صعود ترمب وبصمة السيطرة ، قراءة في النهج الرأسمالي ، بقلم : نسيم قبها
حقق ترمب والحزب الجمهوري فوزًا كاسحًا في الانتخابات الرئاسية ومجلسي الشيوخ والنواب بخلاف كل الإستطلاعات السابقة . وهو ما يعطي ترمب ومؤيديه في الدولة العميقة أريحية في تقرير الأولويات ووسائل وأساليب تنفيذ السياسات، ولا سيما وأن ترمب مطلق اليدين في ولايته الثانية والأخيرة، إذ ليس ثمة محاذير تدعوه لأخذ انعكاس إدارته للشؤون الداخلية والخارجية على مستقبله السياسي بعين الاعتبار.
ونتيجة لهذا الفوز الذي وصف بالتاريخي فإن الحديث يدور على أن ترمب سيضع لبنة بناء “العصر الذهبي لأميركا” متخذًا من الفوز الكاسح أداة لتوسيع الصلاحيات الرئاسية لتصبح الرئاسة في عهده الأكثر قوة منذ عهد الرئيس روزفلت من حيث السيطرة والمركزية.
ولا شك أن عوامل كثيرة لعبت دورًا في تفوق الجمهوريين على الديمقراطيين في هذه الانتخابات، ومن أبرزها الطبيعة العنصرية للشعب الأميركي الذي تفاعل مع شعار ترمب (أميركا أولًا) وتفاعل مع موقفه من الأقليات الوافدة، وتفاعل كذلك مع الوعود الاقتصادية التي تهم الناخب الأميركي، والتي أبدت فيها كمالا هاريس ضعفًا واضحًا. والأهم من ذلك هو وقوف كبار الرأسماليين من أصحاب القطاعات الاقتصادية الداخلية إلى جانب ترمب، كريتشارد أويهلين، وبيل أكمان، وميريام أديلسون، والرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورغان، وإيلون ماسك، الذي انقلب على الديمقراطيين وأنفق أموالًا طائلة على حملة ترمب الانتخابية لقاء منافع شخصية تعهد الأخير بها، نحو زيادة الضرائب على المركبات الكهربائية الصينية لصالح (تسلا) التي تمثل أساس ثروة ماسك، بالإضافة إلى استثماراته في الفضاء والعملة الرقمية.
وقد تمكن ترمب من استغلال تذمر العديد من أصحاب رؤوس الأموال الجديدة (العملات الرقمية والذكاء الصناعي) من السياسات الفدرالية المعوقة لحرية السوق، ورفضهم الشديد لرغبة الكونجرس التدخل في عمليات السوق عبر سن قوانين الرقابة والمنافسة، وهو ما جذب بعض شركات التقنية نحو الحزب الجمهوري، وبخاصة شركات تقنيات العملات المشفرة والذكاء الصناعي. ولذلك ومع الإعلان عن فوز ترمب تجاوزت قيمة شركة (تسلا) ترليون دولار، وارتفعت قيمة العملات الرقمية إلى مستويات قياسية.
ومن نافلة القول إن الاقتصاد وتنمية الثروة هو الذي يوجه خيار المتبرعين للحملات الانتخابية ويتحكم في توجهات الإدارة الأميركية أكثر من أي شيء آخر. ولذلك كان تعهد ترمب باتباع سياسة حمائية للشركات الأميركية، والحد من تدفق البضائع الأجنبية للولايات المتحدة، وتعديل الميزان التجاري مع الصين وأوروبا، جاذبًا للشركات والمؤسسات التي تعمل داخل الولايات المتحدة، ومُثيرًا لقلق الأوروبيين والصينيين. وذلك بخلاف الداعمين لكمالا هاريس من أصحاب الشركات العابرة للقارات والتي تدعو للانفتاح الاقتصادي مثل ألفابت (المالكة لغوغل)، ومايكروسوفت، وأمازون، وآبل، وميتا، والتي تتخذ من الليبرالية التي يتبناها الديمقراطيون أداة لتوسيع أسواقها وتوسيع أنشطة الولايات المتحدة الاستعمارية.
صحيح أن الشعب هو الذي يمارس حقه في الانتخاب، لكنه مقيد بانتخاب من تقدمه الدولة العميقة والتي تتشكل من مجموعة مختلطة ومركبة من عناصر حكومية واستخبارية وجماعات مالية وصناعية وعسكرية وإعلامية، قادرة على التأثير في قرارات حكام الولايات المتحدة الأميركية، وأبرزهم وول ستريت، وسيليكون فالي، والمجمع الصناعي العسكري، ووكالات الأمن القومي، والبنتاغون، وشركات النفط العملاقة، وغيرها. وقد بلغ تمويل أصحاب المال والأعمال للحملة الانتخابية الأخيرة (15.9) مليار دولار. ومن ثم فإن هذه القوى هي التي تملي أجندتها السياسية على الإدارة المنتخبة، وتتحدد بموجبها الأولويات وآليات التنفيذ والسياسات الداخلية والخارجية، وإن كانت استراتيجيات الأمن القومي واحدة. ذلك أن التأييد والدعم الممنوح للرئيس الأميركي من قوىً في النظام الأميركي ليست من دون حساب وإنما ترتبط بالمصلحة فقط، ولا مانع من سحب التأييد منه إن تبدلت المصلحة.
بل إن النظام الأميركي كرّس آلية استخدام الفيتو، ومنحها لمجموعات نافذة تستطيع أن تضع فيتو ضد أي إجراء قد يضرها، وهو الأمر الذي يجعل مصالح القوى الرأسمالية مقدمة على مصالح الشعب.
فعلى سبيل المثال، كان تحالف ترمب مع شركات النفط الصخري محوريًّا، فلقد انسحب ترمب من أجلها من اتفاقية باريس للمناخ. وما اعتراف ترمب بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل سنة 2019، إلّا لخدمة شركة النفط الأميركية، “جيني” (ديك تشيني، روتشيلد، ماردوخ…)، التي استحصلت على عقود استخراج النفط هناك منذ نحو عقد من الزمن.
وأما تأثير دعم بايدن للكيان الصهيوني على الانتخابات فلم يكن له أثر بالغ في مواقف الناخبين، ذلك أن رصيد ترمب في دعم الكيان المحتل أثناء رئاسته الأولى يفوق ما قدمه بايدن في الناحية السياسية. ورغم أن كمالا هاريس حصدت زهاء 80% من أصوات اليهود الأميركيين إلا أن القاعدة الإنجيلية للجمهوريين والمحافظين الجدد أكثر ثقلًا في ميزان الانتخابات، وفي سوق المزايدة والحرص على السياسات الأميركية حيال الكيان الصهيوني.
ومن هنا فإن الموقف الأميركي من قضايا الشرق الأوسط ثابت من ناحية استراتيجية وإن اختلفت الخيارات التفصيلية وآليات التنفيذ. ومصالح الأمن القومي الأميركي في المنطقة تقوم في الأساس على ضمان أمن “إسرائيل” كقاعدة غربية متقدمة، وضمان الهيمنة الجيوسياسية والتحكم بالنفط، وضمان خضوع أنظمة المنطقة وحكامها، وضمان السيطرة على الشعوب التي تمثل بمبادئها تحديًا للمصالح الاستعمارية ومركزية القيم الوافدة.
وبالتالي فإن المصالح الأميركية في المنطقة ثابتة، وما يتغير هو كيفية تنفيذها بحسب الوقائع والمستجدات.
وبناءً عليه وبالنظر إلى المناخ اليميني المهيمن في الولايات المتحدة وانعكاسه على الانتخابات الأميركية وفوز ترمب والجمهوريين ووفقًا للمعطيات الراهنة فمن المتوقع أن يمنح الرئيس ترمب نتنياهو مساحة تمكنه من التمسك بالوقائع التي أوجدها في غزة، وعدم اعتراضه على التوسع الصهيوني في الضفة الغربية وضم المناطق (ج) معتمدًا على الواقعية السياسية، التي ينتهجها والتي تقود إلى تكييف المسار السياسي بما يستوعب الوقائع على الأرض، وهو ما يعطي مزيدًا من الوقت لنتنياهو ونهجه المعرقل لحل الدولتين . ومواصلة توسيع ما يسمى بالاتفاقيات الإبراهيمية، ولا سيما وأن من بين داعمي حملة ترمب والمؤثرين في توجهاته السياسية “بيتر ثيل” الذي يدعم الجيش الإسرائيلي في حربه الإجرامية على غزة.
كما يُتوقع أن يواصل نتنياهو تعنته بشأن وقف الحرب ريثما يتسلم ترمب مهامه الرئاسية، إذ من المرجح أن يوقف نتنياهو الحرب بعد تولي ترمب مهامه الرئاسية دون أي تغيير جوهري في الوضع القائم، وذلك تلبية لاستحقاق (صفقة القرن) التي قادها ترمب، والمزمع استئنافها في المرحلة القادمة. وبخاصة وأن الأخير قد جعل قرار وقف الحرب بيد نتنياهو حينما قال في أول مناظرة إعلامية بينه وبين الرئيس بايدن إن “إسرائيل هي من تريد أن تستمر في الحرب، ويجب السماح لهم بإنهاء عملهم”.
وهنا يبرز الفرق بين بايدن وترمب في التعاطي مع الكيان الصهيوني؛ إذ إن الأخير لا يضع قيودًا على نتنياهو كما يفعل بايدن، وإن كانت “قيود” الأخير مجرد مطالب بلا أسنان، وهي منبثقة من رؤية أميركا لمصلحة الكيان المحتل. وفي هذا السياق قال ترمب: “منذ البداية، عملت هاريس على تقييد يد إسرائيل بمطالبتها بوقف فوري لإطلاق النار، وهذا لن يمنح حماس سوى الوقت لإعادة تجميع صفوفها وشن هجوم جديد، على غرار هجوم السابع من أكتوبر.