شتاء الحرب.. فصول الحزن تكتب بدموع ودماء الأطفال ، بقلم : د. ولاء بطاط
كبرنا كثيرا، وكبر أطفالنا أكثر، حين حملوا جراحا غائرة وساروا نحو الأمل وهم ينزفون ألما لا يطاق. كبرنا حين شاهدناهم يتعالون على آلامهم ويرحلون نحو الخلود، تاركين خلفهم قلوبا نازفة وأعينا تفيض دمعا على رحيلهم. كبرنا أكثر عندما عجزنا عن حمايتهم من ذلك الوحش القارس، ولم نستطع أن نعيدهم إلى أحضاننا وأرواحنا، منتظرين انتهاء موسم الموت ليمنحوا الحياة من جديد، ليركضوا في المروج أحرارا، يلعبون، يقفزون، ويحلقون نحو المجد الذي لطالما أردناه لهم، وأرادوه هم أكثر.
لكننا كبرنا أكثر من أي وقت مضى، حين كبلتنا الجراح واذابت ارواحنا الأحزان، ولم نستطع منع أطفالنا المتجمدين من صعود السماء الأخيرة دون وعد بلقاء آخر، ودون حتى أن يلقوا علينا عتابا كيف لهم أن يعدوا وهم أطفال رضع، رحلوا قبل أن يتعلموا الكلام، يبحثون عن دفء ضاع في صقيع الحرب والشتاء
تشير الدراسات العلمية إلى أهمية تعرض الأطفال للأجواء الشتوية، فهي تمنحهم متعة اللعب في الثلوج وتفتح أمامهم آفاقا واسعة لتأمل الطبيعة.
لكن تلك الدراسات لم تبحث في معاناة أطفال غزة، الذين يعيشون شتاء من نوع آخر؛ شتاء قاس يتجاوز حدود الطبيعة ليكون شريكا لظروف الحرب القاتلة. هؤلاء الأطفال لا يواجهون فقط صقيع البرد بل وحدة قاتلة وفقدانا لكل مقومات الحياة؛ دون ملابس تقيهم، أو أحذية تحمي أقدامهم الصغيرة، أو حتى مأوى يحتضنهم من غضب الطبيعة وصواريخ الاجرام.
الخيمة المثقوبة، التي لا تمنع المطر ولا تحمي من الرياح، أصبحت ملاذهم الوحيد، ولكنها لا تصمد أمام الشتاء الذي يضرب غزة كعاصفة لا ترحم. الشتاء هنا ليس موسما للفرح أو التجدد، بل هو نقمة تجلب الموت للأطفال الأبرياء، حيث يتحول إلى رعب مواز لجرائم الاحتلال الإسرائيلي.
ليالي الشتاء في غزة، بكل ما تحمله من صقيع، تداهم أجساد الأطفال النحيلة كرصاص طائش، يمزق ما تبقى من براءتهم.
كم من صغير قضى تحت أنقاض الاحتلال؟
وكم من صغير يرتعش اليوم حتى الموت تحت وطأة البرد القاسي؟ في غزة، لا مهرب للأطفال من قسوة الطبيعة ولا من ظلم الاحتلال.
الشتاء هنا شديد القسوة، يكشف جراحا لم تندمل ويضيف أخرى جديدة إلى جراح مدينة منكوبة، وأطفال تركوا وحدهم يواجهون العراء، دون بيت أو حضن دافئ يخفف عنهم وطأة الحياة.
هؤلاء الأطفال، الذين حرموا من دفء الأسرة والأمان، يواجهون وحشا مزدوجا: سقيع الطبيعة وغول الاحتلال. فكيف لهم أن يصمدوا، وهم بلا سند ولا مأوى، يواجهون ظلما لا ينتهي في ظلال خيمة لا تقاوم شيئا وصواريخ تفتك أجسادهم وصمت مجتمع دولي عجز حتى عن حمايتهم وتوفير أبسط حقوقهم التي كفلتها لهم المواثيق الدولية؟
صرخات الاطفال البريئة تضيع وسط العواصف وصدى الدمار، ليظل السؤال: متى يرحم أطفال فلسطين من هذا الجحيم الذي لا يعرف حدا ولا نهاية؟