
غزة بين “المقلوبة الكذابة” و”إعمار الأوهام”: رمضان في مواجهة الجوع والمساومات السياسية ، بقلم : م. غسان جابر
في شوارع غزة الضيقة، حيث تتقاطع آثار الدمار مع طوابير المنتظرين للمساعدات، يطل رمضان هذا العام بوجهه الأكثر قسوة. فبينما تتعالى أصوات الحكومات العربية في مؤتمراتها عن إعادة الإعمار، تبقى موائد الإفطار في غزة خالية إلا من فتات الصبر، وأحلام الغزيين بإفطار كريم تتبخر مع دخان القصف المستمر وانقطاع الإمدادات الأساسية.
“المقلوبة الكذابة” وإعمار غزة: وجهان لعملة واحدة
في الظروف الطبيعية، تمثل “المقلوبة” طبقًا فلسطينيًا تراثيًا يعكس كرم الضيافة، حيث تتوسط الدجاج أو اللحم صحن الأرز المقلوب بعد الطهي. أما في غزة اليوم، فقد أصبحت “المقلوبة الكذابة” عنوانًا للحرمان، إذ استبدلت العائلات اللحم بالباذنجان أو البطاطا، في محاولة يائسة للحفاظ على التقاليد في ظل شح الموارد الغذائية وارتفاع الأسعار الجنوني.
لكن هذه “المقلوبة الكذابة” لا تختلف كثيرًا عن الوعود السياسية بإعادة إعمار القطاع. فكما افتقدت الوجبة مكوناتها الأساسية وتحولت إلى رمز للصمود القسري، فإن خطط الإعمار المزعومة تخلو من أي ضمانات حقيقية، وتُطرح مشروطةً باعتبارات سياسية، وكأن غزة عليها أن تدفع ثمن كل حجر يُعاد بناؤه، ليس فقط بالدم، بل بالقبول بشروط تُفرض من الخارج، لا تراعي إرادة الفلسطينيين ولا حقهم في المقاومة.
إعمار غزة.. مشروع تنموي أم ورقة مساومة؟
عشية قمة القاهرة المقبلة، تتكشف تفاصيل “الخطة العربية” لإعمار غزة، والتي تقوم على ثلاث مراحل، تتطلب في مجملها 53 مليار دولار، وفق ما أعلن المندوب الدائم للجامعة العربية بالأمم المتحدة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم تُفتح المعابر لإدخال الإسمنت ومواد البناء فور انتهاء الحرب؟ ولماذا يصر بعض الأطراف على ربط الإعمار بإصلاحات سياسية وإعادة هيكلة السلطة الفلسطينية، بينما غزة لا تزال تنزف تحت الحصار؟
إذا كان الإعمار حقًا إنسانيًا، فلماذا يُشترط خروج حركة حماس من المشهد السياسي والعسكري؟ ولماذا يربط بعض المانحين العرب دعمهم للقطاع بضمانات بعدم تكرار ما حدث في 7 أكتوبر، في تجاهل تام لحق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم؟
المفارقة الكبرى أن بعض الدول التي تتحدث عن إعادة الإعمار، كانت في الوقت ذاته تغض الطرف عن القصف الإسرائيلي العشوائي، ولم تحرك ساكنًا أمام المجازر التي ارتكبت بحق المدنيين. واليوم، يُطرح الإعمار كطوق نجاة سياسي، وليس كضرورة إنسانية عاجلة.
رمضان.. شهر الصبر في غزة و”صيام سياسي” في العواصم العربية
في الوقت الذي يصوم فيه الغزيون عن الطعام، يبدو أن بعض الأنظمة العربية صامتة عن اتخاذ موقف حقيقي من الاحتلال، بل إن بعض التصريحات – مثل ما قاله الإعلامي المصري عماد الدين أديب – تكشف نوايا خطيرة. فعندما يصرّح بأن “من يدفع أموال الإعمار يجب أن يكون صاحب القرار”، فهو لا يعبر عن مجرد رأي إعلامي، بل يضع أساسًا لرؤية سياسية تتعامل مع غزة كمقاطعة فاقدة للسيادة، وليست جزءًا من الوطن الفلسطيني.
في غزة، رمضان ليس موسمًا للمزايدات السياسية ولا مهرجانًا للاستهلاك، بل هو شهر تتجلى فيه معاني المقاومة، حيث يتحول كل إفطار متواضع إلى فعل تحدٍّ ضد الحصار، وكل صلاة في مسجد مدمر إلى رسالة بأن الفلسطينيين لا ينتظرون مكرمات، بل يطالبون بحقوقهم.
ما بين المقلوبة الكذابة وإعمار الأوهام
كما لم تعد “المقلوبة” في غزة تحمل نكهتها الأصلية، كذلك فإن خطط الإعمار المطروحة ليست سوى نسخة مشوهة من مفهوم التنمية الحقيقي. فإذا كان من حق الغزيين أن يأكلوا مقلوبة بلحمها وأرزها، فمن حقهم أيضًا أن يُعاد بناء مدينتهم دون قيود أو شروط سياسية تمس بكرامتهم وحقوقهم الوطنية.
إن إعادة إعمار غزة يجب أن تكون مشروعًا وطنيًا مستقلًا، بعيدًا عن الابتزاز السياسي الذي يمارسه البعض. فالإعمار لا يجب أن يكون صفقة، والمساعدات لا يجب أن تكون وسيلة لإخضاع شعب دفع ثمناً باهظًا في نضاله من أجل الحرية.
نقول و نؤكد، غزة لا تحتاج إلى “مقلوبة كذابة” على موائد رمضان، ولا إلى “إعمار كاذب” على طاولات المفاوضات. غزة تحتاج إلى عدالة حقيقية، وحقوق غير قابلة للمساومة.
م. غسان جابر (قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية)