. جاء يحث الخطى لنصرة اخوانه الغزيين المظلومين من المستضعفين”.
وبالفعل، فبعد أن يضطر سعيد الخديم ودليله الغزاوي وهما في طريقهما نحو شمال غزة، البقاء في النفق ص١٠٣ بسبب شدة القصف الصهيوني، يعيش سعيد الخديم في الأنفاق ويلتقي مع شباب المقاومة الفلسطينية الذين تحدوهم رغبة النصر أو الشهادة.
وتمثل هذه التجربة اي تجربة النفق، نقطة تحول رئيسية لدى سعيد، حيث يكتشف في هذا الفضاء المغلق والمظلم بعدا آخر للهوية، وهو الانتماء إلى الجماعة التي تؤمن بقضيتها وتدافع عنها. فتصبح المقاومة هنا أكثر من مجرد فعل عسكري، حيث هي تجربة تعيد تعريف الذات عندما يجد سعيد الخديم إجابة عن أسئلته الوجودية من خلال الفعل والتضحية.
وعلى الجانب الآخر نجد شخصية ليليث الأسيرة الصهيونية التي تمر هويتها بتحول جذري بعد احتكاكها بالمقاومة.
ففي البداية تمثل ليليث العدو التقليدي، ويتضح هذا ص١٣٢ على لسان السارد عن ليليث “كانت ليليث شابة يهودية لم تتجاوز عقدها الثالث، ولدت في تل أبيب ونشأت في حي من أحيائها الميسورة”. وفي ص١٣٣ عن ليليث “في طفولتها علمتها مدارس تل أبيب كيف تمقت الفلسطينيين…كانت ليليث على يقين أن أرض فلسطين أرض يهودية”.
لكنها تدريجيا وبعد أن رأت ما رأت من الأشخاص المكلفين بحراستها من المقاومة هي ورفاقها من حسن المعاملة، من تقديم الماء والطعام والأمان والابتسام، وأن ما يقدم لهم من طعام أكثر مما يتناوله حراسهم، بدأت بتبني رؤية مختلفة. فعندما أخبرتها المقاومة بأن اسمها كان ضمن من سيخلى سبيلهم ضمن صفقة تبادل، رفضت العودة إلى “تل أبيب” واختارت البقاء مع المقاومة في الأنفاق. ففي ص١٧٩ بتجلى التغير الذي طرأ على هوية ليليث حين أخبرت رفيقتها سارة بأنها لا تريد العودة إلى “تل أبيب” “لا أريد الرجوع إلى جحيم تل أبيب، عودوا أنتم يا سارة، أما أنا فباقية هنا، قد اهتديت إلى حريتي وجدت طريقي”.
ويتطور التحول إلى اعتناقها للإسلام متخذة اسم سلسبيل بدلا من ليليث. وقد كتبت في خاطرتها الثالثة “أنا الآن منهمكة في قراءة كتاب نبيهم، القرآن، لقد وجدت فيه ما لم أجده في كل أسفار التوراة”.
ويعكس هذا التحول مرونة الهوية، وأنها تتشكل وفق التجربة والقناعة. وهنا يشير هذا العنصر في رواية مرايا القدس إلى أن الصراع ليس فقط عسكريا بل هو أيضا صراع على الوعي والانتماء. حيث يمكن للفرد أن يعيد تعريف ذاته بناء على ما يعيشه من أحداث.
فليليث/سلسبيل تلتلحق في نهاية الرواية بعد موت والدة خطيبها حنظلة المقاوم الفلسطيني، بخلية المقاومة في مدينة رفح ص٣٣٩ راجية الله أن يجمعها بخطيبها حنظلة.
أما سعيد الخديم فيختفي ودليله الغزاوي عند وصولهما الشجاعية ص٣٣٩ قادمين من منطقة جباليا المدمرة، ولم يتركا خلفهما أثرا يدل على وجهتهما. ويترك الكاتب مصيرهما مفتوحا..
وتنتهي أحداث الرواية برؤيا في المنام لعزيزة زوجة سعيد الخديم في باب الوادي، ص٣٤٠ وهو “يمتطي براقا في زي عسكري، شاهرا سيفا يمنيا بيمناه…ورسن البراق بيسراه. ولما سألته زوجته عزيزة: إلى أين أنت ذاهب يا سعيد؟ أجابها بإشارة من يده: إلى القدس لأرى وجهي في مراياها وأصلي في المسجد الأقصى صلاة الفتح والتحرير”.
وبهذا المشهد كأن علي فضيل أراد أن يثبت أن الهوية ترتبط بالمكان. فالقدس ليست مجرد مدينة، بل هي رمز للانتماء الكامل. فسعيد الخديم لن يتمكن من رؤية وجهه إلا عندما يصل إليها. مما يؤكد أن الهوية ليست مجرد فكرة ذاتية بل هي أيضا حالة من التحقق في الواقع. وأن الانتماء إلى قضية كبرى هو ما يمنح الأفراد شعورها بالوجود الحقيقي، ويجعل الهوية أمرا يبنى عبر التجربة والموقف لا عبر الوراثة والانتماء الجغرافي فقط.
بقي أن نقول إن رواية مرايا القدس سعت إلى توظيف الأحداث الحقيقية للعدوان على غزة والتدمير الذي حل بها والشهادة الحية على جرائم الاحتلال مع التركيز على شخصيات تمثل أطراف الصراع المختلفة: المقاومة الفلسطينية، المدنيين، الأطباء والأسرى الصهاينة.
- – بديعة النعيمي – كاتبة وروائية وباحثة