الفلسفة من أجل التغيير الثوري والنهوض التقدمي الديمقراطي، بقلم : غازي الصوراني
الفلسفة من أجل التغيير الثوري والنهوض التقدمي الديمقراطي في مشرق ومغرب الوطن العربي
يسعدني أن أقدم هذه الدراسة إلى اصدقائي ورفاقي وكل من يتابع اصداراتي ، باعتبارها دراسة حاملة لروح ورؤى استراتيجية نهضوية مستقبلية تتحدى ممارسات العولمة الامبريالية الأحادية البشعة ضد شعوبنا ، بمثل ما تتحدى ظروف الانحطاط والتخلف والتبعية السائدة في بلدان وطننا العربي ، إلى جانب التحدي المعرفي والثقافي والسياسي للعدوان الصهيوني الهمجي العنصري المستمر ضد قطاع غزة الفلسطيني ،لعل في هذا التحدي ما يشجع البعض على التفاعل الموضوعي العقلاني الفلسفي بمضامينه النهضوية التقدمية الديمقراطية الكفيلة بتجاوز كل مظاهر التبعية والخضوع والتخلف السائدة في بلداننا على طريق تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والديمقراطية.
في بداية هذه الدراسة أود الإشارة إلى أن العالم الذي اعتاد التفاعل مع الفلسفة _ خاصة في ظروف العولمة الإمبريالية الراهنة هو عالم منقسم إلى مجموعتين ، الأولى وتضم 15% من سكان الكوكب وتتجسد في المراكز الرأسمالية الكبرى ضمن إطار امبريالية العولمة بقيادة الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة ، والمجموعة الثانية التي تضم 85% من سكان الكوكب تُجسّد عالم الأطراف ، وهي مجموعة بلدان العالم الثالث او الرابع المنتشرة في أمريكا اللاتينية وآسيا وافريقيا التي تعيش حالة من التبعية والخضوع للنظام الإمبريالي بحيث أن معظم ثرواتها باتت مُحتكرة لحساب المركز الإمبريالي الذي يقوم بالفعل بأبشع عملية استغلال تتخطى الاستغلال الفردي بين البروليتاري وصاحب المصنع الرأسمالي ، لتصبح استغلالاً لفائض القيمة لشعوب بلدان تلك الأطراف عمومـاً وبلدان الوطن العربي النفطية خصوصـاً. في هذا الجانب، علينا أن نقرّ أن الفلسفة تنتمي -كما يقول الصديق د.هشام غصيب- “إلى الطبقة الأعمق من طبقات الوعي الاجتماعي التاريخي. فهي تتعامل مع الأسس المتنامية الأعماق في الفكر. ومن ثم، فهي تمثل عمق أعماق الوعي الاجتماعي التاريخي. وهذا يعني أن الفلسفة تكون قاعدة الذات المفكرة، وأن الذات المفكرة تجد نفسها في الفلسفة”. وفي هذا السياق، لابد لي من الاقرار بأن المجتمعات المتخلفة، ومن بينها مجتمعاتنا في مشرق ومغرب الوطن العربي، لا زالت أسيرة للمفاهيم اليقينية المطلقة المتوارثة، دون أي تفاعل مع جوهر الوعي العقلاني الفلسفي الديمقراطي وأقصد بذلك فكرة الاختلاف، فعلى سبيل المثال ما زالت مقولة الجماعة أو مقولة الشعب أو الأمة أو الجماهير قائمة في مجتمعاتنا كهوية نابذة للاختلاف، للتعددية، وبالتالي يتم التركيز على فرد يجسد ويقزم في آن واحد مفهوم الجماعة، سواء من منطلق وطني (عبد الناصر كمثال) أو من منطلق رجعي تابع ومتخلف ومستبد (كما الأغلبية الساحقة من الحكام العرب خاصة دويلات الخليج والسعودية) . وليس عجيباً إذاً “أنّ ثروات «الأنظمة» الوحدانية العربية على تعدّدها وضخامتها، لم تنتج، في التحليل الأخير، منذ اكتشافها واستخدامها، إلا الفقر والجهل والبطالة والتفكك الاجتماعيّ، وتضخّم العقلية البدويّة، وذلك تجسيدا لعملية إعادة إنتاج وتجديد التخلف ، بحيث عجز العالم العربي كله عن إقامة أي مجتمع مدنيّ، على مدى أربعة عشر قرناً “، وعجز تبعاً لذلك، عن إقامة دولة تحترم الإنسان وحقوقه، والعلم وحقوقه، والمعرفة وحقوقها، والتقدم وحقوقه، وهنا بالضبط تتجلى مقولة ماركس في أن ” الميت يحكم الحي”. بناء على ذلك، فإن ما يجري في بلادنا عموماً، هو شكل من أشكال تجميد قواعد الاختلاف الذي أدى إلى انتصار أدوات ومظاهر ومؤسسات التخلف وإعادة انتاجه وتجدده في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر، الى جانب تجميد قواعد الاختلاف الذي أدى الى انتصار الفرد القائد على الناس ، انتصار الدولة على المجتمع، القيادة الفردية على كل المؤسسات الوطنية والتشريعية والبرلمانات كما هو حال أوضاع مجتمعاتنا في مشرق الوطن العربي ومغربه المحكومة بالتخلف والاستبداد ، على الرغم من اننا في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، الحامل والزاخر بمظاهر التقدم الهائل للعلوم في هذا العصر، واستمرار حضور الفلسفة وضرورتها الموضوعية الملحة في البلدان المتقدمة والمتخلفة رغم انفصالها عن العلم، وهو انفصال شكلي في كل الأحوال، لكن هذه الضرورة تتجلى أكثر بما لا يقاس في البلدان المتخلفة، خاصة في بلدان الوطن العربي التي مازالت غارقة إلى حد كبير في أحكام سابقة، تقوم على أساس التقاليد والتراث السلفي اللاعقلاني الرجعي الذي يشكل أحد العوامل الرئيسية التي تَحوْل دون انتشار الرؤى العقلانية المستنيرة، وتعزز عرقلة نهوض وتطور شعوبنا ومجتمعاتنا العربية. وبالتالي فإن الحديث عن التفاعل مع الفلسفة لن يكون له أي قيمة أو معنى أو مغزى ما لم ننطلق من وعينا أن الفلسفة التي نتطلع إليها من أجل تطوير ونهوض مجتمعاتنا في مشرق ومغرب الوطن ، ليست أبداً ولن تكون فلسفة من أجل الوعي في ذاته بل يجب أن تحمل في طياتها كافة حوافز التغيير والثورة ضد كل أشكال التبعية والاستغلال الرأسمالي وفق المنظور الطبقي ، وذلك لإحياء الفلسفة بدلاً من الاحتفاء الشكلي بها ، بمعنى تعميق وعينا بكل جوانب الفلسفة الحديثة عموماً والفلسفة الماركسية اللينينية خصوصاً على طريق مجابهة وانهاء كل مظاهر التبعية والخضوع والتخلف والاستغلال والاستبداد في بلداننا، بما يضمن امتلاكنا لعوامل القوة المادية بكل أبعادها الفكرية التقدمية والتكنولوجية والاقتصادية والعسكرية الكفيلة بمجابهة الوجود الصهيوني الامبريالي وطرده من بلادنا . وفي هذا السياق، لابد لي من التذكير بدروس وعبر تاريخ الفلسفة منذ نشأتها، فمنذ ما قبل الميلاد، طرح الفيلسوف الاغريقي بروتاغوراس شعاره المعرفي “الانسان مقياس الأشياء جميعاً”، وكان يقصد بذلك أن الصح والخطأ، الخير والشر، كلها يجب أن تْحدد حسب حاجات الكائن البشري ، ومنذ ذلك التاريخ، إلى يومنا هذا، ارتبط تطور الفلسفة -ومازال مرتبطاً- بتطور العلاقات المادية بالمعنى الاجتماعي بين البشر، وما أفرزته تلك العلاقات من مصالح طبقية متنوعة، في إطار الأنماط أو التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية، منذ المجتمعات العبودية، والإقطاعية، وصولاً إلى المجتمعات الرأسمالية الحديثة والمعاصرة. وبالتالي فإن مسيرة الفلسفة وتطوراتها، والمتغيرات التي أصابتها طوال تاريخ البشرية، منذ الإغريق إلى يومنا هذا، ارتبطت بطبيعة النمط الاقتصادي الاجتماعي السائد في هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات البشرية، ما يعني أنها مسيرة تعرضت، لمحطات، ومراحل متنوعة ومختلفة، من الرؤى الفلسفية التي عبرت عن هذا النمط، الاقتصادي الاجتماعي أو ذاك، حيث نلاحظ اختلاف تلك الرؤى والطروحات الفلسفية في مرحلة سيادة النمط العبودي الذي امتد حتى القرن السادس الميلادي، عن تلك الرؤى والطروحات التي سادت في ظل النمط الإقطاعي الذي استمر حتى القرن السابع عشر الميلادي، وظهور النمط أو التشكيلة الرأسمالية التي تجسدت بتأثير العلاقات الاجتماعية الرأسمالية من جهة وبتأثير الرؤى والأفكار الفلسفية ألنقيضه للفكر والفلسفة التي سادت في المجتمعات الإقطاعية من جهة ثانية. لكن، وعلى الرغم من ذلك الاختلاف الجوهري العميق في الطروحات الفلسفية، إلا أن السمة المشتركة بين كافة الفلاسفة القدماء والمحدثين والمعاصرين تتجلى في أن كل فيلسوف من هؤلاء، أسس وقَدَّمَ رؤية كونية مجتمعية جديدة وشامله محمولة بالمؤشرات الخاصة التي تدل على فلسفته دون عزلة أي من هؤلاء الفلاسفة – رغم خصوصية فلسفتهم- عن واقعهم الاجتماعي الاقتصادي الذي عاشوه، وهنا يتداخل الخاص الفلسفي لأفلاطون مثلاً مع العام الإغريقي، كما يتداخل الخاص الفلسفي لابن رشد أو الغزالي مع العام في المجتمع العربي والإسلامي، كما يتداخل الخاص الفلسفي لدى ديكارت أو كانط او هيجل مع العام في الفلسفة الغربية القديمة والحديثة. فمع تطور المجتمعات البشرية، تتطور الفلسفة والمعارف في إطار من الحراك والتغير الاجتماعي، وهذه هي السمة الأبرز لتطور الفلسفة في المجتمعات الغربية وتواصلها، وتجددها التاريخي عموماً، منذ القرن السادس عشر الميلادي إلى يومنا هذا خصوصاً، على النقيض من مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي عاشت في أواخر القرن الثاني الهجري واوائل القرن الثالث الهجري( التاسع الميلادي) أوضاعاً متطورة، سياسية واجتماعية ومعرفيه بالمعنيين الفلسفي والعلمي، لم يسبقها اليها أحد من دول وشعوب العالم في تلك الحقبة، وذلك من خلال الإنتاج الفلسفي والعلمي لفلاسفة المسلمين، بدءاً من دار الحكمة التي أسسها هارون الرشيد (170-193هـ) وازدهرت في عصر ولده المأمون(170 ه-218ه) لتتعهد بالرعاية والترجمة إلى العربية مجموعات من الكتب اليونانية في العلم والفلسفة ، الى جانب انتشار وازدهار عقلانية المعتزلة (القرن التاسع الميلادي) وإخوان الصفا (القرن العاشر الميلادي) ثم الفلاسفة بدءاً من الخوارزمي والكندي في القرن التاسع الميلادي، وابن الرواندي والرازي والفارابي في القرن العاشر الميلادي وصولاً إلى ابن سينا والغزالي وابن باجه وابن طفيل وابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي، وكان لفلسفتهم دوراً كبيراً في نهوض الفلسفة الغربية. لكن الانقطاع المعرفي في الفلسفة العربية الذي جرى منذ وفاة ابن رشد 1298م، أدى إلى تعرض الفلسفة العربية، منذ ذلك التاريخ إلى حالة من التراجع والضعف، جاءت انعكاساً لضعف وتراجع عملية التطور السياسي الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي الذي توقف عن الصعود، بل على العكس بدأت عوامل التطور الاجتماعي والمعرفي السالب في الظهور، ومن ثم خلق وانتشار المناخ الملائم لتكريس التخلف وإعادة إنتاجه وتجديده واستمراره في بلادنا منذ القرن الثالث عشر حتى المرحلة الراهنة، من خلال تكريس مظاهر التخلف والخضوع للأجنبي منذ انهيار العصر العباسي الأول (861م) وتفكك الدولة العباسية إلى دويلات وطوائف متعددة ومتنافره، الطولونيين في مصر لغاية 905م، ثم الأدارسة في المغرب لغاية 926م، ثم الحمدانيين في سوريا والجزيرة العربية حتى عام 1004م، ثم الفاطميين في مصر حتى عام 1171، والمرابطين في المغرب شمال أفريقيا حتى عام 1147م، ثم الايوبيين حتى عام 1260م، ثم عهد المماليك منذ عام 1250 – 1516 وصولاً إلى العهد العثماني منذ 1516 حتى 1918 نهاية الحرب العالمية الأولى، وقبل ذلك التاريخ احتلال الاستعمار الفرنسي والإيطالي لبلدان المغرب العربي (الجزائر 1830 /موريتانيا 1858/ المغرب 1912 / تونس 1881/ ليبيا 1911) ، وكذلك احتلال الاستعمار الإنجليزي لمصر عام 1882 ثم احتلال فلسطين والعراق والأردن بعد الحرب العالمية الأولى ، ثم احتلال الاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان 1921 تنفيذاً لاتفاق سايكس بيكو 1916، ووعد بلفور 1917 ومن ثم تشجيع الحركة الصهيونية واغتصاب فلسطين وقيام الدولة الصهيونية عام 1948، وصولاً إلى تغلغل النظام الامبريالي الامريكي في بلادنا وحلوله محل الاستعمار الإنجليزي منذ عام 1957 وتكريس سيطرته المباشرة وغير المباشرة على معظم بلدان الوطن العربي عموما والبلدان النفطية في الخليج والسعودية خصوصا ، ومن ثم تزايد سيطرته واستغلاله لثروات شعوبنا عبر تكريس التبعية وتعميق مظاهر التخلف والاستبداد ارتباطاً بالمصالح الطبقية للأنظمة الرجعية من ناحية وبسياسات النظام الامبريالي الأمريكي المعولم الراهن من ناحية ثانية، وكان هذا الوضع سبباً رئيساً ليس في غياب الدور المعرفي التنويري التحرري للفلسفة فحسب، بل أيضاً غياب الدور السياسي المرتبط بوضوحها العقلاني النقدي الديمقراطي ، في مقابل حضور وانتشار الأفكار والتيارات المذهبية الرجعية من خلال الحركات الاسلاموية المنبثقة عن الفكر الوهابي المُعبِّر عن مصالح النظام الرجعي السعودي من ناحية والخادم للاستعمار الإنجليزي ثم للامبريالية الامريكية من ناحية ثانية . في ضوء ما تقدم ، يحق القول، إن الحالة الراهنة للفكر الفلسفي في الوطن العربي، تتميز ليس بالتراجع المعرفي الحداثي الإنساني فحسب، بل أيضاً بسيطرة الأفكار الغيبية المتخلفة بصورة غير مسبوقة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، حيث تبدو الأبواب موصدة في وجه الفلسفة عموماً، وفي وجه مفاهيم الحرية والتنوير والعقلانية والليبرالية والديمقراطية والمواطنة، وكافة المفاهيم الحداثية، لحساب مفاهيم الاستبداد والتخلف المعرفي والاجتماعي، التي يعاد انتاجها وتجديدها في هذه المرحلة التي تتعرض فيها بلدان الوطن العربي ومجتمعاتها لمزيد من الانقسامات والتجزئة والتفكك والتشرذم وضياع الهوية، انعكاساً لتفاقم وتزايد مساحة التبعية والخضوع والارتهان للمركز الامبريالي من ناحية وتزايد مظاهر الفقر والجهل والاستغلال والاستبداد من ناحية ثانية ، الى جانب انتشار حركات وتيارات الإسلام السياسي الأصولية المتطرفة التي تعلن رفضها الصريح لقيم الحداثة، المتمثلة في الديموقراطية والاستنارة، وتضع في مواجهتها: الشورى، وإحياء فكرة الخلافة، أو ولاية الفقيه. لقد بات من الواضح تماماً أن هذه الأصولية المتشددة ترفض كل أشكال الحداثة الثقافية، مقابل الاعتراف بثقافة واحدة فقط: الدينية السلفية، النقيضة لمفاهيم الحداثة الرئيسية: العقلانية والإنسانية والفردية، بمثل رفضها لمفاهيم الوطنية والقومية والتقدم العلماني، في مقابل تكريس الأفكار والمفاهيم والمذاهب الرجعية، في خدمة المصالح الطبقية للفئات والشرائح العليا الحاكمة في بلادنا، الأمر الذي أدخل مجتمعاتنا في حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي، علاوة على تواصل حالة الانقطاع المعرفي – التي أشرنا اليها- منذ وفاة ابن رشد إلى اللحظة الراهنة، ارتباطاً بانتشار وتغلغل المفاهيم الرجعية، بعد تمكُّن الغزالي، وتلاميذه، من تصفية الفلسفة في المجال السُنِّي، بينما تحوَّلت الفلسفة إلى اللاهوت، في المجال الشيعي، إلى جانب تكريس ما يسميه المفكر الراحل جورج طرابيشي، “نفي الفلسفة” في مجتمعاتنا مع دخول “الحضارة العربية الإسلامية مرحلة أفولها وانحطاطها منذ القرن الثالث عشر الميلادي، بتأثير الهجوم الشرس، الذي شنته عليها مدارس الفقه العديدة منذ منتصف القرن الثالث للهجرة مع (أحمد ابن حنبل)، وحتى بلغت ذروتها مع (ابن تيمية) في القرن الثامن للهجرة”( )، فأفلحت دولة الاستبداد بتسخير هذا، في حصار وإعاقة العقل النظري التنويري الديمقراطي العربي، حتى غدت الفلسفة العقلانية الديمقراطية والتقدمية غريبة في بلادنا، بل مرفوضة، في مقابل تكريس فلسفة التخلف التي تقوم على التلقين، والإملاء، وبالتالي الإذعان، دون نقاش، أو حتى بدون اقتناع، ما أشاع مظاهر الركود والتخلف الاجتماعي في أوساط الجماهير الشعبية العربية العفوية منذ القرن الثالث عشر الميلادي إلى يومنا هذا ، عبر أنظمةٍ شديدة التخلف ، كرّست الحاكم الفرد وعائلته باسم الخلافة او السلطنة او المشيخة او المملكة او الامارة ، بقوة الاستبداد المحمول بالشعارات الدينية الشكلانية الديماغوجية التي قاموا بنشرها في أوساط الجماهير العفوية البسيطة . في هذا السياق، لابد من طرح السؤال التالي : كيف وصل العرب في المرحلة الراهنة إلى هذه الحال الشديدة الانحطاط التي أدت إلى اعادة انتاج وتجديد التخلف بكل مضامينه الاجتماعية والثقافية، وأين يكمن الخلل؟، وجوابي انه يكمن في طبيعة التطور الاجتماعي الاقتصادي التاريخي المشوه والمتخلف، وخصوصاً في مرحلة الانفتاح والبترودولار، التي وفرت المناخ الملائم لإعادة تجديد وانتاج الأفكار والحركات السلفية الغيبية المتزمتة، تمهيدا لهيمنتها على صعيد الفكر والمجتمع في بلدان المشرق والمغرب، انسجاما مع تزايد تبعية وتخلف وارتهان تلك البلدان للنظام الإمبريالي، بما أدى إلى ازاحة المعرفة العقلانية والسلوك الديمقراطي لحساب التخلف والأفكار الرجعية السلفية، التي كانت – وما زالت – تشكل عقبةً في وجه تفتح الرؤية العقلانية التنويرية ، وأبقت الأوضاع في بلادنا أسيرة لمناخ التخلف ومظاهره، التي تتبدى في أن ” العقل السياسي العربي محكوم في ماضيه وحاضره – كما يقول المفكر الراحل محمد الجابري – ” بمحددات ثلاثة هي : القبيلة والغنيمة والعقيدة، أي بعلاقات سياسية معينة تتمثل في القبيلة، وفي نمط إنتاجي معين هو النمط الربوي، الذي يرمز إليه بالغنيمة (الدخل غير الإنتاجي)، وسيادة العقيدة الدينية، ويرى أنه لا سبيل إلى تحقيق متطلبات النهضة والتقدم بغير نفي هذه المحددات الثلاثة نفياً تاريخياً وإحلال بدائل أخرى معاصرة لها.
في هذا الجانب، أشير إلى العلاقة التبادلية، والترابط الجدلي بين حالة التخلف المعرفي، وبين أوضاع التخلف الاجتماعي الاقتصادي في مجتمعاتنا العربية، التي تعيش حالة من الانحطاط والانقطاع المعرفي منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى اليوم .
صحيح ان هناك عوامل خارجية وظروف موضوعية، أدت إلى مراكمة وتكريس أوضاع التخلف والاستتباع، إلا أننا لا يمكن أن نتجاوز العوامل الذاتية العربية من حيث غيابها وقصورها وعجزها، ارتباطاً بالمصالح الطبقية الانتهازية، ودورها الرئيسي في وصول مجتمعاتنا وبلداننا إلى هذه الدرجة من الخضوع والتخلف المعرفي والمجتمعي، الذي حال دون ظهور أي فيلسوف عربي بعد ابن رشد، في مقابل نهوض أوروبا المعرفي والمجتمعي من خلال فلسفات عظيمة قدمها بيكون وديكارت وكانط وسبينوزا وهيجل وجون لوك واوجست كونت ومونتسكيو وروسو وفولتير وديدرو وسنتيانا ووليم جيمس وماركس ودوركايم وماكس فيبر وشوبنهاور ونيتشه وداروين ولوكاتش ودريدا وفوكو وماركيوزه وهابرماس وغيرهم، علاوة على صياغتهم للرؤى المستقبلية التي حددت طريق النهوض الأوروبي الحديث والمعاصر الممتد حتى اللحظة.
بالمقابل ، فشل مشروع التنوير العربي وانقلب على أعقابه، لأنه أخفق في بناء خطاب عقلاني يواصل البدء، ولأنه انكفأ على الذات الماضويّة مرّة، وارتمى في أحضان الآخر مرة أخرى، إنّه مُني بالإخفاق لأن قيم التنوير لم تنتصر في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، وبقيت اليقينيّات المطلقة هي السائدة مما فاقـم الأزمة” -كما تقول د.خديجة زنتيلي- وكل هذه اليقينيات تُعَبرِّ عن المصالح الطبقية الرأسمالية سواء كانت في إطار الأنظمة الحاكمة أو في حركات الإسلام السياسي، باعتبارها أحد أهم الأسباب الرئيسه في إجهاض مشروع النهضة والتنوير العربي.
ولهذا يقول المفكر الراحل محمود العالم ” إن قضية تجديد العقل السياسي العربي اليوم مطالبة بأن، تحول “القبيلة” في مجتمعنا إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي، وتحول ” الغنيمة “أو الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي، يمهد لقيام وحدة اقتصادية بين الأقطار العربية، كفيلة بإرساء الأساس الضروري لتنمية عربية مستقلة، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي، أي التحرر من سلطة عقل الطائفة والعقل الدوجمائي، دينياً كان أو علمانياً، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي”، ما يستدعي من المثقف العربي في مجابهة هذا التمدد الرجعي السلفي غير المسبوق، التأمل والتفكير والنضال السياسي الديمقراطي ضد الاستبداد والاستغلال ومتابعة المستجدات النوعية التي ستدفع إلى بلورة مفهوم جديد للمعرفة، صاعداً وثوريا وديمقراطيا بلا حدود أو ضوابط، بعد أن أصبحت صناعة الثقافة والمعلومات من أهم صناعات هذا العصر بلا منازع .
وهنا بالضبط تتجلى في إطار دعوتي للتفاعل المعرفي ،أهمية الفلسفة ونشرها عبر الجامعات والمدارس في بلادنا لمجابهة تحديات الانحطاط الاجتماعي الثقافي الراهن، عبر إعادة الاعتبار للفكر الفلسفي الديمقراطي والتقدمي، من خلال إعادة بلورة وصياغة أسس ومفاهيم الحداثة والعقل والعقلانية والحرية بما يسهم في استنهاض الفكر العربي المعاصر ونقله بصورة نوعية قادرة على إحداث التغيير النهضوي الديمقراطي المطلوب، ذلك هو هدف الفلسفة العقلانية الحداثية الديمقراطية التقدمية القادرة على مجابهة وهزيمة القوى اليمينية بمختلف منطلقاتها وأطيافها والوانها ومسمياتها.
وهذا يقودنا إلى الوقوف أمام رفض معظم الأنظمة العربية راهناً لتدريس الفلسفة عموماً والفلسفة الحديثة خصوصاً، وهو رفض يستجيب للمصالح الطبقية في تلك الأنظمة، علاوة على أنه رفض لا يتقاطع ويتفق مع رفض الغزالي لفلسفة ابن رشد فحسب، بل أيضاً رفض يلتقي ويتطابق مع التيارات السلفية الرجعية بدءاً من الحركة الوهابية إلى الإخوان المسلمين وصولاً إلى مختلف الحركات السلفية المنغلقة والمعادية لمجمل الفلسفات العقلانية والعلمية الحديثة والمعاصرة.
إن انحيازي المعرفي لإبن رشد أو لغيره من فلاسفتنا القدماء أمثال الكندي والخوارزمي والفارابي والرازي وابن سينا الذين تميزوا باستنارتهم العقلانية والدينية، وهم بلا شك أحد العلامات المضيئة في تراثنا التاريخي، هو انحياز للتفكير العقلاني الحر القائم على احترام الرأي والرأي الآخر.
لكن، لابد من الاقرار بأن الجوانب الايجابيه لفلسفتهم ارتبطت بالمرحلة التي عاشوها، ما يعني التنبيه إلى ضرورة استشعار القطيعة التي تفصل بيننا وبين فلاسفتنا القدماء، فظروفهم –كما يقول بحق هاشم صالح- غير ظروفنا، ومرجعياتهم غير مرجعياتنا، وهمومهم غير همومنا، ومصطلحاتهم غير مصطلحاتنا، “والواقع أننا إذا لم نعِ مفهوم القطيعة الإبستمولوجية (المعرفيه) في التاريخ، فلا يمكننا أن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة، ولا ان نحل مشاكل الحاضر، وسوف نظل أسرى الماضي ومسجونين فيه أو منغلقين داخله، ما يعني استمرار أوضاع الاستبداد والاستغلال والتبعية وأنظمة الحكم الفردية شبه المطلقة في بلداننا.
الصورة الحالية إذن، هي كما يلي: استمرار تراكمات عوامل التخلف والركود والتبعية والاستبداد، إلى جانب استشراء ظاهرة الحاكم المتفرد المطلق في بلادنا ، مقابل “السكون” الاجتماعي ؟؟” طبعاً لا أنكر الحركة الموضوعية المتراكمة داخل ذلك السكون.. لكنها حركة بطيئة غير صاعدة من جهة، مسلوبة الإرادة، ولا تعرف بالضبط إلى أين تتوجه طالما أن الطلائع السياسية الوطنية الديمقراطية التقدمية المنظمة الواعية لا تتصل بجسور قوية، وبنشاط لا يعرف الكلل، داخل السكون الاجتماعي بهدف تحويله من شكله العفوي الساكن إلى حركة تغييرية واسعة وعميقة، وهذا أمر ممكن لان كافة الظروف الموضوعية متوفرة، لكن العامل الذاتي (الحزب الطليعي التقدمي) يعاني من أزمته الداخلية العميقة.
من هنا، فإن من واجبنا ترسيخ الوعي بمقولات الحرية والمواطنة والاختلاف، باعتبار إنها تمثل الجزء الأولي والبسيط في التصور الديمقراطي للعملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا باعتبار هذه المقولات هي الميدان الواسع الحقيقي الذي سيحدد وجهتنا في الحاضر والمستقبل، لكي نسهم في تراجع حالة السكون.
لذلك لابد من الديمقراطية التي تنطلق من فلسفة الحداثة التقدمية، التي تقوم على وعي جدلية الواقع والاحترام للمجتمع، للناس، لفهم الناس وعقلهم، هذا الاحترام شرط المعرفة، والمعرفة شرط النقد والتغيير باتجاه النفي الايجابي. (البداية قد تكون في الأسرة.. في المدرسة.. والشارع.. أو في تداخلهم معاً، المهم أن نتوجه إلى الخاص أولاً ثم العام) .
من جانب آخر ، وفي مقابل حالة التخلف، والانقطاع المعرفي وانتشار الأفكار والفلسفات الغيبية الرجعية في بلادنا، نلاحظ استمرار وصعود التطور المعرفي عموماً، والفلسفي الحداثي العقلاني خصوصاً في أوروبا بعد أن تخلصت من سيطرة الكنيسة على عقول الناس، وتحرر الإنسان الأوروبي –بصورة تدرجية- من مظاهر وأدوات التخلف الديني والاجتماعي في سياق التطور الاقتصادي، للبورجوازية الصاعدة، ونجاح ثوراتها السياسية التي انجزت وراكمت العديد من المهمات والمتغيرات التنويرية العقلانية، الديمقراطية التي مهدت لقيام الثورات السياسية البورجوازية في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان نجاح تلك الثورات –خاصة الثورة الفرنسية عام 1789- بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير، وتدشين عصر النهضة والحداثة، ومن ثم انتقال الفلسفة في أوروبا من العلاقة بين الله والعالم، إلى العلاقة بين الإنسان والعالم، وبين العقل والواقع، إن الميزة الأساسية التي ميزت فلاسفة عصر النهضة، هي انهم أفلحوا في زعزعة الأسس والقيم التي كانت تقوم عليها فكرة الإنسان في العصر الوسيط، وذلك من خلال أفكار ومفاهيم الحداثة، وأبرزها: العقلانية، والإنسانية، والفردية، وهي مفاهيم لم تعرفها وتطبقها مجتمعاتنا العربية منذ القرن الثالث عشر إلى يومنا هذا.
هنا أشير إلى حقبة الصحوة الوطنية والقومية في بلادنا، التي أخذت في الظهور عبر الأفكار النهضوية العقلانية، المستنيرة، على مدى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين في مواجهة الفلسفات السلفية الرجعية السائدة، المساندة للأنظمة المستبدَّة، التي نجحت في إسدال الستار على تلك الصحوة، بدعم استعماري مباشر.
لذلك كله، فإن فهم عالمنا المعاصر، بما في ذلك وضعنا المريع في الوطن العربي “يستلزم ولوج عالم الفلسفة الغربية المسيطرة من أجل الكشف عن سرها السياسي في المقام الأول، إذ، إن للفلسفة الغربية دوراً سياسيا أساسيا، بالإضافة إلى دورها المعرفي المرتبط بتطور العلم، آخذين بعين الاعتبار، أن الفلسفة هي أساسا سياسية، فهي “الجسر الواصل بين العلم والوعي الاجتماعي، إنها الأساس النظري الدفين للممارسة الطبقية، أي للسياسة، ومن ذلك تنبع أهمية الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي ومجابهته جديا. إن مثل هذا الاشتباك ليس ترفاً فكريا، وليس شأنا أكاديميا محضاً، وإنما هو شأن عملي ملح نحتاج إلى إجرائه من أجل معرفة كيف نتصدى للخصم الغربي وإفشال مشروعاته العدوانية الإبادية”.
وهنا أقول بصراحة ووضوح ، إذا لم تتعلم شعوب الأطراف وعمال المراكز كيف يطورون وعيهم وينظمون أنفسهم على أساس معرفة عميقة لطبيعة البرجوازية الغربية المسيطرة، وطبيعة أزمتها الحضارية الخانقة، فإن هذه البرجوازية ستستمر في غيِّها، وتتمادى في ممارساتها العدوانية الإبادية والاستهتار بمصائر الشعوب، وتواصل تصدير أزماتها للمجتمعات غير الغربية عموماً، ومجتمعاتنا العربية خصوصاً.
يقودنا هذا التحليل مرة أخرى إلى ضرورة الاشتباك أو التفاعل مع الفكر الفلسفي الغربي الحديث والمعاصر واستيعابه ، حتى يتسنى لنا أن نفهم العقلية الغربية المتأزمة، عقلية البرجوازية الغربية، التي تحكم عالم اليوم وتؤجج نيرانه.
فالفلسفة سياسية في جوهرها. إنها روح السياسة، ومن ذلك ينبع ذلك الاهتمام الغربي المحموم بها، وكما ينبع إصرار القوى الرجعية في الأطراف على منعها أو إضعافها أو تصفيتها.
أما نحن، الذين لا نعتبر هيمنة الإمبريالية الغربية قدراً محتوماً، وندعو إلى مجابهتها بجدية، على طريقة لينين وماو وهوتشي منه وتشي جيفارا “فندرك جيداً أن لا مفرّ من هذا الاشتباك الفكري الذي يعرّض كل ثوابت الوعي السائد للاهتزاز، وربما الانهيار، والذي يغوص في عمق أعماق التجريد والتنظير من أجل الغوص في عمق أعماق العياني في سياق تغييره، فما هو البديل لماركس ولينين، الذي تطرحه البرجوازية الغربية أمامنا اليوم؟ ماذا تبقى لديها لتقدمه لنا غير نيتشه وهيدغر وصولاً إلى كرزاي” ونتنياهو وشيوخ وأمراء دويلات الخليج والسعودية.
غني عن القول بأن “شعوبنا لم تعش، بعد، المرحلتين التنويرية، للدين، ولم تنهض فيها الثورات العلمية، والفلسفية، والسياسية”، آخذين بالاعتبار أن الديمقراطية لن تهبط علينا بالمظلَّة، ولن تَنْبُت شيطانيًا من الأرض، بل هي تحتاج إلى حراك نهضوي طليعي يمكِّننا من تجاوز كل مظاهر التخلف وامتداداته، العقلية، والثقافية، والقانونية السائدة..
فعلى طريق تفعيل الحراك النهضوي الطليعي، تتجلى الحاجة إلى متابعة الانتاج المعرفي الفلسفي والنقدي العلماني الديمقراطي التقدمي الرافض لكل أشكال الهيمنة والاستغلال السائدة في مجتمعاتنا العربية، والتواصل معه على طريق تحقيق الأهداف الإنسانية المشتركة كما قدمها ودافع عنها فلاسفة العقلانية والتنوير والحداثة منذ ابن رشد وابن سينا والكندي مروراً بجوردانو برونو وجاليليو وديكارت وسبينوزا ومونتسكيو وروسو وفولتير وهولباخ وصولاً إلى كانط وهيجل وفيورباخ وماركس وراسل ولوكاتش وهايدجر وماركيوزه وسارتر وألتوسير وتشومسكي وفاتيمو وسلافوي جيجيك واكسيل هونيث وغيرهم.
ما يعني، أن حديثي عن فلاسفة القرن الحادي والعشرين، هو إمتداد، وتواصل معرفي سياسي، مع ما سبقهم من الفلاسفة والمفكرين طوال التاريخ القديم والحديث والمعاصر، لكنه ليس امتداداً أو تواصلاً بالمعنى الكمي التوافقي، بل هو امتداد نوعي تاريخي، زاخر بالاختلافات والتعارضات من جهة، وبالتوافق والتجديد من جهة ثانية، بين الفلاسفة والمفكرين في كل المحطات التاريخية التي جسدت طموحات البشرية وصراعاتها وتناقضاتها وثوراتها وانتكاساتها منذ ثورة “سبارتاكوس” وتكريس النظام العبودي طوال أكثر من ستة قرون –قبل وبعد الميلاد- مروراً بالنظام الاقطاعي (الأوروبي والآسيوي) منذ القرن السادس الميلادي حتى القرن السادس عشر، وبزوغ عصر النهضة وولادة الرأسمالية وتطوراتها السياسية والفكرية المتنوعة سواء من موقع الدفاع عن مصالحها، أو من موقع رفضها ومقاومتها، كما جرى في كومونة باريس عام 1870 وانتكاستها السريعة، وصولاً إلى ماركس الذي وضع من خلال سِفْرَه العظيم “رأس المال” حجر الأساس للثورات الاشتراكية التي انتصرت على يد “لينين” وحزبه عبر ثورة أكتوبر الخالدة عام 1917، وبداية عهد الصراع بين المعسكرين المتناقضين: الرأسمالية، والاشتراكية، الذي امتد حتى انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة الدولانية الاشتراكية العالمية برمتها، ومن ثم انبثاق نظام العولمة الامبريالي الراهن أواخر القرن العشرين، وامتداده بأساليب وصور متوحشة من الاستغلال حتى اللحظة الراهنة من القرن الحادي والعشرين.
فقد ترافق مع هذه اللحظة الراهنة من النظام الامبريالي المعولم، إنتاج معرفي لا إنساني ولا عقلاني، تحت مسميات فكرية/ فلسفية لا تتوقف عند المفاهيم والفلسفات العنصرية واللاعقلانية وتيارات “ما بعد الحداثة” فحسب، بل تتوالد في ظروف بشاعة العولمة، تيارات فلسفيه دينية، مسيحية واسلامية ويهودية، تدعو إلى تكريس الرؤى العنصرية والصراعات الطبقية والطائفية لحساب النظام الامبريالي المعولم من جهة، كما تدعو أيضاً إلى إعادة انتاج التخلف المعرفي والمجتمعي وتجدده في أوساط الشعوب الفقيرة والمضطهدة كما هو حال شعوبنا ومجتمعاتنا العربية اليوم، الأمر الذي يفرض على كل من يتطلع إلى الخلاص من مظاهر وأدوات الاستغلال والاستبداد وتحقيق مفاهيم التنوير والنهوض والتقدم والديمقراطية والاشتراكية، إعادة قراءة تاريخ التطور البشري عموماً، وتاريخ تطور الفكر والفلسفات العقلانية الديمقراطية التقدمية خصوصاً، من خلال فلاسفة عصر النهضة والحداثة منذ القرن السابع عشر إلى يومنا هذا، وذلك انطلاقاً من الترابط التاريخي المعرفي بين كل هؤلاء الفلاسفة والمفكرين من ناحية، وتعزيزاً وتكريساً وتجديداً لأفكارهم الفلسفية التقدمية الديمقراطية، بما يخدم تطلعاتنا في خدمة أهداف ومصالح البشرية عموماً، والشعوب المضطهدة خصوصاً من ناحية ثانية، ليكون القرن الحادي والعشرين قرناً حاملاً لرياح التغيير الديمقراطي والنهوض الثوري بآفاقه الاشتراكية، وذلك بشرط امتلاكنا الواعي العميق لجوهر المسار الفلسفي التقدمي التاريخي المشار إليه، إلى جانب امتلاكنا بصور وعي أكثر عمقاً، للتطورات والاكتشافات العلمية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة اليوم.
هنا نلمح العلاقة المباشرة بين الفلسفة، المعاصرة ومفاهيم الديمقراطية والتقدم والثورة، فهي علاقة وثيقة متبادلة، وتأسيسية، ذلك إن الخطاب الفلسفي السديد يتعامل مع المستقبل، والمجتمعات الناهضة، لن تحملها سوى قوى ديمقراطية، تقدميه ، تمتلك جرأة التغيير الجذرية، تلتزم بالفلسفة الماركسية، في سياقها التطوري المتجدد، والبعيد عن الجمود، لإقامة صروح جديدة على أنقاض القديم.
وعلى هذا الطريق فإننا مطالبون بتحقيق المهمات الحضارية التي حققتها الثورة العلمية في أوروبا، وتتلخص هذه المهمات في الاتي:
1- تحرير الإنتاج المعرفي، وبخاصةً الإنتاج العلمي، من هيمنة مراكز السلطة الأيديولوجية على اختلاف أنواعها. وبعبارة اخرى، فالمطلوب هو السعي نحو منح مؤسساتنا العلمية والمعرفية استقلالاً ذاتياً يقيها من تزمت الفئات التقليدية ومن التقلبات السياسية والاجتماعية.
2- وضع العلم في مركز الصدارة على صعيد الفكر والمعرفة، بمعنى اكسابه بصفة المرجع النهائي والحكم الفيصل في المسائل الأساسية في نظر جميع الفئات والهيئات، سواءاً أكانت رسميةً أم شعبية.
3- خلق جماعات علمية قومية ضمن إطار الجماعة العلمية العالمية، تنتج المعرفة العلمية عبر مؤسسات ولغة وطرائق وطرق نظرية ومعتقدات وقيم ومناظرات وأساليب ومقاييس مشتركة.
إن تحقيق هذه المهمات، يستلزم مشاركة جماهير الشعب، في جميع قطاعاته، مشاركةً فعالة، فالتقدم المنشود لا يمكن أن تحرزه الصفوة وحدها بمعزل عن جماهير الشعب، كما أنه ليس في مقدور الجماهير وحدها، المشاركة في هذه العملية الحضارية الضرورية ما لم تُهَيأ لذلك مادياً ومعنوياً”، وخاصة امتلاك عوامل التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بالمعنى التنويري النهضوي، كمقدمة لابد منها لعملية النهوض الديمقراطي التقدمي.
ولكن لابد لي – في هذا السياق – من أن أطرح سؤالاً حوارياً.. أليس من واجب المثقف العربي التقدمي الملتزم، أن يعيد النظر – أقصد بالعقل الجمعي – بهدوء وعمق، في كثير من جوانب ومعطيات الماركسية التي تلقيناها ودرسناها بشكل ميكانيكي تابع إلى حد بعيد لكل ما صدر عن المركز في موسكو، دون أي نقاش أو تحليل نقدي، بحيث أصبح واقعنا الاجتماعي الاقتصادي العربي في واد، والنظرية – عبر تلك العلاقة – في واد آخر، ودون إدراك منا لأهمية إعادة دراسة عملية التطور التاريخي لبلدان وطننا العربي، والعالم الثالث أو بلدان الشرق عموماً، وهو تطور يختلف جوهرياً عن تلك التشكيلات الاجتماعية في أوروبا، وتسلسلها الذي تناولته المادية التاريخية ؟؟
من ناحية ثانية، لماذا بقى المثقف العربي – بشكل عام – متلقياً للمعرفة، عاجزاً عن إنتاجها؟.
لاشك أن الأسباب كثيرة، ولكن يبدو أننا جميعاً – كما يقول المفكر العربي الراحل محمود العالم( ) “لانملك المعرفة الحقيقية بالماركسية ” وعلينا أن نعترف بأن ” معرفتنا الحقيقية بالماركسية، معرفة محدودة، مسطحه، واليوم ونحن نتساءل عن مصير الماركسية وأزمتها، فإن تساؤلاتنا وإجاباتنا ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا بالفكر الماركسي “.. لقد غلب الفكر العملي (البرجماتي) والفكر النظري الانتقائي والتوفيقي في ثقافتنا الراهنة، وهذا هو بداية التناقض الرئيسي (أو الطلاق) مع الماركسية، فالماركسية تقف من حيث جوهرها ضد أمرين : ضد التجريد المطلق من ناحية، وضد التجريب البرجماتي من ناحية أخرى” ، ذلك إن ” مادية ماركس ، تعني معرفة الاشياء والوقائع كما هي في تحققها الفعلي لا في تصوراتها الوهمية ” ولا في جزئياتها المنعزلة عبر النقل الميكانيكي لها.
على أنه – كما يضيف محمود العالم بحق – ” برغم ما حدث خلال السنوات الماضية، وبرغم البلبلة الفكرية التي تغذيها ترسانة البلاد الرأسمالية ضد الفكر الاشتراكي عامة، والماركسي خاصة، فلم تبرز الحاجة إلى الاشتراكية وإلى الفكر الماركسي كما تبرز إليه هذه الأيام، فالحكم على الاشتراكية لا يكون بما أصاب التجربة السوفيتية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون بما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الاساسية للواقع الانساني، بل وبشراستها العدوانية والاستغلالية ازاء شعوب العالم الثالث بوجه عام.
وهنا بالضبط تتجلى أهمية الفلسفة الماركسية التي تكمن في كونها تجمع بين إعمال الفكر والعقل من أجل التغيير والنهوض والثورة على كل أشكال الاضطهاد والاستغلال والقهر خصوصاً ، وهي بالتالي تجيب على كل أسئلتنا إذا ما استخدمنا منهجها المادي الجدلي وطبقناه على واقعنا -في كافة بلداننا في المشرق والمغرب- بصورة جدلية وواعية ، وهو هدف لا بد ان يحمله ويناضل من اجله كل مثقف تقدمي ، إذ اننا أمام تحديات هائلة ، تحديات التبعية والتخلف الاجتماعي والاصولي في بلادنا عموما وفي ما يسمى بالمملكة السعودية ودويلات مشايخ الخليج خصوصا ، تحديات الصراع مع العدو الصهيوني وتحديات العولمة الإمبريالية ، تحديات الانقسام الفلسطيني واستعادة وحدة النظام السياسي الوطني الديمقراطي ، تحديات التفكك والصراعات الطائفية والمذهبية الدموية في العراق وسوريا وليبيا ولبنان واليمن ، ومواصلة النضال ضد الوجود الامبريالي ومخططاته وعملائه ، وضد كل اشكال الطائفية السياسية والمصالح الطبقية ، تحديات البطالة والفقر ، تحديات الاقتصاد والتنمية المستقلة والأمن الغذائي والمياه ، تحديات المستقبل الذي تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية.
إن الاستعراض السريع لتاريخ الفلسفة ، يعزز الدور الايجابي لكل الفلاسفة بدرجات متفاوتة، ويكشف ويدحض الآراء الخاطئة للإيديولوجيين اليمينيين البرجوازيين والرجعيين المعاصرين حول تاريخ الفكر الفلسفي الانساني، واستخفافهم به، ويعمل بعضهم على تصوير عدد من المذاهب الرجعية، التي وَلَّى عهدها، على أنها “العصر الذهبي” للفكر الانساني، بحيث يكون الماضي مرجعاً اساسياً للحاضر والمستقبل”، كما هو الحال في مجتمعاتنا العربية .
“لذلك تتجلى الحاجة الملحة إلى بناء عقل حركة التحرر القومي العربية لكي تملك هذه الحركة الأدوات الفكرية، التي تمكنها من الانفتاح على الحقبة الحديثة والواقع الذي تعيشه بالفعل من جهة، وعلى تراثها الممتد في أعماق التاريخ من جهة أخرى”.
_على طريق النهوض الوطني والقومي الديمقراطي التقدمي :
لعل العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف، بعد أن تغيرت طبيعة الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها، حيث انتقل النظام العربي في معظمه، من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي الديمقراطي كعنوان رئيسي سابق، إلى أرضية التبعية والارتهان السياسي والاقتصادي والاستبداد والاستغلال كعنوان جديد، وتحول التناقض الأساسي إلى شكل آخر أشبه بالتوافق بين التحالف البيروقراطي – الكومبرادوري المهيمن على النظام العربي من جهة، وبين التحالف الأمريكي – الإسرائيلي من ناحية ثانية، مما فاقم من مظاهر الإفقار والبطالة والحرمان، والاستبداد المرتكز إلى الأجهزة الأمنية، ومن ثم توسع وانتشار حركات التطرف ضمن تيار الإسلام السياسي وانفجار الصراعات الطائفية الدموية في المشهد الراهن، في ظل حالة غير مسبوقة من العزلة الهائلة الاتساع بين الشعوب وأنظمتها، وهي حالة أسهمت بدورها في اتساع الفجوة بين القلة من الأثرياء بمختلف مسمياتهم البورجوازية الرثة (الكومبرادوية، والعقارية، والمالية، والزراعية، والبيروقراطية العسكرية والمدنية.. إلخ) وبين الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية العربية الفقيرة التي عانت –وما زالت- من كل أشكال ومظاهر الاستبداد والقهر والافقار طوال العقود الماضية. .
فالمجتمعات العربية في المرحلة الراهنة، تعيش رهينة طغيانين، الطغيان السياسي الذي يتحكم بسلطة الدولة ليهمش المجتمع ويستبعده من أي قرار، والطغيان السلفي التراثي الرجعي يتحكم بالرأي العام ويسعى إلى تحويله إلى كتلة واحدة صماء وتابعة معا. وكلاهما يقومان على نفي الفرد وتجريده من استقلاله وحرية تفكيره ووعيه النقدي في سبيل إلحاقه بهما واستتباعه .
من هنا ليس من المبالغة القول، أن هناك تحالفا موضوعيا بين احتكار السلطة واحتكار الحقيقة، فهما يكملان بعضهما البعض، رغم الاختلاف الشكلي في منظور كل منهما وصراعهما على السلطة والمصالح، فالجوهر بينهما مشترك من حيث تكريس الاستبداد والتخلف، فبقدر ما يجرد الطغيان والقهر السياسي الفرد من وعيه وضميره وحسه النقدي، أي من إرادته واستقلاله، يحوله إلى لقمة سائغة لأصحاب جماعات الاسلام السياسي السلفية الجامدة النقيضة للاستنارة الدينية، أو يحوله إلى إنسان خاضع لنظام الاستبداد بصورة إكراهية هروباً من بشاعة ممارسات تلك الجماعات.
نستنتج مما تقدم أن القوى الكومبرادوية والرأسمالية الرثة المهيمنة والمتصارعه، بجناحيها “اليميني العلماني” و”اليميني الديني او الاسلام السياسي” – في كل بلدان الوطن العربي – لا تملك في الواقع مشروعاً حضاريا او ديمقراطيا وطنياً مستقلا نقيضاً للنظام الامبريالي الرأسمالي، كما أنها لا تملك أيضاً مشروعاً تنموياً يحقق العدالة الاجتماعية وينهي التبعية ويتجاوزها صوب مبدأ الاعتماد العربي على الذات، فالتنمية عندهما هي ما تأتي به قوى السوق المفتوح والمبادرات العشوائية للقطاع الخاص المحلي الكومبرادوري الذي لا يستهدف سوى تحقيق الربح، حتى لو كان على حساب دماء الكادحين والفقراء من ابناء الطبقات الشعبية، إلى جانب حرصهما على تشجيع نشاط المستثمرين الأجانب والشركات المتعدية الجنسية الكبرى وحكوماتها التي تدعم كل من أنظمة الاستبداد وجماعات الإسلام السياسي، وفق مصالحها في هذه المرحلة أو تلك، بما يضمن تطبيق مقولة الاستيلاء على فائض القيمة لشعوبنا من ناحية، وإبقاء شعوبنا أسيرة لآليات التخلف والتبعية والاستغلال واحتجاز التطور من ناحية ثانية ، خاصةً وأنّ “استبداد الأنظمة وتبعيتها وتخلفها هي عوامل تُعَزّز كراهية الفكر وكراهية التنوير والديمقراطية والتعقل العلماني والحقوق المدنية وكافة الحريات الفردية وخصوصاً حرية الرأي والمعتقد ورفض المساواة بين الرجل والمرأة ، وذلك عبر تكريس الانظمة لأساليبها وشعاراتها الديماغوجية بمسمياتها وذرائعها الدينية الشكلانية الغيبية وفي مقدمتها ثقافة التكفير ، لكي تضمن ممارسة ارهابها ضد القوى السياسية والمؤسسات الأهلية التي ترفع شعارات الحرية والتحرر والتنوير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم والخلاص من كل اشكال وادوات التبعية والاستغلال .
وهنا بالضبط تتكشف أبشع ادوار وممارسات أنظمة الكومبرادور في بلادنا، ليس ضد القيم والمبادئ الديمقراطية والثورية فحسب، بل أيضاً ضد الانسان المواطن بغض النظر عن معتقده او جنسه وأصوله الاثنية او الطائفية، ذلك هو التجسيد الحقيقي لأبشع وجوه الانحطاط الذي تعيشه مجتمعاتنا في مغرب ومشرق وطننا راهناً .
لذا يجب أن تتم العملية الاستنهاضية، وعياً وممارسة، عبر إعادة تجديد وبناء ودمقرطة كل احزاب وفصائل حركة التحرر العربية في إطار الفلسفة العقلانية الديمقراطية عموماً، والماركسية اللينينية خصوصاً، لكي تقوم بوظيفتها عبر رؤيتها وبرامجها الثورية ودورها الطليعي ، من خلال مراكمة عوامل النهوض والإزاحة المتتالية لكل العوامل المؤدية إلى التراجع أو الفشل، وذلك مرهون بتأمين شروط الفعالية السياسية والفكرية والتنظيمية والكفاحية والجماهيرية القصوى في قلب الصراع الطبقي، عبر توفير معايير ونواظم وآليات عمل داخلية، ديمقراطية وثورية كعنصر قوة، للارتقاء بدور أطراف حركة التحرر العربية، وفي مقدمتها فصائل وأحزاب اليسار الماركسي العربي ورؤيتها وممارستها وتوسعها وانتشارها في أوساط جماهيرها، تمهيداً للثورة على أوضاع الظلم والاستبداد والاستغلال الطبقي .
ذلك هو الاسهام الكبير للفلسفة الحديثة العقلانية التقدمية عموما والفلسفة الماركسية اللينينيه خصوصا الذي يتبدى ويتمظهر في صياغه نظريه الثورة الوطنية التحررية الديمقراطية والمجتمعية الطبقية في خضم الصراع الوطني والطبقي الكفيله بتسليح عموم الجماهير الشعبية والطبقة العاملة بمضامينها التقدمية الوطنية التحررية والطبقية لكي تمارس الجماهير الشعبية دورها ورسالتها في مسيرة النضال الديمقراطي من أجل إنهاء مظاهر الظلم والاستغلال والتبعية وبناء مجتمع المستقبل الديمقراطي التقدمي ، تجسيداً لمملكة الحرية على الارض ، وتلك هي القيمة الحقيقية للفلسفة الماركسية في اضاءه طريق النهوض عبر وعي مضامينها وممارستها في مجرى النضال والتطبيق العملي .
لذلك فإن واجب كافة الاحزاب والفصائل اليسارية الماركسية في بلداننا -كما في ارجاء كوكبنا- تفعيل دورها ونشاطها السياسي والمعرفي والمجتمعي من اجل الارتقاء بالماركسية وافكارها الثورية، ونشرها في اوساط العمال والفقراء وكل الكادحين والمضطهدين لكي تستعيد النظرية الماركسية حيويتها ودورها الطليعي في مجرى النضال الثوري وتحقيق الانتصار، ذلك هو الدرس الحقيقي لإحياء يوم الفلسفة وليس الاحتفال بها.
في هذا الجانب أشير إلى اهم المنطلقات التي باتت بحاجة إلى المراجعة والمناقشة وإعادة الصياغة على طريق النهوض :
أولاً: إشكالية النهضة الوطنية والقومية العربية المعبرة عن طموحات ومصالح العمال والفلاحين الفقراء وكل المضطهدين ومن ثم تفعيل العلاقة الجدلية بين الماركسية والقومية: حيث بات من الضروري أن تقوم القوى الوطنية الديمقراطية التقدميه العربية في كل قطر ادراج البعد التوحيدي القومي كبعد رئيسى في عملها، بما سيضيف عمقاً جديداً لقواها بدلاً من أن يبقى كما كان الأمر حتى الآن، عبئاً عليها وعامل إضعاف لها.
ثانياً: إشكالية التبعية وكسرها وتجاوزها: وهي اشكالية مرتبطة بتبعية كل البلدان العربية، كأجزاء متناثرة، للنظام الرأسمالي المعولم وفق محددات قانون التطور اللامتكافئ، وبالتالي فإن وحدة التحليل الأساسية من منظور القوى الماركسية العربية، تتحدد أساساً وحصراً بالمجال القومي الديمقراطي العربي الذي تستطيع فيه هذه القوى تعبئة نفسها بشكل فعال وأخذ زمام المبادرة على نحو قادر على خلق صيرورته النضالية المستقبلية .
ثالثاً: القاعدة الاقتصادية والأبنية الفوقية: ففي ظروف التخلف والتبعية تلعب الأبنية الفوقية المتصلة بالسلطة السياسية وبالثقافة والأيديولوجية بصفة عامة دوراً أكثر أهمية بكثير من تأثير القاعدة الاقتصادية بحكم تخلفها. إذ أن التحالف الطبقي الحاكم في الأنظمة العربية يلعب دوراً هاماً في دعم البنى الفوقية القديمة وتحويلها إلى رصيد لقوى التخلف .
رابعاً: الحاضر والماضي: هنا أقول بصراحة، لابد من الوعي بأهمية العمل الفكري والسياسي الهادئ والمتدرج وفق المنظور الفلسفي المادي الجدلي، باتجاه القطيعة المعرفية مع كل رواسب التخلف في ماضينا، التي أتاحت عودة الماضي ليحكم الحاضر، او عودة الميت ليحكم الحي، وهذه العودة تتجسد في بلادنا اليوم على شكل اصوليات يمينية سلفية اسلاموية رجعية أو على شكل القوى اليمينية الحاكمة في الانظمة العربية، وكلاهما من جوهر واحد وان اختلف شكل أحدهما على الأخر، وهذا نذير آخر حي بنوع المستقبل الذي تتحدث عنه تلك الأصوليات.
إن التحديات التي يواجهها الوطن العربي بمجموعه، أو على صعيد كل قطر عربي على حدة، هي من الضخامة والجدية بحيث أضحت المسألة القومية – برغم تراجعها في المرحلة الراهنة– مسألة مستقبلية ملحة، نظراً للمتغيرات والهزات العميقة التي عصفت بالعالم في الثلاث عقود الأخيرة، مما يفرض على كل القوى الوطنية والقومية الديمقراطية والتقدمية الثورية العربية، أن توليها الجهد والاهتمام اللازمين على مختلف الصعد الفكرية والعملية، بحيث تعيد قراءة التاريخ العربي، قراءة عميقة ونقدية، وتستخلص الدروس والعبر؛ وبالتالي تحدد عناصر الانطلاق والنهوض، على طريق استعادة وتكريس الأفكار التوحيدية القومية التقدمية والديمقراطية في كل بلد عربي، آخذين بعين الاعتبار المنطلق الذي حدده المفكر الراحل سمير أمين في قوله إن المرحلة الراهنة، التي تجتازها بلداننا العربية، ليست مرحلة “المنافسة من اجل الاستيلاء على الحكم”، وذلك في غياب قوة اجتماعية شعبية تستطيع “ان تفرض نفسها على القوى الاخرى الداخلية سواء كانت تتجلى في نظم الحكم ام في بديل الاسلام السياسي وهما وجهان للعملة نفسها”، فهو يرى ان الخطوة الاولى على طريق الخروج من الازمة، تتمثل في العمل على اعادة تكوين اليسار وبناء القوى الشعبية، وذلك في اطار عمل طويل النفس يطاول مستويات عدة “من تحديد الاسس الفكرية، وسمات المشروع المجتمعي المطروح كهدف تاريخي، وتحديد المراحل الاستراتيجية للتقدم في الاتجاه المرغوب ، والقوى الاجتماعية التي لها مصلحة في انجاز المشروع والقوى المعادية له، ثم اخيرا بناء قواعد العمل المناسبة .
وفق هذا المنطلق، فإن رؤيتنا تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية (رغم تجذرها)، كما تتجاوز وتتناقض مع الرؤية القومية الشوفينية ، وذلك انطلاقاً من الالتزام بالرؤى الديمقراطية التقدمية المستندة الى الإقرار المبدئي بحقوق الاثنيات في الوطن العربي كرداً أو أمازيغ أو غيرهم في تقرير المصير والحرية وبلورة خصوصياتهم السياسية والثقافية .
وبالتالي فإننا نلتزم بالرؤية الديمقراطية القومية التدرجية التي تنطلق من الضرورة التاريخية وفق الرؤية المشار إليها لوحدة مجتمعاتنا وشعوبنا ، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، مدركين أن الشرط الأساسي للوصول إلى هذه الرؤية-الهدف، يكمن في توحد المفاهيم والأسس السياسية والفكرية للأحزاب والقوى الماركسية القومية داخل إطارها القطري/الوطني الخاص كخطوة أولية، تمهد للتوحد التنظيمي العام وتأطير وتوسع انتشار الكتلة التاريخية –على الصعيد القومي، انطلاقاً من إدراكنا بأن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البورجوازية الرثة التابعة، بل هي أزمة البديل الديمقراطي التقدمي لهذه القيادة، يؤكد على صحة هذه المقولة، ما جرى في بلادنا العربية من انهيار اجتماعي واقتصادي وتفكك في إطار تبعية وتخلف واستبداد النظام السياسي، وتراجع الهوية الوطنية والقومية لحساب هوية الإسلام السياسي، أو للهويات الاثنية والطائفية والعشائرية الرجعية المرتبطة بالمخططات الامبريالية والصهيونية .
لقد آن الأوان لنقل حركة التحرر الوطني العربية من حالة التراجع إلى حالة الهجوم المضاد، ويستدعي ذلك البدء بتصحيح التعامل مع التناقضات في المنطقة العربية، واعتبار التناقضات والصراعات الطبقية تناقضاً رئيسياً ومدخلاً وشرطاً أولياً في النضال الوطني والقومي، التحرري والمجتمعي ضد الأنظمة الرجعية والتابعة لمنطلق لابد منه للخلاص من الوجود الامبريالي الصهيوني في بلادنا.
في ضوء ما تقدم، فإن شرط الحديث عن مجابهة واقع التبعية والتخلف والاستبداد في كل قطر عربي، بما يمهد لإعادة تفعيل وتجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث من جهة، وبوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى، على أن هذه الرؤية لكي تستطيع ممارسة دورها الحركي النقيض، والقيام بوظيفتها ومهماتها التاريخية فلا بد لها من امتلاك الوعي بالمحددات أو المفاهيم الجوهرية الأساسية التالية :-
- أن تكون رؤية وطنية ديمقراطية وحدوية تناضل ضد أي شكل من أشكال تفكيك الدول العربية إلى دويلات طائفية، كما تسعى إلى إلغاء نظام التجزئة الذي فرضته الإمبريالية، وتعمل على توحيد الجماهير العربية بما يخلق منها قوة وطنية وقومية تقدمية وديمقراطية، قادرة على الفعل التاريخي على الصعيد العربي والإنساني العام.
- أن تسعى إلى استيعاب السمات الأساسية لثقافة التنوير والحداثة الأوروبية، وما تضمنته من عقلانية علمية وروح نقدية إبداعية واستكشافية متواصلة في فضاء واسع من الحرية والديمقراطية، وإدراك واضح لموضوعية الوجود المادي والوجود الاجتماعي، وما يعنيه ذلك من إدراك الدور التاريخي للذات العربية وسعيها إلى الحركة والتغيير انطلاقاً من أن الإنسان هو صانع التاريخ والقادر على الابتكار والتغيير في حاضره ومستقبله، وفق أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية في إطار المشروع القومي العربي النهضوي.
أخيراً، إن حديثي عن الضرورة التاريخية لصياغة منظومة معرفية قومية ديمقراطية وتقدمية معاصرة، عبر رؤية وممارسة، في إطار الفلسفة الماركسية، يقع بالدرجة الأولى وفي المراحل الأولى على عاتق المثقف الديمقراطي الثوري العربي، لاعتبارين هامين، أولهما: أن هذا المثقف هو الوحيد القادر من الناحية الموضوعية على وضع الأسس المعرفية النظرية لهذه المنظومة وآفاقها المستقبلية.
وثانيهما: إن طبيعة التركيب الاجتماعي/الطبقي المشوه لمجتمعنا العربي، التي تتسم بتعدد الأنماط الاجتماعية القديمة والمستحدثة وتداخلها، كما تتسم بالسيولة وعدم التبلور الطبقي بصورة محددة، والتسارع غير العادي، الطفيلي أو الشاذ أحيانا في عملية الحراك الاجتماعي، إلى جانب وضوح وتعمق تبعية “البورجوازية” العربية للمركز الرأسمالي المعولم، بحيث أصبحت –اليوم- واحدة من أهم أدواته وآلياته في بلادنا، كل ذلك يجعل من المثقف العربي العضوي، -بالمعنى الجمعي المنظم- بديلا مؤقتا ورافعة في آن واحد للحامل الاجتماعي أو الطبقي، وما يعنيه ذلك من أعباء ومسئوليات بل وتضحيات في مجرى الصراع لتوليد معالم المشروع النهضوي الوطني والقومي التقدمي، ونشره في أوساط الجماهير الشعبية العربية كفكرة مركزية أو توحيدية.
إن اقتناعنا بهذه الأفكار، ونضالنا من أجل بلورتها في كل ساحة أو بلد في مشرق ومغرب هذا الوطن أولاً، ثم على الصعيد القومي ثانياً، يستند –ذلك الاقتناع- إلى أن هناك إمكانيات واقعية وظروف موضوعية مهيأة لاستقبال الرؤى الفلسفية التقدمية، المادية الجدلية، والبرامج السياسية التحررية والمجتمعية المطلبية والديمقراطية في بلادنا، ولتحقيق مكاسب جزئية متزايدة في عملية طويلة معقدة عبر مراحل وسيطة متعددة على طريق تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية .
لذلك ، فإن التفاعل مع الفلسفة ينبغي ان لا يتحول الى سياسة رمزية تهدف الى إعادة إنتاج اشكال التفلسف الافلاطوني المطلق الذي يخدم المؤسسات ويدعم الأيديولوجيات، بإسم الحق؛ الخير؛ الجمال. بل يجب ان يكون هذا التفاعل لحظة تتجاوز فيها الفلسفة ميثولوجيا ذلك الثالوث الزائف، لتؤسس الفلسفة اشكالاً جديدة من الأفكار والرؤى المعرفية والبرامج التنويرية النهضوية العقلانية من ناحية ، على طريق الوعي المعمق بالماركسية اللينينية باعتبارها فلسفة الحداثة والثورة من ناحية ثانية ، هذا هو درس الفلسفة الرئيسي لكل الوطنيين في بلداننا في مشرق ومغرب هذا الوطن عموما ولكل المثقفين التقدميين المناضلين من اجل الخلاص من كل اشكال التبعية والتخلف والاستبداد والاستغلال ومن ثم تحقيق اهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية .
في هذا السياق ، أشير الى أن الأزمة العميقة والتاريخية التي يعاني منها الإنسان في مشرق ومغرب الوطن العربي ، هي نتاج لتفاقم التبعية والتخلف والخضوع للشروط الامبريالية الصهيونية عبر أنظمة الكومبرادور الحاكمة في بلادنا ، الامر الذي يفرض اطلاق كافة الجهود وتكريس الأنشطة السياسية والمجتمعية بالاستناد الى أسس الفلسفة العلمية ومفاهيم التنوير العقلاني لدى ديكارت وروسو وكانط وصولا الى الحداثة وتطورها الديمقراطي التقدمي من خلال تتويجها بالفلسفة الماركسية ومبادئها وأسسها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من ناحية ، وتأكيد أسس القطيعة مع مفاهيم الليبرالية والليبرالية الجديدة الرأسمالية المعبرة عن فلسفات الرأسمالية والامبريالية المعولمة .
فالفلسفة بالنسبة لنا إذاً ، “هي البحث المتواصل ، الذي لا ينتهي ، ولا يكل عن التساؤل عن أسرار الوجود الذي حركه وعي الإنسان النقدي ، الذي نَوَّر العقل ، وشَحَذَ الفكر ، ودفعه لمزيد من التساؤل والنقد للوصول إلى الحقيقة ، وحل الغاز الوجود واسرار الحياة”. والفلسفة أيضاً ليست كما تُتَرجَم عن اليونانية بأنها حب الحكمة .. إنها حب المعرفة وهي قبل كل شيء موقف الإنسان من الظواهر، والأحداث السياسية والاجتماعية والطبيعية من حوله، من خلال وعيه العميق لتلك الظواهر، وبدون ذلك الوعي في شكله الطليعي يفقد الموقف قدرته على التأكيد والانتشار، ذلك إن الوعي بالظلم الوطني أو الاستغلال الطبقي الاجتماعي، هو المقدمة الضرورية لبلورة الموقف المطلوب لعملية التغيير الوطني التحرري أو الاجتماعي.
هكذا نتوصل إلى التعريف الذي نتوخاه للإجابة على سؤال ما هي الفلسفة؟ ويتلخص في أن الفلسفة هي: مجموعة من النظرات الشاملة إلى العالم والطبيعة والمجتمع والإنسان، عبر التلازم الجدلي بين العام والخاص، في كل مرحلة من مراحل تطور البشرية .
لكن سؤال ما هي الفلسفة، يظل سؤال أزمة لا سؤال معرفة – كما يقول المفكر الراحل محمود العالم-والمقصود هنا أزمة في الفلسفة على المستوى الإنساني العام، وهي جزء من الأزمة التي يعانيها العالم كله في مختلف أقطاره، وفي مختلف جوانب حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والقيمية بوجه خاص، وهي بالنسبة لنا -في مشرق الوطن العربي ومغربه- أزمة فكرية خاصة، لا تقتصر على أوضاعنا الداخلية والمخاطر التي ادت إلى فشل المشروع النهضوي لبلداننا فحسب، ولكنها تتصل بالانهيار الذي تعرضت له التجربة الاشتراكية، بمثل ما تتصل بحركة الاستقطاب العالمي لمصلحة الهيمنة الرأسمالية في مرحلة الامبريالية المعولمة الراهنة ، عبر مفاهيم “جديدة” تسعى إلى فرض شروط التخلف والتبعية والخضوع، بديلاً للعقل والتنوير والحرية والديمقراطية .
ففي عصرنا هذا، لم تعد المفاهيم السابقة – في معظمها – قادرة على الاستجابة لضرورات هذا العصر، لدى مثقفي العالم الثالث عموماً، والوطن العربي بشكل خاص، فالفلسفة ” مطالبه اليوم، بالاشتغال بالمفاهيم: لقد تغير العالم، عالم الفكر وعالم الواقع، مع ما شهده من أحداث عظام منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وتلاشي المنظومة الفكرية الاشتراكية، وحلول منطق العولمة محل الفكرة القومية.. الخ، هذه التحولات فرضت على الفلسفة إعادة تحديد مهمتها، والأمر لا يتوقف عند العودة إلى مفاهيم سابقة تحتاج اليوم إلى بعث الحياة فيها، على سبيل المثال: مفهوم “التسامح” ومفهوم “العدل” ومفهوم “الأخلاق”، ولكنه يتخطى ذلك نحو مواجهة المفاهيم الطارئة مثل مفهوم “صراع الحضارات” ومفهوم “العولمة” ومفهوم “اللاقومية” ومفهوم “نهاية الديمقراطية” ومفهوم “ما بعد الحداثة” إلى غير ذلك من المفاهيم التي على الفكر الفلسفي أن يواجهها بسلاح النقد والتعرية”.
وبالتالي “فإن وظيفة الفلسفة ، هي المساهمة في تزويدنا بالنظرات الجديدة والشاملة التي يفترض بناء الإنسان الطليعي بها، ووضوح البناء المعرفي الذي يحدد مسار الإطار الطليعي من جهة، وسمات أو طبيعة وشكل النظام السياسي – الاجتماعي الذي يفترض أن ننتهي إلى إقامته من جهة أخرى.
والحق أن وراء نزوعنا إلى التفلسف، رغبة في اكتشاف معارف نحيا من أجلها ومبادئ نعيش لها، بالنسبة لأنفسنا من ناحية، ومن اجل تقديمها للآخرين من ناحية أخرى ، وذلك استناداً الى الرؤية المادية للعالم وفلسفتها المادية الجدلية او الماركسية اللينينية .
ولكن ، بالرغم من موضوعية الرؤية المادية للعالم، إلا أننا لا ندعو إلى الوقوف أمام هذه المسألة التي قد تثير كثيراً من الجدل والتساؤلات والخلافات دون أي طائل، لكننا في نفس الوقت مع المنهج العلمي الجدلي، ومع الموقف الموضوعي في تفسير الظواهر والمتغيرات الكونية عموماً، وكل ما تتعرض له مجتمعاتنا العربية خصوصاً من أجل الوصول عبر هذا المنهج إلى المفاهيم والمواقف والتطبيقات التي تؤدي للوصول إلى النهضة الحداثية التي نتطلع اليها، من أجل التحرر السياسي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، باعتبار هذه القضايا إطارنا العملي المباشر في مواجهة الواقع من حولنا وفي تطبيق وعينا الفلسفي ومنهجه العلمي على هذا الواقع، من خلال الاستخدام الأمثل للعقل المرتبط بالتجربة الحسيه أو الممارسة .
الفلسفة وقضايا التخلف والنهوض في الوطن العربي:
إذا كانت الفلسفة ليست حب الحكمة فحسب، بل هي بالدرجة الأولى حب المعرفة والارتقاء بها، وهي قبل كل شئ إبداع فردي مرتبط بالظروف الموضوعية المحيطة بهذا الفيلسوف أو ذاك، فإن الحكمة والمعرفة جوهر واحد، إذ لا يمكن فصل الحكمة عن المعرفة أو عن نوع معين من أنواع المعرفة، هذا ما أكد عليه سقراط وأفلاطون وفلاسفة اليونان، كما أكد عليه ديكارت وسبينوزا وكانط وغيرهم من الفلاسفة، لكن الفلسفة معرفة خاصة جداً، لا يقدمها أي علم من العلوم، وذلك لأنها ليست تجريدية أو نظرية وإنما ناتجة عن اندماج الرؤية المعرفية الكلية مع الخبرة العملية.
وبالتالي “فلكل منا حكمته الناتجة عن تجاربه الشخصية ومعاناته في الحياة، والفلسفة تساعدنا على أن نفكر ونسأل بشكل أفضل لكي نعيش بشكل أفضل، وهذه هي الحكمة.