الهزيمة والعقاب! بقلم : عبد المجيد سويلم
لم تتأخّر إدارة جو بايدن بالردّ على الهزيمة الإسرائيلية في لبنان إلّا بضعة أيّام فقط.
بضعة أيّام لوضع اللمسات الأخيرة على الهجوم الذي قامت به، وبادرت إليه الجماعات المسلّحة الإرهابية المدعومة من تركيا، والذي يبدو أنّه كان جاهزاً منذ عدّة شهور، وكان جاهزاً للردّ على أيّ هزيمة محتملة لقوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، أو لاستكمال خطّة تحطيم «محور المقاومة» في حالة إن تمكّنت من هزيمة قوات «حزب الله» في لبنان.
ولم يمرّ سوى بضعة أيّام فقط على هذا الهجوم لتُكتَشف بصورة واضحة وفاضحة كلّ ملابسات وخلفيّات ودوافع وخيوط هذا الهجوم، إن كان لجهة الدور الغادر لـ «تركيا» فيه، أو لجهة الاستهدافات الأميركية والإسرائيلية من ورائه.
في الواقع لسنا أمام عملية «استكمال» من أيّ نوعٍ، وإنّما نحن أمام خطّة للردّ على الهزيمة الإسرائيلية في جنوب لبنان، ولهذا بالذات فإنّ هذا الهجوم في استهدافه المباشر هو عقاب على الهزيمة.
هذا على مستوى المظهر المباشر للاستهداف، لكن الأمر في جوهر ما تهدف إليه الإدارة الأميركية يتعدّى مسألة الهزيمة والعقاب، ويرمي للوصول إلى عدّة أهداف أكبر وأعمق وأخطر من مجرّد الردّ العقابي، وهو يمثّل في الواقع إحدى إستراتيجيات تنظيم هجمات كبيرة على «المحور»، وعلى داعميه في الدائرة الإقليمية، وخصوصاً في الدائرة الدولية الأوسع.
السياق الذي جاء به هذا الهجوم هو أنّ الولايات المتحدة أفهمت دولة الاحتلال بأنّ الدخول في المرحلة الثالثة من القتال في الجنوب كان يتطلّب استخدام قوات مشاة كبيرة، وكان يتطلّب اندفاع مئات الدبّابات إلى مناطق عمليات واسعة وكبيرة، وحيث توجد قوات الحزب بأعداد هائلة، ولديها مناطق كاملة تتحرّك فيها بمرونة عالية بعد تحييد سلاح الجوّ، وقادرة على إنزال هزيمة مؤكّدة بقوّات الغزو، وقادرة بكلّ تأكيد على إحراق عشرات الدبّابات، وتدمير عشرات أخرى من ناقلات الجُند والعربات، وأنّه لا تستطيع الأخيرة تحمُّل هذا القدر من الخسائر.
ولهذا فإنّ على دولة الاحتلال القبول بوقفٍ لإطلاق النار، بأيّ ثمنٍ، وقبل فوات الأوان، على أن يتمّ استدراك هذه الهزيمة لاحقاً، وريثما تقوم أميركا «بتعويض» هذه الهزيمة عَبر الردّ عليها في سورية علّها تساعد على «تجرُّع» المجتمع الإسرائيلي للنتائج المتواضعة التي انتهت إليها المعركة البرّية في الجنوب.
والحقيقة أنّ دولة الاحتلال قد قبلت مقابل بعض المكاسب المتواضعة بشروطٍ مذلّة، فإن هي قبلت بتطبيق القرار 1701 فهي تكون قد قبلت طوعياً بالانسحاب من «الغجر»، وبتسليم مزارع «شبعا»، وبتحديد النقاط المتنازع عليها وهي 12 نقطة، وتكون قد قبلت بتكبيل يديها في المياه اللبنانية، والأجواء اللبنانية، إضافةً إلى «الخطّ الأزرق» كلّه.
هربت دولة الاحتلال من هذا كلّه، ووافقت على شرعنة سلاح الحزب رسمياً ما بعد «الليطاني»، وتخلّت عن المنطقة العازلة، ولم تتمكّن من منع عودة النازحين، وهو ما يعني عودة قوات الحزب بصورة غير مباشرة إلى كامل منطقة «الحافّة» دون الظهور الرسمي، وهو أمرٌ كان قائماً قبل الحرب العدوانية، ولا توجد لدولة الاحتلال ذرّة مكسب في هذا كلّه.
لم تتمكّن الآلة الإعلامية الإسرائيلية من «إقناع» المجتمع الإسرائيلي «بالنصر» الذي وعد به بنيامين نتنياهو، والسبب ليس القصور في أدائها، بل على العكس، فقد كانت رُزَم الأكاذيب حول حقيقة هذه المعارك أكبر من أيّ رُزَم في معارك أخرى، وإنّما بسبب ما اعترف به نتنياهو نفسه، وبعظمة لسانه من أنّ دولة الاحتلال تحتاج إلى إعادة «إنعاش» قواتها، والذي يوازي في عُرف كلّ مراقب عاقل الاعتراف بتراجع القدرة على القتال والعجز عن استكمال المراحل القتالية، والخطر والمجازفة بالانهيار الكامل.
وباستثناء بعض الناعقين في بوق «هزيمة» المقاومة اللبنانية، وكلّ «المحور» لا يوجد في الواقع الإسرائيلي، ولا في الواقع الأميركي من يعتقد بمثل هذا «الانتصار» الإسرائيلي الكاذب، ولا بمثل هذه «الهزيمة» غير المعروفة لأحد سوى لهؤلاء.
ويَحَارُ المرءُ حول المصادر التي تدعم آراء هؤلاء، وحول طرائق التحليل التي يستندون إليها، والكيفية التي «تهديهم» إلى سواء السبيل! أما وأن بعض هؤلاء هم من إخوتنا، على كلّ حال فليس أمامنا سوى أن نعمل على هدي: «التمِس لأخيكَ عُذراً».
أقصد من هذا كلّه القول إنّ سياق الردّ الأميركي على الهزيمة الإسرائيلية في الجنوب، قد جاء في بواكيره الأولى لهذا الهجوم الذي شنّته عصابات الإرهاب في الشمال السوري، والتي هي قوات احتياطية للقوات الأميركية، وذراع خفيّة لدولة الاحتلال، وأداة تركية تُستخدم حسب درجة حرارة المصالح الإقليمية «للسلطنة» التركية الجديدة.
على كلّ حال فإنّ الخنجر التركي الغادر قد طعن الدولة السورية، وهي طعنة أكثر غدراً ضدّ روسيا، وطعنة في عنق حركة حماس، وليس فقط في ظهرها، واستدارة جديدة في سلسلة بهلوانيات رجب طيّب أردوغان لإعادة تقديم أوراق اعتماده للإدارة الأميركية الجديدة.
وأظنّ أنّ أوراق الاعتماد هذه ما زالت ناقصة، وستكتشف «السلطنة» أنّ رهاناتها، وحساباتها ليست على المقاس الأميركي – الإسرائيلي، وأنّ التودّد لإدارة دونالد ترامب ليس كافياً لإعطاء «السلطنة» دوراً محورياً في الملفّ السوري، وأنّ «استخدام» تركيا للتشويش على الدور الروسي ليس بالضرورة حاجة أميركية ملحّة في توجّهات ترامب.
إدارة بايدن حاولت أن تعقد صفقة مع الإدارة الجديدة، وأغلب الظنّ أنّها نجحت في الوصول إلى «قواسم مشتركة» حول بعض الملفّات مقابل ألا تستخدم الإدارة الحالية كامل أوراق الدولة العميقة التي تهيمن عليها لتعطيل السيران السلس للإدارة الجديدة، بعد أن كانت قد ألقت في وجهها «رزمة قاتلة» تهدف لإجبارها على السير وفق المصالح العليا للدولة العميقة، ولعدم تمكين ترامب من تعطيل مسار هذه المصالح.
فمن ناحية أعطت للرئيس الأوكراني فرصة ضرب العمق الروسي، ومن ناحية أخرى أرادت أن تعطّل الدور الروسي في منطقة الإقليم الشرق أوسطي من بوّابته السورية.
كما أرادت إدارة بايدن مشاغلة إيران على الساحة السورية، وربما إحداث بلبلة كبيرة بين كلّ مكوّنات شبكة حماية الدولة السورية والنظام السوري.
ومن المؤكّد أنّ مشاغلة إيران وسورية وروسيا في صدّ الهجوم الأميركي الإسرائيلي على مدينة حلب، وربّما على مدنٍ سورية أخرى سيعطي الفرصة لإعادة النقاش حول الدور التركي في الترتيبات المستقبلية كجائزة ترضية، وحول إدراج مسألة «تدويل» الحدود السورية اللبنانية بهدف «شرعنة» قطع خطوط الإمداد عن «حزب الله»، وكذلك اللجوء إلى «شبح التقسيم» لإرغام الدولة السورية على تقديم تنازلات جوهرية في كلّ تفاصيل الملفّ السوري، بما في ذلك العلاقة مع إيران، ومع الحزب، وربّما العلاقات الروسية السورية نفسها.
هذا الردّ الأميركي الإسرائيلي على الهزيمة الإسرائيلية في لبنان هو أكبر من حسابات جماعات الإرهاب، وأكبر من حسابات أردوغان الخاصّة بالمكاسب التركية على حساب وحدة وسيادة الدولة السورية، وهو مشروع للعقاب، ولكنه، أيضاً، محاولة أميركية من قبل الدولة العميقة لإعادة تنظيم الهجوم الأميركي نحو عدم فقد المزيد من مساحة السيطرة الأميركية على الإقليم، إذا لم تتمكّن من إعادة السيطرة عليه وفق مخطّطات «الشرق الأوسط الجديد» كما عبّرت عنه في مشروع «الهند، الخليج، حيفا وأوروبا».
روسيا تدرك بطبيعة الحال كلّ هذه التفاصيل، وإيران كامل تبعات هذه الخطّة، وسورية تعرف الأبعاد الحقيقية لهذا الهجوم الإرهابي، و»حزب الله» يتأهّب وينتظر التطوّرات على الأرض، والفصائل العراقية تستعدّ لمعارك طاحنة قادمة ستكون هي بالذات اللاعب الأوّل فيها على ما يبدو.
الردّ على الهجوم سيكون ساحقاً هذه المرّة، والثمن الأكبر والأوّل سيدفعه أردوغان، والجماعات الإرهابية ستتعرّض بعد عدّة أيّام قادمة من «النشوة الجوفاء» لهجمات لم تكن تراها لا في كوابيسها ولا مخيلة عقلها الأعمى والمريض، ومراهنة إدارة بايدن على «ضبط» إدارة ترامب في حدود ما تراه جماعات ولوبيات العولمة هي مجرّد أوهام لإدارة هُزمت أمام الأخيرة هزيمة نكراء، و»تعويض» دولة الاحتلال عن إخفاقاتها وعجزها وفشلها هو مسألة أكبر من رغبات بايدن، وترامب نفسه.