دروس وعبر الوعي بتاريخ الفلسفة ، بقلم : غازي الصوراني
التذكير بدروس وعبر تاريخ الفلسفة منذ نشأتها ، مسألة في غاية الأهمية ؛فمنذ ما قبل الميلاد، طرح الفيلسوف الاغريقي بروتاغوراس شعاره المعرفي “الانسان مقياس الأشياء جميعاً”، وكان يقصد بذلك أن الصح والخطأ، الخير والشر، كلها يجب أن تْحدد حسب حاجات الكائن البشري .
منذ ذلك التاريخ، إلى يومنا هذا، ارتبط تطور الفلسفة -ومازال مرتبطاً- بتطور العلاقات المادية بالمعنى الاجتماعي بين البشر، وما أفرزته تلك العلاقات من مصالح طبقية متنوعة، في إطار الأنماط أو التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية، منذ المجتمعات العبودية، والإقطاعية، وصولاً إلى المجتمعات الرأسمالية الحديثة والمعاصرة، وبالتالي فإن مسيرة الفلسفة وتطوراتها، والمتغيرات التي أصابتها طوال تاريخ البشرية، منذ الإغريق إلى يومنا هذا، ارتبطت بطبيعة النمط الاقتصادي الاجتماعي السائد في هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات البشرية، ما يعني أنها مسيرة تعرضت، لمحطات، ومراحل متنوعة ومختلفة، من الرؤى الفلسفية التي عبرت عن هذا النمط، الاقتصادي الاجتماعي أو ذاك، حيث نلاحظ اختلاف تلك الرؤى والطروحات الفلسفية في مرحلة سيادة النمط العبودي الذي امتد حتى القرن السادس الميلادي، عن تلك الرؤى والطروحات التي سادت في ظل النمط الإقطاعي الذي استمر حتى القرن السابع عشر الميلادي، وظهور النمط أو التشكيلة الرأسمالية التي تجسدت بتأثير العلاقات الاجتماعية الرأسمالية من جهة وبتأثير الرؤى والأفكار الفلسفية ألنقيضه للفكر والفلسفة التي سادت في المجتمعات الإقطاعية من جهة ثانية.
لكن، وعلى الرغم من ذلك الاختلاف الجوهري العميق في الطروحات الفلسفية، إلا أن السمة المشتركة بين كافة الفلاسفة القدماء والمحدثين والمعاصرين تتجلى في أن كل فيلسوف من هؤلاء، أسس وقَدَّمَ رؤية كونية مجتمعية جديدة وشامله محمولة بالمؤشرات الخاصة التي تدل على فلسفته دون عزلة أي من هؤلاء الفلاسفة – رغم خصوصية فلسفتهم- عن واقعهم الاجتماعي الاقتصادي الذي عاشوه، وهنا يتداخل الخاص الفلسفي لأفلاطون مثلاً مع العام الإغريقي، كما يتداخل الخاص الفلسفي لابن رشد أو الغزالي مع العام في المجتمع العربي والإسلامي، كما يتداخل الخاص الفلسفي لدى ديكارت أو كانط او هيجل مع العام في الفلسفة الغربية القديمة والحديثة.
فمع تطور المجتمعات البشرية، تتطور الفلسفة والمعارف في إطار من الحراك والتغير الاجتماعي، وهذه هي السمة الأبرز لتطور الفلسفة في المجتمعات الغربية وتواصلها، وتجددها التاريخي عموماً، ومنذ القرن السادس عشر الميلادي إلى يومنا هذا خصوصاً، على النقيض من مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي عاشت في أواخر القرن الثاني الهجري واوائل القرن الثالث الهجري( التاسع الميلادي) أوضاعاً متطورة، سياسية واجتماعية ومعرفيه بالمعنيين الفلسفي والعلمي، لم يسبقها اليها أحد من دول وشعوب العالم في تلك الحقبة، وذلك من خلال الإنتاج الفلسفي والعلمي لفلاسفة المسلمين، بدءاً من دار الحكمة التي أسسها هارون الرشيد (170-193هـ) وازدهرت في عصر ولده المأمون(170 ه-218ه) لتتعهد بالرعاية والترجمة إلى العربية مجموعات من الكتب اليونانية في العلم والفلسفة ، الى جانب انتشار وازدهار عقلانية المعتزلة (القرن التاسع الميلادي) وإخوان الصفا (القرن العاشر الميلادي) ثم الفلاسفة بدءاً من الخوارزمي والكندي في القرن التاسع الميلادي، وابن الرواندي والرازي والفارابي في القرن العاشر الميلادي وصولاً إلى ابن سينا والغزالي وابن باجه وابن طفيل وابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي، وكان لفلسفتهم دوراً كبيراً في نهوض الفلسفة الغربية.
لكن الانقطاع المعرفي في الفلسفة العربية الذي جرى منذ وفاة ابن رشد 1298م، أدى إلى تعرض الفلسفة العربية، منذ ذلك التاريخ إلى حالة من التراجع والضعف، جاءت انعكاساً لضعف وتراجع عملية التطور السياسي الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي الذي توقف عن الصعود، بل على العكس بدأت عوامل التطور الاجتماعي والمعرفي السالب في الظهور، ومن ثم خلق وانتشار المناخ الملائم لتكريس التخلف وإعادة إنتاجه وتجديده واستمراره في بلادنا منذ القرن الثالث عشر حتى المرحلة الراهنة، من خلال تكريس مظاهر التخلف والخضوع للأجنبي منذ انهيار العصر العباسي الأول (861م) وتفكك الدولة العباسية إلى دويلات وطوائف متعددة ومتنافره، الطولونيين في مصر لغاية 905م، ثم الأدارسة في المغرب لغاية 926م، ثم الحمدانيين في سوريا والجزيرة العربية حتى عام 1004م، ثم الفاطميين في مصر حتى عام 1171، والمرابطين في المغرب شمال أفريقيا حتى عام 1147م، ثم الايوبيين حتى عام 1260م، ثم عهد المماليك منذ عام 1250 – 1516 وصولاً إلى العهد العثماني منذ 1516 حتى 1918 نهاية الحرب العالمية الأولى، وقبل ذلك التاريخ احتلال الاستعمار الفرنسي والإيطالي لبلدان المغرب العربي (الجزائر 1830 /موريتانيا 1858/ المغرب 1912 / تونس 1881/ ليبيا 1911) ، وكذلك احتلال الاستعمار الإنجليزي لمصر عام 1882 ثم احتلال فلسطين والعراق والأردن بعد الحرب العالمية الأولى ، ثم احتلال الاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان 1921 تنفيذاً لاتفاق سايكس بيكو 1916، ووعد بلفور 1917 ومن ثم تشجيع الحركة الصهيونية واغتصاب فلسطين وقيام الدولة الصهيونية عام 1948، وصولاً إلى تغلغل النظام الامبريالي الامريكي في بلادنا وحلوله محل الاستعمار الإنجليزي منذ عام 1957 وتكريس سيطرته المباشرة وغير المباشرة على معظم بلدان الوطن العربي عموما والبلدان النفطية في الخليج والسعودية خصوصا ، ومن ثم تزايد سيطرته واستغلاله لثروات شعوبنا عبر تكريس التبعية وتعميق مظاهر التخلف والاستبداد ارتباطاً بالمصالح الطبقية للأنظمة الرجعية من ناحية وبسياسات النظام الامبريالي الأمريكي المعولم الراهن من ناحية ثانية،