
سنوات خلف القضبان: كيف سيعيش الأسرى الفلسطينيون بعد تحررهم من السجون الإسرائيلية ؟ ، بقلم : سالي أبو عياش
يمثل الأسرى الفلسطينيين قضية إنسانية هامة ومؤلمة في آن واحد، إذ يعيش آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، يعانون من ظروف معيشية وإنسانية قاسية تماشياً مع سياسة السجون التي تمارس بحقهم كنوعٍ من العقاب.
منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في عام 1948، شهدت السجون الإسرائيلية وجوداً دائماً للأسرى الفلسطينيين ومنذ ذلك الحين زاد عدد الأسرى بشكل مستمر نتيجة للعمليات العسكرية، والمظاهرات، والاحتجاجات ضد الاحتلال، إضافة إلى اعتقال الفلسطينيين بسبب نشاطاتهم السياسية والاجتماعية، ويتم اعتقالهم بتهم مختلفة تتعلق بالمقاومة المسلحة، حتى أن بعضهم اعتُقل دون محاكمة أو بسبب آرائهم السياسية فقط، وبعضهم اعتقل دون تهمة ويتم تمديد حكمهم تحت مسمى الاعتقال الإداري الذي يتم تمديده دون محاكمة وتهم بشكل دوري كل ست شهور.
تُعاني السجون الإسرائيلية من ظروف قاسية تعكس سياسة الاحتلال في التعامل مع الأسرى. فالعديد من السجون تفتقر إلى الرعاية الصحية الأساسية، حيث يتم حرمان الأسرى من العلاج الطبي المناسب، بل يواجهون معاملة قاسية تشمل التعذيب الجسدي والنفسي، إضافة إلى العزل الانفرادي لفترات طويلة. كما يعاني الأسرى من ظروف حياتية صعبة، مثل الاكتظاظ، سوء الطعام، ومصادرة حقوقهم في التعليم والتواصل مع العائلة والخروج من الزنازين أو الزيارات في بعض الأحيان.
على الرغم من هذه الظروف الصعبة، إلا أن الأسرى الفلسطينيين يظهرون دائماً إرادة قوية في المقاومة والصمود. وخاضوا العديد من الإضرابات عن الطعام للمطالبة بحقوقهم الأساسية، مثل تحسين الظروف المعيشية، والحصول على زيارات عائلية، وكذلك وقف سياسة الاعتقال الإداري التي يتم فيها احتجازهم دون محاكمة أو تهم واضحة. وقد حققت بعض الإضرابات نتائج ملموسة، مما يدل على قوة إرادتهم وتصميمهم على استرداد حقوقهم.
لا تقتصر معاناة الأسرى الفلسطينيين على السجون فقط، بل تشمل أيضاً أثر اعتقالهم على أسرهم ومجتمعاتهم، ففي كثير من الأحيان، يكون للأسرى أبناء وزوجات وأمهات يعانون من فقدانهم والقلق على مصيرهم. (إن معاناة الأسرى تؤثر بشكل عميق على النسيج الاجتماعي الفلسطيني، إذ يتأثر المجتمع باعتقال شبابه وأبنائه على كافة الأصعدة الحياتية، مما يترك فجوة اجتماعية يصعب تعويضها، خاصة عندما يكون المعتقلون من الفئات الشابة التي يعتمد عليها المجتمع في بنائه وتطويره).
حظيت قضية الأسرى الفلسطينيين بتعاطف كبير من قبل مختلف المنظمات الحقوقية والإنسانية، التي تدعو إلى ضرورة الضغط على إسرائيل للإفراج عنهم وتحسين ظروف احتجازهم، فالعديد من المنظمات الدولية، مثل منظمة العفو الدولية، تدين الانتهاكات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، وتطالب بوقف التعذيب وفرض قوانين تحترم حقوق الإنسان. وفي هذا السياق، برزت أهمية التضامن العالمي مع الأسرى الفلسطينيين، حيث يسهم التضامن في تسليط الضوء على قضيتهم على المستوى الدولي.
إن السنوات الطويلة التي يقضيها الأسير داخل المعتقلات تترك أثرا نفسيا عميقا، إذ يُحرم من تفاصيل الحياة اليومية البسيطة، ومن التواصل الطبيعي مع عائلته. وعند الإفراج عنه، يجد نفسه في واقع مختلف تماما عن ذاك الذي اعتاد عليه. التكنولوجيا تغيّرت، العلاقات الاجتماعية تطورت، وحتى الشوارع والمباني لم تعد كما كانت. كثير من الأسرى المحررين يعانون من صدمة الحرية المفاجئة، حيث يصبح التأقلم مع الحياة الخارجية تحديا بحد ذاته خاصة بعد مضي عدد كبير من السنوات داخل هذه السجون.
حظيت الحركة الاسيرة ببعض صفقات التبادل ومن أبرز الصفقات هي التي جرت بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع في الشهور السابقة، إذ حملت هذه الصفقة بين طياتها أملاً لمئات الأسرى في استعادة حريتهم، لكن الحرية لا تعني بالضرورة انتهاء المعاناة، فمعظم الأسرى المحررين يواجهون صعوبات جمّة بعد خروجهم. أولها الجانب النفسي: حيث سيعاني العديد منهم من اضطرابات ما بعد الصدمة مثل القلق، الاكتئاب، والأرق، فالسجون تترك ندوباً يصعب محوها بسهولة، حتى بعد سنوات من الحرية.
أما الجانب الاجتماعي: فيعتبر أحد أكثر التحديات صعوبة، حيث يخرج الأسير ليجد أن مجتمعه قد تغيّر، والأشخاص الذين عرفهم قد مضوا في حياتهم، يجد بعض الأسرى أنفسهم بلا سند، خاصة إذا كانوا قد فقدوا أفراداً من عائلاتهم خلال فترة أسرهم. كما أن فكرة العودة إلى الحياة الطبيعية والعمل والانخراط في المجتمع تحتاج إلى برامج دعم وتأهيل خاصة، وهو ما تفتقر إليه العديد من الجهات الرسمية.
من الناحية الاقتصادية: يواجه الأسرى المحررون صعوبات كبيرة في إيجاد فرص عمل فمن كان في مقتبل العمر عند اعتقاله، قد يجد نفسه خارج السجن وهو في منتصف العمر دون أي خبرة مهنية حديثة، مما يجعل فرصته في الاندماج بسوق العمل ضئيلة، لهذا السبب، تحاول بعض المؤسسات الفلسطينية تقديم دعم لهم من خلال مشاريع صغيرة أو مساعدات مالية، لكن تبقى الحاجة أكبر من المتاح.
كما لا يمكن تجاهل الجانب الأمني والسياسي، حيث يخضع العديد من الأسرى المحررين للمتابعة المستمرة من قبل الاحتلال، ويواجهون قيوداً على تنقلاتهم، بالإضافة إلى خطر إعادة الاعتقال، مما يجعلهم يعيشون في حالة من القلق الدائم.
رغم كل هذه التحديات، يبقى الأسرى المحررون رموزاً للصمود والتضحية في نظر أبناء شعبهم. يحاول الكثير منهم التكيف مع حياتهم الجديدة، سواء من خلال الانخراط في العمل المجتمعي أو السياسي، أو عبر تأسيس عائلات تعوضهم عن سنوات الحرمان التي عاشوها. كما أن هناك قصص نجاح تلهم غيرهم من المحررين، حيث استطاع بعضهم إكمال تعليمهم، والانخراط في مشاريع إنتاجية تساعدهم على بناء مستقبلهم من جديد.
إن قضية الأسرى الفلسطينيين ليست مجرد أرقام وإحصاءات، بل هي معاناة إنسانية تتطلب اهتماماً حقيقياً وجهوداً متواصلة لدعمهم بعد الإفراج عنهم. فهم لم يفقدوا سنواتهم داخل السجون فحسب، بل خرجوا إلى عالم جديد يتطلب إعادة اكتشافه من جديد. إن المسؤولية تقع على عاتق المجتمع الفلسطيني والدولي في تأمين حياة كريمة لهم، وتأهيلهم نفسيا واقتصادياً ليتمكنوا من العيش بكرامة بعد أن دفعوا سنوات من عمرهم ثمناً لقضية وطنية عادلة.
وهنا يبقى التساؤل الأهم اليوم هل سيتم “تبييض السجون” بالكامل؟
وبالمعرفة العميقة للحكومة الإسرائيلية نستنتج أن سياسية تبيض السجون وإن تمت حقاً لن تدوم طويلاً، حتى إن تمت صفقات تبادل كبيرة. فسياسة الاعتقال الإداري والاعتقالات المستمرة ضد الفلسطينيين، فبينما يخرج أسرى إلى الحرية، تستمر السجون في استقبال آخرين، لتبقى القضية شاهداً على ظلمٍ لا ينتهي. فهل سيشهد المستقبل حلاً جذرياً لهذا الملف، أم سيظل الاعتقال أداة تستخدمها إسرائيل في حربها المستمرة ضد الفلسطينيين؟
في الختام، تبقى قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية واحدة من أبرز القضايا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهي تواصل التأثير على حياة الأسرى وعائلاتهم، وكذلك على النضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة.
إن معاناة هؤلاء الأسرى تلقي الضوء على حجم الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، وتبقى إرادة الأسرى وعزيمتهم مصدر إلهام للملايين في داخل فلسطين وخارجها.