عبر الثقافة البشرية ظل الحوار لغة افتراضية، وبشكل أكثر دقة هو لغة القوي على الضعيف. التجربة البشرية هي صراع قوى تتحدد دلالاتها من خلال القوة، ونتيجة لسطوتها؛ إذ لم تنشأ ثقافة تقوم على لغة المنطق والتفاهم السلمي لأن السلاح، كان دوماً، حبر الحوار الافتراضي، ولم تتجاوز الخيارات مدار تقليص الأضرار باعتبار أن القوة هي الحق مهما كانت المبررات.
حوار الحضارات أو الديانات كان حلماً بشرياً استحضر روحه الإنسانية الميدانية منذ نحو سبعين سنة في محاولات خجولة لا سند لها سوى طموحات ثقافية تحاول، يائسة، التشبث بمسارات الانفتاح ذي المنطلق الصناعي الاستعماري دون سند وجودي حقيقي سوى حماس بعض المثقفين ذوي النزعة الإنسانية المشوشة والمقيدة بروح أيدولوجية كامنة تنفض حال المساس بجذورها لتحيل نقاط التقارب الافتراضية إلى بؤر اشتعال تؤجج جوانب الفرادنية، وتغذي مناخات الصراع لتكون النتيجة «صدام الحضارات» لاتواصلها، ولتؤسس، دون قصد مباشر لمرحلة «نهاية التاريخ» لا بدايته.
اللافت أن حوار الحضارات ولد يتيماً، وعاش منبوذاً عاجزاً عن اختراق دائرة الفعل السياسي كأنما هو فعل فردي طائش يحاول تسلق جدار برلين أيام جبروته؛ كان الحوار ملهاة ثقافية تستند إلى طموحات عشوائية لنخب ثقافية ذات تواصل مع دوائر دينية مختلفة قادرة على الردة حال المساس بجوهرها الأيدلوجي، ماجعل جهودها تكشف عن عمق المفارقة وليس إمكانات المقاربة.
جميع الحضارات نشأت إثر فعل ثقافي، لكنها أكتسبت شرعيتها الحياتية من خلال الفعل السياسي الذي يمنحها دلالات الوجود والاستمرارية، وهي إذ تنهار فإنما يكون ذلك نتيجة تحللها السياسي لاغير. ولعل التجربة التاريخية تؤكد أن الفكر الإنساني، مهما تسامى، لم يتجاوز كونه أداة عسكرية، وفي أحسن الأحوال أداة سياسية تتلبسها حالة الثقافة غطاءً وحجاباً دون أن تكون جوهرا وأصلاً.
كان حوار الحضارات حلماً رومانسياً لا أكثر، وحالة تبرير ثقافي للعنف ليس أكثر، وتبريراً خجولاً للعنف البشري دون أن يستطيع خلق مسار جديد حتى وإن كان ثانوياً لأن تعمقه المعرفي يؤدي، تالياً، إلى تعرية الفروقات الصارخة، وإحياء الثارات البشرية الناقعة في الذاكرة ليكون ممراً زلقاً إلى تأجيج شرارات الفعل الدموي المميت بدلاً من إكسابه حلة الحيوية والتجدد والانفتاح.
عبر سبعين عاماً كان حوار الحضارات فعلاً ثقافياً جماعياً وقوده الحلم دون الأداة، بينما التجربة البشرية عبر امتدادها كانت صناعة فردية لأن الإنسانية لاتعدو كونها فعلاً فردياً خلاقاً يتسلح بالصبر والقوة والصلابة واليقين ليحيل الجماعة، أياً كان حجمها ومسارها، لتكون عاصفته وبرقه ومطره.
الثقافة البشرية سواء كانت علماً أو صناعة أو سياسة كانت وماتزال فعلاً فردياً يؤكد وجودية الجماعة أو يعيد تغيير مسارها. وهي محصلة لم تتحقق أبداً عبر المسالمة، بل كان وقودها الإختلاف والمغايرة المستمدين من اليقين بالقدرة على إحداث فرق جوهري في الثقافة البشرية بأجمعها أو جزء منها على الأقل.
التاريخ صناعة فردية يقرر مسار أفراد نسميهم العظماء والفاعلين، وحتى اليوم لايرد إسم كيان سياسي أو ثقافي ذي أثر، إيجابي أو سلبي، على المسيرة الإنسانية خلا من اسم فرد فاعل أعاد صياغة الجماعة وبلورتها في نمط يخدم الحضارة أو يهينها.
جميع الأحلام والإنجازات البشرية بدأت وتغذت على روح فرد واحد آمن بما لديه، وناضل من أجله حتى أصبح حقيقة أو مات دونه، ولعل الثقافة الحديثة بملابساتها المتسلحة بالعولمة وغياب الفروقات والمساحات أبرز دليل على ذلك.
نشـأ حوار الحضارت واستمر تبريراً مبطناً للعنف الإنساني ذي الطابع الأيدلوجي، ولم يكن مقدراً له أن يكون أداة تغيير لأنه خلا من الفردية الفاعلة ذات المنطلقات اليقينية المتسلحة بقوى الإيمان وأدوات التغيير.
حينما بدأ عبدالله بن عبدالعزيز في إحياء ثقافة الحوار الإنساني ظن الجميع أنها نزهة ملكية عابرة، أو حالة انتشاء ثقافي عابرة خصوصاً أن مبدأها كان كلمة ظنها الجميع ارتجالية وعابرة علماً أن الثقافة البشرية في كل مراحلها كانت من صنع الكلمة، وذابت وجودياً بفعل الكلمة حتى وإن تسلحت بأدوات العنف والدمار والتصفية والإلغاء للآخر.
في يقين التاريخ لامجال للتراجع أو التهاون أو المداهنة بل لابد من النضال والصبر على الأذى لإحداث فرق وجودي تزيد صعوبته مع تزايد الممانعة والمعارضة بأشكالها اللفظية والجسدية، ومن هنا لم يتأثر التاريخ بمحاولات عظيمة افتقدت الصبر واليقين، واستكان إلى تبدلات مختلفة فرضها ذوو الحضور والصلابة الإنسانية التي احتملت أصناف الأذى خدمة للبشرية، وحرصاً على معطياتها الحضارية دون أن تحقق منفعة مباشرة سوى الخلود الإنساني الفاعل.
بدأ عبدالله بن عبدالعزير الحوار البشري بكلمة محلية دومت في برك ساكنة محدثة تموجات متطاولة بسبب توالي الحصى التي يلقيها الرجل دون يأس أو كلل ليحيل الراكد متحركاً، والمستحيل ممكنا.
الملك عبدالله هو واحد من السياسيين القلة الذي جعل الفعل الحضاري مدار اهتمامه، والإنسانية محط نظره متجاوزاً قيود الذات والبيئة والمكان ليصنع واقعاً بشرياً ظنه الكثيرون حال انطلاق شراراته مجرد فعل ترويجي لملك شرقي متحمس.
صبر عبدالله صبر أيوب، وناضل نضال مثقف وعالم، وأحب للبشرية ما أحب لنفسه فكان لابد أن يحدث فرقاً تتسامى حتى جاء اليوم الذي تبنت فيه الأمم المتحدة طروحاته وهي التي سكنت إلى العزلة منذ أعظم أفعالها قبل ستين سنة وهو إقرار حقوق الإنسان. ستون عاماً لم تحتشد الأمم المتحدة فيها من أجل فعل ثقافي بشري منفتح إلا حينما دلفها الملك عبدالله بن عبدالعزيز ليجعل دعوة الحوار رسالة عالمية ومجهوداً بشرياً غير مسبوق.
التقط الملك عبدالله خيوط التقارب البشري فغزل منها مادة دعوته قارناً القول بالفعل، مواصلاً جهده بيقين المؤمن، وصلابة المحارب، وجلد المناضل ليفتح للضوء شرخاً في جدار العداء والمفارقة والاختلاف آملاً أن يكون الشرخ باباً يجعل الحقيقة ثقافة قبل أن تكون اقتصاداً.
رحلة صراع طويلة وشرسة بدءاً من المحلي مروراً بالإنغلاق الاقليمي، ووصولاً إلى الأيدلوجي حتى تصدعت أسوار الانحراف الوجودي، وتصاغرت ينابيع الاختلاف الحقود، لتتشكل دائرة إنسانية فريدة مدارها الحق المشترك والتسامح والعدل.
لو كان عبدالله مجرد فيلسوف لما نجح، لكنه إنسان مثقف مستنير جير إمكاناته السياسية من أجل الفعل البشري فلم يعد قائد دولة بل أصبح للإنسانية رسولاً ومرشداً.
إن الوتيرة التي يمضي بها عبدالله تكتسح معاقل التطرف والعداء والإنغلاق، وتؤسس لبشرية متعايشة باحترام وتسامح ومودة، إلا أن الزمن وحده كفيل بتغيير التاريخ شرط أن لايكل صاحب الرسالة أو يتراجع أو يغلبه الوهن.
* مدير عام قناة الإقتصادية