
حين تبوح الأيام بأسرارها ، دروس تخط بمداد التجربة ، بقلم : هدى زوين
نحن عابرو سبيل في دروب مجهولة، نمضي ولا نعلم أي الطرق ستأخذنا إلى النور، وأيها سيبتلعنا في ظلامه. تمر الأيام، تترك فينا بصمات خفية، تغيّرنا دون أن نشعر، تجعلنا نشبه شيئًا لم نكنه من قبل. في دهاليز التجربة، نكتشف وجوهًا أخرى للعالم، وجوهًا لم نرها من قبل، بعضها قاسٍ كحجر صوان، وبعضها دافئ كحلم لم يكتمل.
فالتجارب.. مسارات تُعاد كتابتها ولا شيء يبقى على حاله، حتى أرواحنا تتبدل كلما خضنا تجربة جديدة. هناك لحظات تأتينا كهمس الريح، خفيفة بالكاد نشعر بها، وهناك لحظات أخرى تضربنا كإعصار، تغير كل شيء دفعة واحدة. قد نظن أن التجربة تنتهي حين تنقضي، لكن الحقيقة أنها تبقى، تندس في ثنايا ذاكرتنا، تحفر ملامحها فينا، حتى نكاد لا نميز إن كنا نحن من عبرناها، أم أنها هي التي عبرتنا.ومن هنا يأتي السؤال..
هل الوجع.. معلم صامت لا يرحم؟
في خبايا الألم يكمن السر. لا ندرك قوتنا إلا حين تنهشنا الخسارة، ولا نعرف معنى النهوض إلا حين نتعثر حد الانكسار. هناك تجارب تأخذ منا الكثير، تسرق أحلامنا، تخطف منا أشخاصًا حسبناهم أبديين، لكنها تمنحنا بالمقابل عينًا ثالثة، نرى بها العالم بصورة أكثر وضوحًا، وإن كان الوضوح أحيانًا أشد وجعًا من الضياع نفسه.
فاالفرح.. لحظات نادرة بين ظلال الحياة، ونحن نتعلق باللحظات الجميلة كما يتمسك العطِش بقطرة ماء في صحراء شاسعة. السعادة لا تأتي صاخبة، بل تتسلل بهدوء، تختبئ في تفاصيل صغيرة، في ضحكة غير متوقعة، في يد تمتد إلينا وسط العتمة، في حلم يتحقق حين كدنا نيأس منه. لكنها لا تدوم، تمامًا كما لا يدوم الحزن، وكأن الحياة توازن بين النور والظلال، بين الألم والمتعة، فلا نألف أحدهما أكثر من الآخر.والسؤال يأتي
كيف نحيا وسط دوامة التجربة؟
إذا كانت الحياة لغزًا، فالتجربة هي مفتاحه، لكنها لا تقدم لنا الإجابة كاملة، بل تترك لنا أجزاء مبعثرة، علينا أن نعيد ترتيبها بأنفسنا. ربما يكون السر في:
عدم مقاومة التغيير،البحث عن الحكمة في الفوضى،التصالح مع الألم، الاحتفاء باللحظات العابرة: الفرح عابر، لكنه يستحق أن نحتضنه ولو لبرهة، قبل أن يرحل كما جاء.
التجارب ليست مجرد محطات نعبرها، بل هي التي تعبرنا، تحفر فينا أخاديد خفية، تغير ملامح أرواحنا ببطء، تجعلنا نكبر حتى حين نظن أننا ما زلنا على حالنا. نحن لسنا ما نبدو عليه، نحن كل ما مررنا به، كل ما فقدناه، كل ما أحببناه، كل ما جربناه ولم نعد كما كنا بعده. وفي النهاية، لسنا سوى حكايات تُكتب بمداد الأيام، ودروس تُخطّ على صفحات الزمن، في انتظار من يقرأها.