شفا – أجساد نحيلة خارت قواها جوعًا وعطشًا وخوفًا، أيادٍ ترتجف من البرد تحمل أوعية فارغة، بانتظار وجبة تسكب لهم من تكية هنا، أو ربطة خبز من مخبز وحيد يزدحم أمامه الآلاف في طوابير لا نهاية لها أملًا بالحصول على رغيف يسد جوع أطفالهم.
هكذا يبدو حال نحو مليوني نازح في قطاع غزة، يتقاسمون الجوع والعطش والقهر في ظل حصار مطبق، يحرمهم من كل شيء، حتى رغيف الخبز وشربة الماء.
تتعالى صرخات الجوعى في كل مكان في غزة، فقد بات الشمال والجنوب في الضيق ذاته، في ظل إغلاق المعابر ومنع المساعدات الغذائية وغيرها من الدخول والوصول للقطاع.
“هذه آخر وجبة من الخبز في منزلي الذي أصبح اليوم في الشق الآخر من القطاع، نحن الآن في جنوب القطاع، لا نجد حتى رائحة هذا الخبز، هذا المنشور ليس للاستعطاف، بل للتذكير بأننا نعيش في مجاعة خانقة”، بهذه الكلمات عبر الفلسطيني خليل نعيم في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي عن أقسى اللحظات التي يواجهها هذه الأيام.
وتضاعفت معاناة الناحين في جنوب القطاع، جراء عدم وجود الطحين وانقطاعه بشكل كامل، حتى بات الصغار والكبار يعانون الجوع بشكل متزايد، إلى جانب شح المواد الغذائية الأخرى كالمعلبات أو الخضار.
ووصلت أزمة نقص الطحين في جنوب قطاع غزة لمستويات غير مسبوقة، حتى أصبحت صرخات الجوع تملأ المنشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي فكتب الناشط شادي جبر: “نمنا واستيقظنا جوعانين أطفال سيموتون جوعا، هنا غزة”.
“أكلنا طحين مسوّس”..
وطال الجوع بطون الصغار والكبار، الذين أصبحوا يبحثون عما يسد جوعهم، وعن ذلك تحدثنا النازحة آية عبد الرحيم: “لا يتبقى عندي خبز، والطحين أكلناه وهو مسوس وريحته نتنة، والآن لا يوجد إلا المكمل الغذائي المخصص لطفلي لأسد به جوعي”.
وبقهر وألم تقول: “كنت مجبورة إني آكله لأني ما بعرف أنام من الجوع، اضطررت أقلص عدد الوجبات اليومية لوجبة واحدة منذ بداية الحرب، ولكن الآن بالكاد نجدها”.
وعن القهر ذاته كتب النازح محمد أسعد عبر حسابه على “فيسبوك”: “ما تحكيش فات طحين وتمام الأمور، طول ما الناس مش مقدرتها تشتري ربطة الخبز بـ30 شيكل وتوقف طابور طويل عريض وماتحصلش رغيف، تحكيش خلصت الأزمة بالعكس تفاقمت”.
وتداول ناشطون مقاطع توثق المجاعة وتكدس الناس أمام المخابز لشراء الخبز، يقفون في طوابير طويلة للحصول على ربطة خبز تخفف عنهم ألم الجوع، وثمة مقاطع أخرى تظهر عجز الآباء عن توفير رغيف الخبز لأطفالهم.
أطفال خارت قواهم..
على باب تكية طعام لمخيم النازحين بمنطقة الزوايدة غرب النصيرات، يقف أطفال خائرين القوى يحملون بأكفهم الهزيلة أوعية بانتظار ما سيحصلون عليه لسد جوع فتك بأجسادهم، ويظهر آخرين لم يحالفهم الحظ فلعقوا بأيدهم فتات ما تبقى من الأرز في وعاء الطبخ.
تقول الطفلة فاطمة أحمد، وقد نحت الجوع تعابير وجهها: “أقف كل يوم قبل صلاة الظهر أمام التكية لأحصل على طعام يملأ نصف هذه الطنجرة الصغيرة وكانت تشبعنا، أنا وإخوتي الثلاثة”.
وتسترسل: “خلص من عنا الخبز، ومش لاقيين طحين حتى نعجن، إحنا جعنا بعد ما كانت إمي تعمل ألذ أكل قبل الحرب، صرنا كل يوم نوقف على التكية ونشبع من أكلها، لكن الآن قلت الكمية وإلهم أسبوع بعملو بس عدس”.
مجاعة حقيقية..
من جهته، يقول مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، إن الشعب الفلسطيني يعيش مجاعة حقيقية محافظة شمال قطاع غزة بعد نفاد كل كميات الطحين ومشتقاته والأرز والمعلبات التي كانت متبقية هناك.
ويضيف الثوابتة، أن المجاعة مستمرة ومتواصلة وممتدة إلى جميع محافظات قطاع غزة، فمحافظات الوسطى وخان يونس ورفح إضافة إلى محافظة غزة يعانون بشكل كبير أيضا من انتشار الجوع وسياسة التجويع التي يستهدفها جيش الاحتلال.
ويشير ضيفنا، إلى أن الاحتلال يواصل إغلاق جميع المعابر والمنافذ المؤدية إلى قطاع غزة، ويفرض تشديدات خانقة على إدخال المساعدات والبضائع، وقال إن الاحتلال أجبر المواطنين خلال الشهور الماضية في محافظة شمال غزة على طحن أعلاف الحيوانات والحبوب بدلاً من القمح المفقود.
ويبيّن الثوابتة، أن المجاعة تتعمَّق يوماً بعد يوم في محافظات قطاع غزة الذي يعيش فيه أكثر من 2,444,000 إنسان، مشيرًا إلى أنها تتعمّق بشكل أكبر خلال هذه الأيام مما ينذر بوقوع كارثة إنسانية عالمية قد يروح ضحيتها مئات آلاف المواطنين.
ويردف: “الاحتلال بدأ بتنفيذ سياسة التجويع والتعطيش وصولاً إلى المجاعة منذ بدء حرب الإبادة الجماعية التي يشنها ضد المدنيين والأطفال والنساء في جميع محافظات قطاع غزة”
ويجدد مطالبته بوقف عاجل لحرب الإبادة الجماعية ضد المدنيين والأطفال والنساء، ورفع الحصار وإدخال 10,000 شاحنة مساعدات خلال الأسبوع الجاري وبشكل فوري وعاجل قبل وقوع الكارثة الإنسانية إلى جميع المحافظات وبلا استثناء، وفق قوله.
ويحمّل الثوابته الإدارة الأمريكية والدول المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية والاحتلال الإسرائيلي؛ “المسؤولية الكاملة عن هذه المجاعة التي تجري فصولها على مرأى ومسمع كل العالم دون أن يحرك أحداً ساكناً”.
ويقول: “نطالب روسيا والصين وتركيا وكل دول العالم الحر وكل المنظمات الدولية وكل الدول العربية والإسلامية وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي؛ إلى كسر الحصار بشكل عاجل عن قطاع غزة، ووقف المجاعة ضد الأهالي والمدن والأحياء الفلسطينية، وإدخال المساعدات والبضائع وكذلك الضغط على الاحتلال بكل الوسائل والطرق من أجل وقف حرب الإبادة الجماعية ضد المدنيين والأطفال والنساء في أسرع وقت ممكن، ووقف حرب التجويع”.
ويختم بالقول: “إن عدم إيقاف الحرب وعدم إيقاف المجاعة يعني ضوءاً أخضراً بالقضاء على كل أهالي قطاع غزة”.
وأمس الأحد، قالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إن ما يدخل قطاع غزة من إمدادات الغذاء لا يلبي 6% من احتياج سكانها.
وأضافت “أونروا”، إن ما يسمح الاحتلال الإسرائيلي بإدخاله عبر المعابر، من الدقيق والمواد الغذائية، لا يلبي 6% من احتياج السكان.
وأوضحت أن هذا الأمر تسبب بأزمة حادة في قطاع غزة، خاصة في الحصول على الخبز، وأدى إلى إغلاق معظم المخابز جنوب القطاع.
وأشارت “أونروا” أن أكثر من مليوني نازح في القطاع يحاصرهم الجوع والعطش والمرض والخوف، وأن الحصول على وجبات الطعام أصبح مهمة مستحيلة للأسر.
ويواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي حربه العدوانية على قطاع غزة، لليوم 416 على التوالي، مخلّفا آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين، ودمارا هائلا ومجاعة تزداد اتساعًا.
وارتفعت حصيلة ضحايا العدوان على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى 44 ألفًا و176 شهيدا، و 104 آلاف و473 مصابا.