شفا -كانت منهمكة في وضع اللمسات الأخيرة قبل يوم واحد من إفتتاح معرضها. اللوحات موزعة على الحائط, تحذر الموجودين داخل القاعة من لمسها.. محتدة أحياناً, وثائرة. تلفت إنتباه البعض إلى عدم لمس الجدران.. فهي تريدها بيضاء ناصعة, لا تشوبها شائبة, صافية, كمساحات اللون في أعمالها.. تختلط في طباعها النعومة بالقسوة, والثورة بالهدوء الشديد. ثارت وانفعلت, حين علمت أني أسجل حديثها معي, ثم ما لبثت بعد قليل أن عادت إلى هدوئها, كأن شيئاً لم يكن. تبدو كأنثى نموذجية في انفعالاتها.. في ثورتها, وهدوئها, وانقيادها. لا تستهويها المواقف الحيادية على ما يبدو.
نادين همام, فنانة تشكيلية مصرية من مواليد عام 1974. لوحاتها الملونة تشبهها على نحو ما. هي واضحة ومستترة.. ترسم شخوصها الأنثوية, بما تمليه عليها التعاليم الأكاديمية من حيث التشريح والنسب والتوازن بين مساحات العمل, غير أن هذه الشخوص التي ترسمها همام تتمتع بدرجة عالية من النقاء والمثالية؛ هي خالية تماماً من التفاصيل والملامح. أجساد أنثوية مطلقة وحيادية.. عناصر أشبه بالظلال أو “السلويت” كأنما تم طبعاتها على اللوحة, كما يبدو من اتساقها وتباين ألوانها وحدودها.. الخطوط صريحة, لا لبس فيها ولا تداخل, ومساحات اللون أيضاً كذلك.. جميع العناصر موزعة على خلفية قاتمة, أحادية الدرجة.
صريحة وفجائية.. تضع مساحات اللون بطريقة لا تلمح فيها أي أثر للفرشاة.. درجات صافية, تتجاور على مساحة اللوحة, لتلقي على العمل أجواء من البهجة والقوة في ذات الوقت. تتوزع العناصر بعناية فائقة على الخلفية القاتمة, في توازن لافت, ومسيطر في أغلب اللوحات. طبقات من اللون فوق بعضها البعض, تضعها همام على مساحة العمل, لتشكل في النهاية تلك الدرجة الخارجية الثابتة. ألوان مركبة, وأخرى مباشرة, تشكل بها معالم البناء الخارجي للأعمال, في أسلوب أقرب إلى التصميم أو الطباعة الحريرية.
في الواجهة تستقر لوحة كبيرة لفتاة تعتلي ظهر دبابة وردية اللون, فوهة الدبابة تخرج منها عشرات الفئران الزاحفة, تمتد خارج اللوحة, يستمر زحفها على الحائط, حتى تهبط على أرضية القاعة. فئران وردية اللون, كثيرة, تملأ الفراغ بالتساؤل والدهشة والحيرة أيضاً. إنها فتاة الدبابة, ايقونة المعرض وعنوانه.. ثلاث عناصر فقط تحتوي عليها اللوحة. الفتاة, والدبابة, والفئران, ليس هناك غيرها سوى تلك الكتابات الموزعة بالإنجليزية على اللوحة, وعلى الجدران المجاورة.
تتكرر الكتابات أيضاً على عدد من اللوحات المعروضة, لتلقى مزيداً من نقاط الدهشة والجرأة على أعمال همام – لقد قلت إنك تريدني – ها أنا ذا – فقط أحبني – لكم من الوقت سوف تحبني؟ – أحتاج إلى مسدس أكثر من حاجتي إليك – الفتاة ذات الثقب في قلبها.
جمل متفرقة يحمل بعضها رائحة الغواية، هي أنثى تستخدم كل وسائل الغواية للإيقاع بالرجل أو استمالته. ضعفها الظاهري.. جمالها الحسي, ونعومتها, واتساقها .. كلماتها الدافئة .. غير أن هناك دائماً ما يجعلك لا تستسلم لتلك الخدعة الظاهرية.
“فتاة الدبابة”, هو عنوان للمجموعة الأولى من الأعمال, وهو عنوان المعرض أيضاً.. عنوان صادم وحاد في إيقاعه كما هو الحال في عنوان معرضها السابق “أنا للبيع”.
“فتاة الدبابة” .. هي كل فتاة تقف بمفردها في مواجهة ذلك العالم الذي تسيطر عليه النزعة الذكورية. يهيمن على الصورة مفردات المشهد القاهري كما بدا خلال الشهور السابقة. فمازالت في المخيلة صور لمدرعات الجيش وآلياته وهي تربض في مداخل الطرق, وعلى أطراف الميادين. مظاهر مسلحة, ترسخ لمفهوم الذكورية وتقود إليه, وتستفز تلك التخوفات في أعماق الأنثى. كما أن مشاهد الصدام بين الشارع والجنود لا تزال ماثلة في الأذهان, تتصدر الأنثى بعض تلك المشاهد بصورة مفجعة. فتيات يُضربن ويُسحلن ويتم تعريتهن. كل هذه المشاهد تثير تراكمات من الهواجس الدفينة والمخاوف داخل الأنثى. بين تلك المخاوف, والتطلعات نحو مجتمع يتعايش فيه الجميع, تخرج تلك الصور, تتنمر الأنثى داخل اللوحات مستخدمة أسلحتها التقليدية وغير التقليدية فى مواجهة الخطر.
“بلا قلب”, هو عنوان المجموعة الأخرى من اللوحات, لوحات تلامس المشاعر الداخلية للأنثى وتخوفاتها تجاه الرجل, هذا الشريك القاسي الذي يحتفظ أمامنا بظله, من دون أن يظهر بين مساحات الأعمال المعروضة.
درست نادين همام الفن بكلية سان مارتينز في بريطانيا بعد إنهاء دراستها للغة الإنجليزية والأدب المقارن بالجامعة الأميركية بالقاهرة, وعرضت أعمالها في لندن ودبي وباريس والولايات المتحدة الأميركية. وعرضت أعمالها أخيراً تحت عنوان “فتاة الدبابة” في قاعة مصر بالزمالك بالقاهرة.بقلم: ياسر سلطان