إسرائيل تستغل المرحلة الانتقالية كي تدمر قدرات سورية العسكرية، بقلم : د. ماهر الشريف
استغلت حكومة الحرب الإسرائيلية، برئاسة بنيامين نتنياهو، المرحلة السياسية الانتقالية التي تمر بها سورية حالياً كي تدمر القدرات العسكرية التي تمتلكها، وكي تقوم باحتلال المنطقة العازلة في هضبة الجولان المحتلة وتسيطر على الجانب السوري من جبل الشيخ، في عملية عسكرية واسعة انطلقت منذ صبيحة الثامن من كانون الأول/ديسمبر الجاري، وأطلقت عليها اسم “سهم باشان”، وهو مصطلح توراتي يطلق على الأراضي الواقعة في جنوب سورية.
“أكثر العمليات كثافة في تاريخ سلاح الجو الإسرائيلي”
وصفت العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل بأنها “واحدة من أكثر العمليات كثافة في تاريخ سلاح الجو الإسرائيلي”، إذ بدأت بتدمير الدفاعات الجوية السورية، ثم استهدفت موجات لاحقة من الهجمات، التي نفذتها طائرات مقاتلة وطائرات من دون طيار، القواعد الجوية ومستودعات الأسلحة ومواقع الإنتاج العسكري والتخزين في دمشق وحمص وطرطوس واللاذقية وتدمر، من بين مدن أخرى، حيث تم تدمير العشرات من طائرات الميغ والسوخوي والمروحيات الروسية على الأرض، والعديد من المقذوفات بعيدة المدى، وصواريخ سكود وصواريخ كروز، وصواريخ أرض-جو وأرض- بحر، ورادارات ودبابات. بينما أغرقت البحرية الإسرائيلية 15 سفينة سورية مزودة بصواريخ بحر-بحر في خليج ميناء البيضاء وفي ميناء اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط،. كما تم تدمير مراكز أبحاث، وخصوصاً “مركز البحوث العلمية” في منطقة برزة بالقرب من دمشق.
وبينما زعمت إذاعة الجيش الإسرائيلي يوم الثلاثاء في 10 كانون الأول/ديسمبر الجاري أنه “تمّ تدمير ما يصل إلى 80% من القدرات العسكرية السورية”، وأن “350 طائرة عسكرية إسرائيلية نفذت غارات فوق منطقة تمتد من دمشق إلى طرطوس”، ذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان” الذي يتخذ من المملكة المتحدة مقراً له، في الخامس عشر من هذا الشهر، أن “61 ضربة جوية استهدفت الأراضي السورية في أقل من 5 ساعات، ولا تزال الضربات مستمرة”، وأضاف “يواصل الطيران الحربي الإسرائيلي تصعيده العنيف على الأراضي السورية” مستهدفاً خصوصاً بـ”صواريخ فراغية أنفاقاً تحتوي على مستودعات صواريخ بالستية داخل الجبال”، مشيراً إلى ارتفاع “عدد الضربات الإسرائيلية إلى 446 غارة طالت 13 محافظة سورية” منذ 8 كانون الأول/ديسمبر .
احتلال المنطقة العازلة في الجولان والجانب السوري من جبل الشيخ
أعلن بنيامين نتنياهو، في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الجاري، أن قواته سيطرت على المنطقة العازلة منزوعة السلاح في هضبة الجولان، التي تبلغ مساحتها 252 كيلومتراً مربعاً، موسعة بذلك مساحة الأراضي السورية التي تحتلها في المنطقة، وقال إن هذا “موقف دفاعي مؤقت إلى حين التوصل إلى ترتيب مناسب”، وذلك في انتهاك صارخ لاتفاق “فك الاشتباك” الموقع في سنة 1974. وأوضح داني دانون، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة: “لقد انهار هذا الاتفاق، ولن نسمح لقوات معادية بالاستقرار بالقرب من حدودنا”، لكنه أكد في رسالة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن احتلال المنطقة العازلة كان “إجراءً محدوداً ومؤقتاً”.
كما أقام الجيش الإسرائيلي على الجانب السوري من جبل الشيخ، على ارتفاع 2814 متراً، موقعاً استراتيجياً رئيسياً يطل على المنطقة بأكملها، بما في ذلك السهل المؤدي إلى دمشق. وبينما زعمت تقارير سورية أن التقدم الإسرائيلي تجاوز المنطقة العازلة ووصل إلى مسافة 25 كيلومتراً من دمشق، اعترف الجيش الإسرائيلي بأن قواته عملت خارج المنطقة العازلة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان، لكن المتحدث باسمه نداف شوشاني قال “إن التوغل الإسرائيلي لم يذهب أبعد من ذلك بكثير”. وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل قامت سابقاً باحتلال مناطق في هضبة الجولان كـ” إجراء أمني”، ثم قامت بتحصينها والثبات فيها، وقد تفعل ذلك مرة أخرى.
وذكرت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية أن المسؤولين الإسرائيليين دافعوا يوم الاثنين في التاسع من الشهر الجاري عن هذا الإجراء باعتباره “محدود النطاق، ويهدف إلى منع المتمردين [السوريين] أو الميليشيات المحلية الأخرى من استخدام المعدات العسكرية السورية المهجورة لاستهداف إسرائيل أو مرتفعات الجولان”، بينما توقعت الإدارة الأميركية أن يكون هذا التوغل الإسرائيلي “مؤقتاً”، وأن “يتم احترام اتفاقية 1974 بصورة كاملة”، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميللر: “سوف نتأكد من أن إسرائيل تفعل ذلك”. بيد أن العديد من المحللين يقدّرون أن المدة غير المحددة للوجود الإسرائيلي في المنطقة العازلة وعلى الأراضي السورية “تشير إلى إمكانية احتلال طويل الأمد” (4).
الأهمية الاستراتيجية لهضبة الجولان المحتلة
تبلغ مساحة هضبة الجولان 1800 كيلومتر مربع تفصل فلسطين عن سورية، واستولت إسرائيل خلال عدوانها في حزيران/يونيو 1967 على حوالي 1200 كيلومتر مربع من هذه المنطقة التي وضعتها تحت السيطرة العسكرية، ثم احتلت جيباً إضافياً مساحته حوالي 510 كيلومترات مربعة في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، لكن سورية استعادت هذا الجيب في سنة 1974، بموجب اتفاق أبُرم في ذلك العام، وأقيمت بموجبه منطقة عازلة منزوعة السلاح، خضعت لقوة مراقبة تابعة للأمم المتحدة مسؤولة عن مراقبة الالتزام بهذا الاتفاق. وفي كانون الأول/ديسمبر 1981، عندما كان مناحيم بيغن رئيساً للوزراء، قررت إسرائيل من جانب واحد ضم مرتفعات الجولان رسمياً إليها، وهو إجراء لم يعترف به المجتمع الدولي، إذ أعلن قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، رقم 497، أن إعلان إسرائيل ضم المنطقة “باطل وليس له أي أثر قانوني دولي”. لكن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلنت رسمياً، في سنة 2019، اعترافها بهذا الضم.
وكان عشرات الآلاف من السوريين قد فرّوا أو طردوا عندما استولت إسرائيل على هذه الهضبة، وبقي آخرون في الجزء الذي سيطرت عليه، يقدّر عددهم بحوالي 23 ألف سوري يتمتعون بوضع الإقامة في إسرائيل. وقد شرعت إسرائيل في استيطان هذه المنطقة، بعد احتلالها، حيث أقيمت فيها أكثر من 30 مستعمرة يعيش فيها حوالي 25 ألف إسرائيلي، وتُعتبر هذه المستعمرات غير قانونية بموجب القانون الدولي .
وقد أولت حكومات الاحتلال الإسرائيلي أهمية استراتيجية خاصة لهضبة الجولان، التي تتيح لها مراقبة ما يحدث على الطريق المؤدي إلى دمشق على الجانب السوري، بينما هي تطل على الجليل وبحيرة طبرية على الجانب الذي تسيطر عليه إسرائيل. وتزداد أهميتها لأنها تضم مصادر مياه مهمة، وخصوصاً نهر بانياس الذي يغذي نهر الأردن، كما يعبر فيها نهر الحاصباني، الذي ينبع منبعه في لبنان، قبل أن يصب في نهر الأردن، وكذلك نهر الدان. أما جبل الشيخ، أو حرمون، فهو يقع على الحدود بين سورية ولبنان وفلسطين، ويمثل أعلى نقطة في سورية، إذ يبلغ ارتفاعها 2814 متراً فوق سطح البحر، وهي تسمح بالسيطرة على جزء كبير من هضبة الجولان، وبمراقبة الجنوب السوري والعاصمة دمشق، كما هي تطل على الجنوب اللبناني، وتسمح بمراقبة سهل البقاع.
وبحسب عادل بكوان، الباحث المشارك في برنامج تركيا/الشرق الأوسط في “المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية” ومدير “المركز الفرنسي للأبحاث حول العراق”، يبدو أن “ما من أحد يستطيع حالياً أن يقول كفى لإسرائيل التي تستغل الفوضى لتوسيع أراضيها”، بينما أشار بواز أتزيلي، الأستاذ في قسم السياسة الخارجية والأمن العالمي في الجامعة الأميركية في واشنطن، إلى أن الإسرائيليين “يريدون ضمان عدم غزو مرتفعات الجولان من قبل الأشخاص الذين سيكونون في السلطة في دمشق، وهم يستغلون الوضع لتقليل قدرة سورية الموحدة على تهديد إسرائيل” (6)
كيف تبرر حكومة الحرب الإسرائيلية عدوانها على سورية ؟
قال رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إن احتلال الجيش الإسرائيلي للمنطقة العازلة في مرتفعات الجولان “من المفترض أن يكون مؤقتاً، لكن الانسحاب سيعتمد على سلوك الحكومة السورية القادمة”، وأضاف: “إذا تمكنا من إقامة علاقات جوار وسلام مع القوى الجديدة الناشئة في سورية، فهذا ما نريده، ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك، سنفعل كل ما يلزم للدفاع عن دولة إسرائيل والحدود الإسرائيلية”. لكنه أعلن بعد ذلك أن اتفاق فك الاشتباك الذي تشرف عليه الأمم المتحدة والذي يقضي بإقامة منطقة عازلة بين إسرائيل وسورية قد “فشل”.
أما وزير خارجيته، جدعون ساعر، فقال إن الضربات الجوية على القواعد العسكرية السورية “نفذت فقط للدفاع عن المواطنين الإسرائيليين”، وأضاف: “لهذا السبب نقوم بمهاجمة منظومات الأسلحة الاستراتيجية، مثل الأسلحة الكيميائية المتبقية أو الصواريخ والصواريخ بعيدة المدى، حتى لا تقع في أيدي المتطرفين”. ومن جهته، قال وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس: “لقد طلبت مع رئيس الوزراء من الجيش إنشاء منطقة خالية من الأسلحة والتهديدات الإرهابية، في جنوب سورية، ولكن من دون وجود إسرائيلي دائم”، ووجّه تحذيراً إلى السوريين، قائلاً: “إن أي كيان يشكل تهدياً لإسرائيل سيتم استهدافه بلا هوادة”. وفي السياق نفسه، حذر مسؤول في وزارة الحرب الإسرائيلية قائلاً: “هذه مجرد بداية، وسنواصل عملياتنا في الأيام المقبلة حتى نتأكد من عدم وقوع أي معدات عسكرية استراتيجية في أيدي السلطة الجديدة القائمة في سورية وتشكل تهديداً محتملاً لأمن إسرائيل” (7).
إدانات واسعة للاحتلال التوسعي الإسرائيلي
طالبت الحكومة السورية الانتقالية مجلس الأمن الدولي بالتحرك لإجبار إسرائيل على الوقف الفوري لهجماتها على الأراضي السورية والانسحاب من المناطق التي توغلت فيها، في انتهاك لاتفاقية “فك الاشتباك” العائدة إلى سنة 1974، بينما أدانت دول عربية عديدة، من بينها مصر والأردن والسعودية والكويت وقطر والعراق، احتلال إسرائيل المنطقة العازلة المنزوعة السلاح في هضبة الجولان، إذ وصفت وزارة الخارجية المصرية يوم الاثنين في التاسع من كانون الأول/ديسمبر الجاري هذا الاحتلال بأنه “يشكّل انتهاكاً للقانون الدولي ووحدة الأراضي السورية”، ودعت مجلس الأمن الدولي والقوى العالمية إلى تحمل مسؤولياتهم وتبني “موقف حازم” ضد الهجوم الإسرائيلي في سورية. بينما أعربت جامعة الدول العربية عن “إدانتها الكاملة لإسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، لمحاولاتها غير الشرعية الاستفادة من التطورات الداخلية في سورية، سواء بالاستيلاء على أراض إضافية في هضبة الجولان أو بإعلان بطلان اتفاق فك الاشتباك لسنة 1974”.
وكان مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية غير بيدرسن قد اعتبر، في العاشر من هذا الشهر، أن التصرفات الإسرائيلية تساهم في عدم الاستقرار في سورية، ووصفها بأنها “تطور مقلق للغاية”، وأضاف أنه “من المهم للغاية ألا نرى تحركاً من جانب جهة دولية تدمر إمكانية التحول في سورية”. وبدوره أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في الثاني عشر من هذا الشهر، عن “قلقه البالغ” إزاء”الانتهاكات الجسيمة” لسيادة سورية ووحدة أراضيها، بحسب ما أعلن المتحدث باسمه، وعبّر عن قلقه بصورة خاصة إزاء مئات الضربات الإسرائيلية التي استهدفت عدة مواقع في سورية، مشدداً على “الحاجة الملحة إلى وقف إطلاق النار”، وداعياً “جميع الأطراف إلى إنهاء الوجود غير المصرح به في منطقة الفصل والامتناع عن أي عمل من شأنه تقويض وقف إطلاق النار واستقرار الجولان” (9).
خاتمة:
بينما تدّعي حكومة الاحتلال أن هجماتها على سورية تهدف “إلى ضمان أمن مواطنيها وسلامتهم”، يعتقد الكثير من المحللين أن هدف هذه الهجمات الحقيقي هو تدمير قدرات سورية العسكرية بغية إضعافها وإخراجها من جبهة المواجهة مع إسرائيل، وهو ما سيكون له تداعيات كبيرة على التوازن الإقليمي. ومن جهة أخرى، استغلت حكومة الاحتلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها سورية كي تتوسع في أراضيها في هضبة الجولان، التي أعلن بنيامين نتنياهو، في مؤتمر صحفي عقده في التاسع من هذا الشهر، أنها تشكّل جزءاً من إسرائيل “إلى الأبد”، وأن الجميع في العالم “يتفهم اليوم الأهمية الحاسمة لوجودنا في الجولان وليس عند سفح الجولان”، وقدم، في الخامس عشر من هذا الشهر، مشروعاً يهدف إلى مضاعفة عدد المستوطنين في هضبة الجولان المحتلة. ومهما يكن، وكما قدّر الباحث عادل بكوان فإن الجولان، بالنسبة إلى أي سوري “هو جزء من سيادته الإقليمية، ويشكل أرضاً محتلة”، مشدداً على أن الصراع عليه “سيعود إلى الواجهة في وقت ما” (10).
- باحث ومؤرخ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت.