أي حقبة جديدة تنتظر الشرق الأوسط ، بقلم : ربى عياش
جل ما ينتظر هذه المنطقة هو الدمار والخراب والمزيد من الظلام. هذه الغوغائية والفوضى اللتان يشهدهما العالم سيدفع ثمنهما الجميع. إن لم يعد الإنسان إلى رشده ويكبح جماح شياطينه، فإن جل ما سيحصده هو المزيد من الخراب والدمار.
هذه المقاساة لم تأتِ بسبب جهة واحدة أو مجموعة أفراد، بل هي عبارة عن نهج تكفيري. اليوم باتت مظاهر العنف والفوضى أمورًا مباحة. العالم فقد توازنه تمامًا، وهناك اختلال في الهيكلية الأخلاقية في العالم. ما يحدث في مكان لا يعني أنه غير قابل للتوسع، ولا يعني أن الجميع آمن.
فإعادة السيناريوهات التي نشهدها اليوم في الشرق الأوسط قابلة للتطبيق في كل مكان وكل قارة وكل زمان إن لم يعترض ويتحرك الإنسان الآن. إن المعارك وتعميق الصراعات يكونان بسبب عدة أطراف، لا بسبب طرف واحد ولا فكر واحد. أنت ترى الآخر بعين الإرهاب لأنه يريد القضاء عليك، وهو يراك بذات العين. أنت تريد القضاء على الأطراف التي تختلف معك فكريًا وببصيرتها ورؤيتها، وهي تراك متطرفًا بنهج تفكيرك هذا. إذًا، أصبح العنف مقابل العنف، حلقة مفرغة من الدمار والظلام التي لن تنتهي إن لم يستيقظ الإنسان من سباته ويبدأ باستخدام عقله ويعود إلى أخلاقياته وقيمه النبيلة. وإلا ما نفع الإنسان على الأرض؟ ولماذا علينا أن نبني حضارات ومجتمعات بشرية متطورة؟
إذاً، الإنسان أصبح عطبا كونيا. إن اللاعدالة في مكان ستتسبب في وقوع لاعدالة في أماكن أخرى. من لا ينتصر للإنسان لن ينصره أحد لاحقًا. الدول كلها مهددة، وفي السياسة لا صديق ولا عدو. إن صديق اليوم هو عدو الغد. الكروت دائمًا قابلة للتغيير والتقليب، والتاريخ يشهد على ذلك.
نعود ونسأل: أي حقبة جديدة تلك التي يتحدثون عنها تنتظر الشرق الأوسط؟ روسيا وإيران أمامكم، وإسرائيل والولايات المتحدة خلفكم، فأين المفر؟ والصين والغرب ينتظران على الحافة ليجمعا الغنائم. أي حقبة جديدة تنتظر الشرق الأوسط وإسرائيل تحاول فرض معادلاتها بالقوة على العالم أجمع بدعم أميركي لا محدود؟ ومن قال إنه من المقبول لإيران وروسيا احتلال دول الشرق الأوسط وإقامة قواعد عسكرية والتعامل مع هذه الدول وأهاليها كأنهم تابعون؟
هل اختلف المشهد حين كانت المنطقة رهن سطوة فرنسا وبريطانيا؟ أو حين كانت رهن السلاطين العثمانيين؟ المشهد أشبه باستنزاف دائم مستمر للمنطقة عبر التاريخ، وعدم السماح لأهالي المنطقة بممارسة حقهم في تقرير مصيرهم، والنيل منهم ومن أراضيهم ومواردهم وحاضرهم ومستقبلهم وأطفالهم وأحلامهم.. وهم مجرد ضحايا.
ثم الحلف الأميركي – الإسرائيلي – الغربي يستنكر الإرهاب الإيراني، وهو الذي جعل المنطقة خرابًا. وماذا عن تدمير واشنطن للعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وليبيا والسودان وأفغانستان؟ هل يتم وضع هذا في إطار الحضارة والسلام؟ الحضارة تكون في التعاون بين المجتمعات البشرية والاحترام المتبادل والتعاضد والدبلوماسية والحوار والمفاوضات. الحضارة لا تكون في خلق جماعات دينية متطرفة ودعمها وزرعها في المجتمعات لتفجيرها أخلاقيًا وقيميًا وفكريًا.
ما يقوله ترامب ومسؤولون أميركيون هو أن الحزب الديمقراطي وعلى رأسه أوباما هو من صنع داعش وغيره. فواشنطن احتلت الشرق الأوسط بحجج واهية ودمرته فكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا وروحانيًا وسياسيًا وماديًا ودمرت بنيته التحتية والأخلاقية.. ثم ماذا؟ ثم تأتي تل أبيب وتفجر الشرق الأوسط عن بكرة أبيه، والعالم أعمى وأخرس. قال نتنياهو في بداية الحرب محذرًا الجميع: الأجدى لهم جميعًا أن يقفوا في صفه أو يصمتوا.
في النهاية، هل هذا هو العالم الذي يريد البشر أن يعيشوا في كنفه؟ هل هذا أفضل احتمال لنا في عام 2024؟ أن يتحكم شخص واحد في مصير مليارات؟ دول محددة تفرض على الجميع طريقة عيشهم وحياتهم وفكرهم وسياساتهم واقتصادهم؟ هل هذا كان الغرض من التطور التكنولوجي والعلمي؟ أن يتم خلق “العالم الصغير” ليتم التحكم بالعالم من شرقه إلى غربه عبر مؤسسة واحدة؟ صوت واحد؟ وكأن لا وجود لمليارات الأفكار والأصوات والأخلاق والخلفيات والفكر والثقافة. وكأن لا قيمة لنا جميعًا.
أي عاقل سيقول لك لا يمكن الاستمرار بالفوضى والغوغائية التي نشهدها، هذا جنون. لا يمكن للإنسان أن يستمر في العيش في قعر العصور المظلمة. ثم، أي حقبة جديدة تنتظر الشرق الأوسط؟ منذ كانت وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش، كونداليزا رايس، تتحدث عن شرق أوسط جديد، ولم نشهد منذ ذلك الوقت إلا بؤسًا ومأساة وظلمًا في المنطقة. لم نشهد سوى عصور مظلمة تتعاظم بقسوتها وأزماتها وفقرها وقحطها. هل هذا هو الشرق الأوسط المُنتظر؟
للمرة الألف، أي حقبة جديدة تنتظر الشرق الأوسط بينما دوله لا تملك القدرة على تقرير مصيرها، ولا تملك الحق في استخدام مواردها، وشعوبها متناحرة، وعلمها متأخر؟ أراضي الشرق الأوسط منهوبة، ومياهه ملوثة، وفرص العمل فيه معدومة، والثقافة هشة، وأصوات التشدد والتطرف تعلو. واشنطن سرقت غاز سوريا، وسوريا مقسمة بين موسكو وطهران وواشنطن، وأهالي البلاد يعانون. العراق مقسم بين تحالف دولي بقيادة أميركية وميليشيات إيرانية، وأهالي البلاد يقاسون. فلسطين التي لم يبقَ منها سوى بضع أشعار وكلمات، تتآكل يوميًا أكثر وأكثر، ثم أهالي البلاد يكابدون.
لبنان المقسم إلى أزقة، تتعامل معه باريس على أنه مستعمرة تابعة لها، بينما سوريا تعتبره محافظة هاربة. كل زقاق في هذا البلد ينتمي إلى طائفة، وكل طائفة تقدم ولاءها لجهة إقليمية أو خارجية مختلفة، ثم أهالي البلاد يتألمون، يموتون، يجوعون.
فأي شرق أوسط جديد ينتظرون؟
كل الأطراف لا تفهم سوى لغة الغطرسة والسطوة. نتنياهو لا يفهم سوى لغة القهر، ولم يكن منذ اليوم الأول معنيًا بأي اتفاق أو حوار مع أي جهة. إسرائيل المتقدمة في أدواتها وتكنولوجيتها، والتي تجد دعمًا دوليًا، تتصرف كأن لا صوت في هذا العالم سوى صوتها وأنها إله هذا الكون.
ثم يأتي نتنياهو ويقول “نحن نريد السلام في العالم”.
إن السلام يقوم على الحوار بين جميع الأطراف، على قبول الآخر، على الفهم بأن كل فرد له الحق في العيش بكرامة والاحتفاء بفردانيته وثقافته وماضيه وحاضره ومستقبله. إن أردت العيش بسلام بجوار الجميع عليك احترامهم وتقديرهم وفهمهم. لا يكون السلام بأن تقضي على الجميع ثم تعيش وحدك على الكوكب.
والولايات المتحدة تكتفي بالقول “لم يكن لدينا علم”، “نحن نراجع التقارير التي وصلتنا من أفعال إسرائيل”، وكأنها تستهزئ بعقولنا ووعينا. وكأننا لا نعي العلاقة بينها وبين إسرائيل. وكأننا لا نفهم أن الأميركي والغربي داعمان دون شروط لوجود إسرائيل. الأميركي الذي بنيت دولته على أنقاض جثث السكان الأصليين. الأميركي الذي يحاول بكل غطرسة فرض كلمته واقتصاده وسياسته وفكره ونهجه وأسلوب عيشه على العالم أجمع، باسم العولمة والحضارة والتطور وبواسطة الأدوات الجديدة المتطورة.
ثم إيران، التي لم تكن يومًا أفضل. إيران الاحتلال، إيران التي تخذل نفسها، لا تستطيع حتى حماية رجالها، وهذا ما شهدناه في ذروة الأحداث. جل ما رأى العالم منها مجرد مسرحيات هشة، خطابات ضعيفة، تخذل رجالها وحلفاءها من قدموا لها القرابين والطاعة. تضحي بالجميع ربما لأجل مشاريعها التوسعية، ربما لأن النخبة قادرة على التضحية بالحلقة الأضعف من رجالها لتستمر “هي”. لكن إيران في النهاية أوهن وأضعف وأجبن من أن تدخل حربًا عالمية مع أطراف النزاع. وجل ما تفعله هو الإلقاء بالجميع في الهاوية وتبقى في مكانها تغرد بكلمات متطايرة وهشة.
ثم نسأل: كيف يمكن للأمم المتأخرة والمتضررة مواجهة كل محاولات تحويل ساحاتها إلى أرض معارك وصراعات بين الصقور؟
أولًا، على الشعوب أن تستيقظ علميًا ومعرفيًا وفكريًا وتكنولوجيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا واجتماعيًا ثم سياسيًا. فمن يمتلك المعرفة والعلم -خاصة في مجال التكنولوجيا والفضاء السيبراني والعلوم بمختلف قطاعاتها، لاسيما في ظل العصر الحديث “عصر العولمة والرقمنة”- يمتلك الزر لقيادة هذا العالم والتأثير عليه بشكل أكبر، صحيح؟ من يمتلك الأدوات الحديثة يمتلك قدرة على فرض كلمته ورأيه ورسم الواقع بريشته وبحسب وجهة نظره وحده. من يحكم الفضاء يحكم الأرض.
الأدوات تتطور لكن في العصر الحديث وعي الإنسان وقيمه وفكره في انحدار وتدهور. لذلك على الأمم العودة إلى مهدها والبدء بالعمل على نقاط ضعفها وانتشال نفسها من الوحل الفكري والقيمي والعقلي والعلمي ومن الجهل والفوضى. لماذا؟ من أجل أن يصبح هناك توازن في القوى قدر الإمكان، حتى لا تصبح الأدوات المتطورة حكرًا على أطراف معينة، حتى لا يكون الحوار بفوقية. حين نصل إلى عالم تتقلص فيه الفجوة المعرفية والعلمية والتطورية والفكرية والإنتاجية بين كل الأطراف في هذا العالم، من الممكن أن نصل إلى عالم أكثر توازنًا، بدلًا من الاستمرار في السير في حلقات مفرغة من التاريخ البشري الاستعماري والاستبدادي والتبعي.
على الشعوب إنقاذ نفسها، لأن لا طرف يرحم طرفًا آخر في قانون البشر. ولا طير أبابيل قادمة لإنقاذ أحد. على الشعوب البدء بدعم الأذكياء والعلماء وأصحاب القدرات والمعرفة والفكر، والبدء بتأسيس مدارس معرفية فكرية علمية حقيقية، والاستثمار بالنهج العلمي والفكري بمضمونه وبشكل حقيقي، والقضاء على الشعوذة، والبدء بإسكات أصوات التافهين ودعاة الرعب. لأن الشعوب في الكثير من مناطق هذا العالم في مأزق حقيقي، وعلقت في عقر جحيم مظلم، وإذا استمرت على ذات النهج فستعيد تاريخها المظلم ومقاساتها كل عشرين عامًا. وحينها لا يمكن للشعوب الدفاع عن نفسها وعن وجهة نظرها، وحقها في تقرير مصيرها، والتأثير في واقعها.