6:15 مساءً / 22 فبراير، 2025
آخر الاخبار

إنما الإنسانُ أثرٌ… فاختر أثرَك بعناية! ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

إنما الإنسانُ أثرٌ… فاختر أثرَك بعناية! ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

إنما الإنسانُ أثرٌ… فاختر أثرَك بعناية! ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

يولد الإنسانُ صفحةً بيضاء، يخطُّ عليها الأيامُ سطورها، وتكتبُ المواقفُ تفاصيلها، حتى يغدو أثرُه جزءًا من التاريخ، إمّا نورًا يُستضاء به، أو ظلًّا يتلاشى في زوايا النسيان. فحياة الإنسان ليست مجرد سنواتٍ تُعاش، بل بصماتٌ تُترك، وأعمالٌ تُحكى، وذكرى تمتدُّ في قلوب الناس كجذور شجرةٍ وارفةٍ لا تموت.

“إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَٰرَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَٰهُ فِىٓ إِمَامٍۢ مُّبِينٍ” (يس: 12). ما أعظمها من آيةٍ تُخلّد الحقيقة الأزلية: كلُّ خطوةٍ نخطوها، كلُّ كلمةٍ نقولها، كلُّ فعلٍ نؤديه، سيظلُّ شاهدًا علينا، مكتوبًا في سجلٍّ لا يُمحى، محفوظًا في ذاكرة الزمن.

حين يصبح الأثر حياةً أخرى…

بعضُ الأشخاص يمرُّون في حياتنا كنسمة صيفٍ عابرة، لا نكاد نتذكّرهم، بينما هناك من يتركُ في أرواحنا أثرًا لا يُنسى، كالمطر حين يُحيي الأرض بعد جدب، كالنور حين يتسللُ إلى العتمة، كالكلمة الطيبة التي تضيء القلب. هؤلاء هم الذين تُروى أفعالهم الطيبة في مجالس جبر الخواطر، وتُذكر وجوههم بابتسامة امتنان، لأنهم أدركوا أن العطاء ليس ترفًا، بل رسالة.

وفي مسيرتي الأكاديمية، عرفتُ من تركوا أثرًا لا يُمحى، ومن هؤلاء، العالم الجليل، الدكتور خالد دويكات، رجلٌ أدرك أن العلم رسالةٌ سامية، وأنَّ المعلّم الحقيقي لا يُمسك بمفتاح المعرفة لنفسه، بل يوزّعه بسخاء لمن يحتاج.

أثر خالدٌ في حياتي الأكاديمية

لم أكن أعرفه شخصيًا حين احتجتُ إلى خبيرٍ لتحكيم أسئلة مقابلاتي البحثية لرسالتي الدكتوراه، فأرسلتها إليه عبر البريد الإلكتروني، ولم يكن بيننا سابق معرفة، لكنني فوجئتُ باستجابته السريعة، وبالملاحظات القيّمة التي أرسلها إليّ، دون مقابل، دون تردد، فقط لأنه أدرك أن طالب العلم يستحقُّ العون.

ثم شاءت الأقدار أن تزداد المعرفة عمقًا، فقد احتجتُ ملاحظاتٍ أخرى لاحقًا، وكان الدكتور خالد مشرفًا على طالباتٍ في مدارس مختلفة، ومن أقدار الله أن كان مشرفًا على مدرسةٍ في مدينة جنين، حيث أعملُ. لم يتردد لحظةً في زيارتي، جاء برفقة زوجته الفاضلة، وخصَّني بملاحظاتٍ قيّمة، لم يبخل بعلمه، ولم يحتكر معرفته، بل فتح أبواب البحث العلمي أمامي، وأرشدني إلى الطريق الصحيح.

وتوالت اللقاءات العلمية، حتى كان لي شرف أن يكون الممتحن الخارجي لرسالتي في ماليزيا عبر منصة Zoom، وامتدّ أثره أكثر، حين شاركنا في عدة أبحاثٍ علمية، وحين منحني الفرصة لأكون ممتحنةً خارجيةً لرسائل الماجستير، وكأنه يحرصُ على أن يمتدّ الأثرُ من جيلٍ إلى آخر، كأنَّ علمه رسالةٌ لا تتوقف عند حدود اسمه، بل تتفرعُ كأغصان شجرةٍ مثمرة.

هكذا يكون الأثر… وهكذا يكون الخلود

إن العظماء لا يُخلَّدون بكمية المعرفة التي يمتلكونها، بل بقدرتهم على منحها بسخاء، ولا يُحفرُ أثرهم في القلوب لأنهم كانوا الأقوى، بل لأنهم كانوا الأكثر عطاءً، والأصدق قلبًا، والأكثر إنسانيةً.

إنما الإنسانُ أثر… فإمّا أن يكونَ غيمةً ماطرة، أو ظلًّا عابرًا، أو جرحًا لا يُشفى. فاختر أثرَك بعناية، ليكون دعاءً يُرفعُ لك بعد رحيلك، وذكرى تُخلَّدُ في قلوب من عرفوك.

اللهم اجعل أثرنا طيبًا في قلوب الناس، وذكْرنا في مجالسهم رحمةً، ولا تجعلنا ممن يمرّون بلا أثر، أو يتركون وراءهم حزنًا لا يُمحى.

شاهد أيضاً

الصين : مستشار سياسي يقترح تعزيز السياحة الثقافية الريفية في الدورتين السنويتين

الصين : مستشار سياسي يقترح تعزيز السياحة الثقافية الريفية في الدورتين السنويتين

شفا – مع اقتراب الدورتين السنويتين للصين، قال منغ آي جيون، عضو باللجنة الوطنية للمؤتمر …