الحديث عن طرابلس الشام ذو شجون.. فالحديث عن طرابلس ينكأ الجروح ويستعيد الذكريات الأليمة التي حفرتها يد الأسد الكبير في جسدها الطاهر الندي، عندما اجتاح هذا الأسد الجبان هذه المدينة بعشرات الدبابات وعشرات قطع المدفعية ومئات الآليات المجنزرة وآلاف الجند، الذين غابوا عن سوح الوغى عندما تعرضت لبنان إلى الغزو الإسرائيلي عام 1982 وتركت الفدائيين الفلسطينيين والمقاومين اللبنانيين إلى قدرهم في مواجهة الجيوش الصهيونية وآلتهم الحربية المدمرة، في مواجهة مجموعة من الشباب المؤمن بالحرية والكرامة الذين أبوا أن يكونوا عبيداً للأسد أو خدماً في مزرعته، وهم على معرفة مسبقة أن لا مقارنة ما بأيديهم من سلاح فردي خفيف وما تملكه جيوش الأسد من أسلحة ثقيلة وكثافة نيرانية هائلة، كان قد ادخرها لمثل هذا اليوم في مواجهة اللبنانيين الذين يأبون الخنوع والاستزلام له دون الصهاينة، وكانت معركة غير متكافئة قاتل إلى جانبه الطابور الخامس الذي كان يقوده محسن عيد من جبل محسن من داخل طرابلس لتنهي صمود هؤلاء الفتية، وتدخل قوات الأسد مزهوة إلى وسط طرابلس معلنة انتصارها الساحق على الإرهابيين والعصابات المسلحة، كما فعلت بالأمس عندما دخلت هذه القوات بابا عمرو مزهوة ترفع علامات النصر، بعد دكه بعشرات الآلاف من القنابل والصواريخ لنحو شهر، والتي سوت بنيان هذا الحي مع الأرض على رؤوس ساكنيه، وما كان للأسد أن يدخل طرابلس الصامدة إلا بعد أن استطاع شق صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، وراح يشدد الضغط عليها في بيروت والمخيمات ويدفعهم إلى خارج المناطق التي يسيطر عليها، ليتوجهوا بدءاً من شهر آب 1983 إلى شمال لبنان وتحديداً إلى مدينة طرابلس ومخيمي اللاجئين المجاورين وهما نهر البارد والبداوي، وللتاريخ نذكر موقفاً بطولياً للسيد ياسر عرفات الذي تمكن الجيش الإسرائيلي وجنود الأسد من إخراجه من بيروت قبل ذلك:
حين اشتد قصف قوات الأسد والمنشقون عن عرفات على طرابلس والمخيمات الفلسطينية، هب عرفات لمساعدة مقاتليه وشد أزرهم، فأقدم على خطوة وصفها الشاعر محمود درويش، بأنها “فعل الشجاعة الأكثر تألقا في حياته الصاخبة”: ارتدى ثياباً مدنية، وحلق لحيته، ووضع نظارة سوداء ليخفي معالم شخصيته، وحمل حقيبة صغيرة، وطار إلى مطار لارنكا في قبرص بجواز سفر مزور.. ومن هناك وصل إلى لبنان عبر البحر. لم يتوقع جنود الأسد الذين يحاصرون طرابلس ولا الإسرائيليون الذين كانوا يفرضون حصاراً بحرياً عليها مجيئه. وصل عرفات متخفيا في أجرأ عملية اختراق إلى طرابلس في 20/9/1983 ليمنع فرض المنشقين أنفسهم ممثلين شرعيين للمقاومة، وهذا ما كان.
انضم عرفات إلى خليل الوزير “أبو جهاد” الذي كان في طرابلس يقود القوات الموالية للشرعية الفلسطينية، كان على رجال عرفات الخمسة آلاف أن يخوضوا قتالا ضد أكثر من عشرة آلاف من الجنود السوريين والمنشقين بقيادة أبو موسى، ومقاتلي الجبهة الشعبية القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل، تدعمهم نحو مئة دبابة. ظل أبو عمار يقود العمليات العسكرية من مقره في زقاق في طرابلس يبعد نحو 200 متر عن البحر.
وفي تشرين الثاني، سقط مخيم نهر البارد ثم مخيم البداوي في أيدي المنشقين بعد معارك سقط فيها نحو 1000 شهيد من الفلسطينيين.
وعمت الفرحة قلوب الصهاينة، وسرت شائعات عن مقتل عرفات وانتشرت بينهم ظاهرة “التبشير” بموته. وكان ياسر عرفات قد نجح خلال حصاره في طرابلس بمبادلة 6 أسرى إسرائيليين بـ 4500 معتقل فلسطيني، مقاتلين ومدنيين، محتجزين في جنوب لبنان وفي إسرائيل.
وبدعم وغطاء من قوات الأسد قامت حركة أمـل التي يتزعمها نبيه بري – رئيس مجلس النواب الحالي – بفرض حصار طويل وقاتل على المخيمات الفلسطينية استمر 18 شهرا قصفت خلالها المخيمات بوحشية بمدفعية وهاونات ودبابات الجيش السوري، ومنع عن قاطنيها الماء والغذاء فترات طويلة. وخلفت هذه” الحرب ” نحو 3000 شهيد، وآلاف الجرحى ودماراً واسعاً. وأعلن في 11/9/1987 انتهاء ” الحرب”.
ولابد من التذكير بالفرحة التي عمت القوات الصهيونية عندما طرد عرفات من بيروت على يد قوات الأسد، فقد نشرت صحيفة (ليفيجارو) الفرنسية صورة تظهر جنود صهاينة يرفعون صورة لحافظ الأسد خلال اجتياح جنوب لبنان والقضاء على منظمة التحرير وطرد ياسر عرفات في عملية أطلق عليها اسم ”سلامة الجليل” في حزيران 1982.