هل تشكل الديمقراطية مفتاحاً لحل مشكلات الواقع العربي؟ حديث حول الديمقراطية و الماركسية والمستقبل ، بقلم : غازي الصوراني
الباحثين والمفكرين العرب، الذين تصدوا للبحث عن سبل الخروج من الازمة العامة التي تواجهها مجتمعات الوطن العربي، يتفقون على ابراز اهمية الديمقراطية، الا انهم يتباينون فيما بينهم عند تقييم آفاق هذه التحولات ومستقبلها والمعوقات التي تقف في وجهها، برهان غليون يلحظ ان التوجه الديمقراطي لا يزال “هشاً جداً” لسببين: الاول هو ان الديمقراطية “لا تزال شكلية جداً” ومطابقة، في معظم الاحيان، لمفهوم الليبرالية الاقتصادية المنفلتة، بل انها تبدو بمثابة تكيف مع الظروف الاقتصادية العالمية الجديدة وبالتالي “مفروضة من الخارج” والثاني هو ان الشروط الموضوعية المادية والتنظيمية والعقائدية، تجعل المسار الديمقراطي صعباً ومليئاً بالمخاطر.
ويعرب جورج طرابيشي في كتابه “في ثقافة الديمقراطية”، وتعليقاً على هذا الاهتمام المتزايد بقضية الديمقراطية، عن تخوفه من ان يؤدي التوجه الديمقراطي المتنامي، لا سيما بين المثقفين العرب، الى تحويل الديمقراطية الى “ايديولوجيا خلاصية جديدة” معتبراً ان “الاكتشاف” المتأخر لـ “فضيلة” الديمقراطية، من قبل شريحة واسعة من الانتلجنسيا العربية، يجعل هذه الديمقراطية مهددة بان تتحول إلى ايديولوجيا ديمقراطية بديلة “عن الايديولوجيا الثورية او القومية “الآفلة شمسها” .
بينما يرى البعض الآخر في ظاهرة غياب الديمقراطية على مستوى الايديولوجيا العربية، بمختلف اتجاهاتها، احد ابرز معوقات توطين الديمقراطية عربياً، فمنذ بدء اليقظة، يجنح الفكر القومي –كما يرى محمد عابد الجابري- الى تأجيل الديمقراطية، اولا من اجل الاستقلال، وثانيا من اجل الوحدة، واخيرا لتحقيق الاشتراكية، اما التيار الماركسي فهو ينظر الى الديمقراطية بوصفها الوسيلة التي تستعملها البرجوازية لفرض سيطرتها، في حين ان الموقف الحداثي الليبرالي لا يتحمل الديمقراطية اذا كانت تعني “حكم الاغلبية” لانه يدرك ان الاغلبية ليست له بل هي الطرف الأشد خطراً لأنها الأكثر اضطهاداً واستغلالاً ولن تخسر في نضالها سوى أغلالها ، وبالتالي فإن موقف التيار الماركسي هو رفض “الديمقراطية الغربية” (أو ديمقراطية الأقلية القائمة على المنافسة بين الأقوياء، والمطالبة بالديمقراطية الشاملة، السياسية والاجتماعية التي تكفل للأغلبية ان تشق طريقها صوب تحقيق أهدافها ومصالحها ).
وهناك من يرى ان العقبة الرئيسية في وجه توطين الديمقراطية في بلداننا تتمثل في “هشاشة” او “هلامية” القوى الاجتماعية، التي يمكن لها ان ترتكز عليها مسيرة الديمقراطية.
ومن الواضح بان هناك، في اطار النقاش العربي الدائر حول الديمقراطية، مبالغة في التركيز على العوامل التي يعتقد بانها تعوق توطينها عربياً، فالقول ان الدول العربية ليست مؤهلة بعد لان تكون ديمقراطية، او لان خصوصيتها التي لا تتفق مع الديمقراطية، او انها تعاني من مشكلة الامية او غيرها من المشكلات، لا يستقيم مع واقع وجود دول، كالهند مثلاً، نجحت في مراكمة تجربة ديمقراطية غنية، فالتحدي المطروح اليوم هو النجاح في اشاعة مناخ ديمقراطي داخل البلدان العربية، والنضال، بصورة حثيثة، من اجل انتزاع وفرض المباديء التي تقوم عليها الديمقراطية، بغض النظر عن التباين بين نماذجها المختلفة، وفي مقدمة هذه المباديء اقرار التعددية السياسية الحقيقية، واباحة الحريات الفردية والعامة، ولا سيما حرية التعبير والتنظيم والاجتماع، واجراء الانتخابات الحرة التي تفتح الباب امام تداول حقيقي للسلطة. أما جماعات الإسلام السياسي فينبغي عليها، ان ارادت ان تكون طرفاً مشاركاً في العملية الديمقراطية، ان تقبل، بصورة لا لبس فيها، هذه المباديء التي ينظمها، في الواقع، مبدأ عام واحد هو الاقرار بشرعية الاختلاف، وهو مبدأ ليس غريباً على الاسلام، بل شكل القاعدة التي قام عليها تيار الاصلاح الديني الاسلامي. عند توفر هذا الشرط، ستتحول هذه الجماعات الى ما يشبه احزاب الديمقراطية المسيحية التي تشكل اليوم مكوناً رئيسياً من مكونات الفضاء السياسي الاوروبي.
غير ان تبلور احتمال كهذا، وصولاً الى انتزاع وتكريس المباديء الديمقراطية في الحياة العربية، لن يكون ممكناً الا على قاعدة انهاء الاستقطاب القائم اليوم بين السلطات العربية من جهة، وجماعات الاسلام السياسي، من جهة ثانية، وذلك عبر تكون قطب ثالث، مستقل تماماً عن هذين القطبين، يساهم في تنشيط العمل السياسي العربي، فالوطن العربي، وكما يكتب سمير امين ـ وأتفق معه تماما ـلن يخرج من ازمته “الا اذا تكون قطب يساري ثالث قوي، مستقل تماماً عن قطب الحكم وعن قطب المعارضة (ممثلة) بالاسلام السياسي”، معتبراً ان اعادة تكوين اليسار الماركسي واعادة بناء القوى الشعبية، وانشاء مجتمع مدني صحيح على هذا الاساس، يمثل اليوم “اهم الاهداف المرحلية” و “ركناً أساسياً في عودة الوطن العربي الى مسرح التاريخ واستعادته طابع الفاعل على هذا المسرح”.
لكن يبدو أن عوامل الاستنهاض التنظيمي الثوري الذاتي، بالمعنى المعرفي أو الأيديولوجي او السياسي والاجتماعي بمضمونه الطبقي في مجمل أحزاب اليسار العربي، باتت اليوم في حالة شديدة من الضعف والتراجع، غير مؤهلة –حتى اللحظة- لبناء القطب الثالث، مما وفر بالتالي فرص تراكم عوامل الأزمة البنيوية الشاملة فيها، وعندئذ لا مجال للحديث عن أي صحوة أو استنهاض طالما بقيت على حالها الراهن.
لذلك، أرى أن ن رسم أو وضع تصور لمغادرة الأزمة وتجاوزها، من اجل بلورة القطب اليساري ، يجب أن يبدأ أولا عبر المراجعة النقدية لكل مكونات الخطاب السياسي والايديولوجي وآليات العمل التنظيمي الديمقراطي الداخلي ووسائل النضال الوطني التحرري والسياسي والكفاحي والديمقراطي والمطلبي، طوال العقود السبعة الماضية، -شرط وضوح الهوية الفكرية الماركسية ومنهجها-، نظرا لأولويتها كحلقة مركزية توفر الأرضية التي تـنبني عليها الحلقات الأخرى (التنظيمية والسياسية والكفاحية والمجتمعية).
إن نقطة البدء لعملية التصدي للوضع المأزوم، والارتقاء بالعامل الذاتي كعقل جمعي، تتطلب توفير عنصر الوحدة الجدلية بين الوعي والممارسة لدى كل عضو من اعضاء هذا الحزب أو ذاك، خاصة وأننا نعيش اليوم، أمام نتيجة مفزعة تتجلى في هذه الهوة المتزايدة الاتساع بين الجماهير من ناحية وأحزاب اليسار العربي من ناحية ثانية..
أما المعوق الرئيسي في اندماج احزاب اليسار فيعود الى تشتتها المعرفي ومنطلقاتها المختلفة (ستالينية/ لينين ية/تروتسكية/ماوية/) وضرورة توحدها في إطار عام تعددي تحت مظلة الماركسية .
وعلى هذا الأساس ، فإنني أدعو إلى البدء في تفعيل عملية الحوار والبحث ، -بكثير من الهدوء والتدرج والعمق- بهدف ايجاد آلية حوار فكري من على ارضية الحداثة والماركسية ، حول كل القضايا السياسية والاقتصادية والمجتمعية القومية والانسانية، بما يخدم ويعزز الدور الطليعي -الراهن والمستقبلي- لقوى اليسار الماركسي في بلادنا، وبلورة تحقيق القطب اليساري الثالث رغم كل الصعوبات والتعقيدات التي تفرضها الهجمة العدوانية الصهيونية الامبريالية على شعوبنا من جهة، ورغم ما يعتري هذه المرحلة من ادعاءات القوى الرجعية والكومبرادورية والليبرالية الهابطة تجاه ضرورات الماركسية وراهنيتها من الجهة الأخرى.
لذلك يجب أن يعود لليسار دوره الحقيقي، وأن تعود الماركسيّة منهجيّة تحفر في الواقع، وتؤسّس لتجاوزه نحو المستقبل، وتحقيق الأهداف الوطنية والقومية التحررية والديمقراطية الكبرى عبر اسقاط أنظمة التبعية والكومبرادور وتحقيق اهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بافاقها الاشتراكية .
نحن معنيّون بتأسيس حركة ماركسيّة عربية ديمقراطية جديدة، تعمل لأن تكون قوّة فِعلٍ حقيقية، لكن دون أن نتجاهل دور الطبقات الأخرى والأحزاب الأخرى.
لكننا الآن معنيّون بالحوار من أجل أن يصبح نشوء تلك الحركة ممكناً بشرط قوة كل حزب في بلده أولاً كمقدمة للحوار بين الجميع في مرحلة لاحقة.
وهذا يفرض المبادرة إلى إقامة العلاقات السياسية والفكرية والتنظيمية بين كافة قوى وأحزاب وفصائل اليسار عبر رؤية ثورية ديمقراطية إستراتيجية مشتركة لا تلغي خصوصية أي حزب أو فصيل، بقدر ما تؤكد على أهمية التنسيق والعمل المشترك بما يؤدي إلى تكريس وتقوية العلاقات عبر اللقاءات الدورية (السياسية والفكرية والتنظيمية) بين جميع قوى اليسار، تمهيداً لوحدة الحركة الماركسية العربية وارتباطها المستقبلي بالحركة الماركسية الأممية لعلنا نسهم في بلورة الأممية الخامسة كما نادى بها المفكر الراحل سمير امين.
أما بالنسبة للعلاقة بين الماركسية والقومية فهي ضرورية بالمعنى الموضوعي النظري لمجابهة آثار العولمة الامبريالية وحلفائها قوى الرجعية العربية والعدو الصهيوني، رغم قناعتي ان تطور المسألة القومية ما زال مشدوداً لقوى التخلف والتبعية وال قطر ية والصراعات الاثنية الى جانب ضعف العوامل الاقتصادية للنضوج القومي العربي التي عرفتها أوروبا ، الى جانب تفاقم الهيمنة الاستعمارية والامبريالية على مقدرات شعوبنا من خلال قوى طبقية ضمن الأنظمة الحاكمة توافقت تماماً مع الوجود الامبريالي/الصهيوني ضد أي فكر وطني او قومي تقدمي او ديمقراطي.
فإذا كنا نسلم بأن الحركة الشيوعية العالمية تعيش اليوم أزمتها، إلا أنها ازمة مرتبطة عندي بعملية النمو والتطور، لأن النظام الاشتراكي العالمي بحسابات التاريخ لا يزال حديث الولادة، بالمقارنة بالنظام الرأسمالي العالمي الذي احتاج أربعة قرون لتثبيت أقدامـه على أرض الواقع
لذلك ليس شاذاً أن يتعرض النظام الاشتراكي العالمي لأزمة نمو بعد انقضاء 107 أعوام فقط على تأسيس أول دولة اشتراكية في التاريخ، فَلَم يعرف تاريخ البشرية حتى الآن ثورة اجتماعية واحدة محصنة ضد الارتداد. فالثورات الاجتماعية كالبحار يحكمها قانون المد والجزر، ومهما اشتد أو امتد الجزر، فهو لا يعني نضوب مياه البحر، ولذلك فإن إخفاق النموذج السوفيتي للاشتراكية لا يبرر الشطب بالقلم الأحمر على الماركسية اللينينية. تماماً كما أن موت المريض داخل غرفة للعمليات بسبب خطأ الجراح لا يبرر إلغاء علم الجراحة.
حقاً إن الأوضاع والظروف السائدة، لا تبشر بفرص ثورية في الأمد المنظور، ولكن ها هي وقائع الحياة تؤكد لنا أن هناك أسساً موضوعية لإعادة بناء حركة معادية للرأسمالية على النطاق العالمي. وأن هناك إمكانيات واقعية لتحقيق مكاسب جزئية متزايدة في عملية طويلة معقدة عبر مراحل وسيطة متعددة.
وكما قال بحق الفيلسوف الفرنسي غير الماركسي جان بول سارتر فإن “الماركسية غير قابلة للتجاوز لأن الظروف التي ولدتها لم يتم تجاوزها بعد” ولا زالت البشرية في عالمنا اليوم تعاني من: التفاوت الطبقي، الاستغلال الطبقي, القهر الطبقي, ولم يحدث في تاريخ البشرية أن بلغ الاستغلال والقهر الاجتماعي والإفقار المستوى الذي وصل إليه اليوم، وهو يزداد تعمقاً بفعل العولمة ويصبح تناقضاً بين الرأسمال الدولي والطبقة العاملة العالمية، والماركسية هي النظرية العلمية الوحيدة القادرة على مساعدة البشرية في حل هذا التناقض وإرشاد البشرية في كفاحها للخلاص من الاستغلال الرأسمالي. إن الاشتراكية اليوم ضرورة حتمية لاستمرار الحضارة البشرية، وضمان لا غنى عنه لبقاء الجنس البشري.
لذلك فان المطلوب ماركسية عصرية عبر تجديدها وتطويرها على ضوء الواقع المعاصر بحيث تستجيب لمتطلبات الزمن وخصوصيات الواقع الذي نعيش فيه، ولكي لا تكون الدعوة للتجديد صيحة حق يراد بها باطل ولكي نضمن أن يأتي التجديد: تطويراً في الماركسية لا تطويحاً بالماركسية، وإغناء للماركسية لا استغناء عن الماركسية واجتهاداً في الماركسية لا ارتدادا عن الماركسية.
وهذا يعني أن على كل حركات اليسار الماركسي العالمي عموما والعربي خصوصًا أن يدركوا جيدًا أن نظرية ماركس ليس بمستطاع أحد أن يتجاوزها شرط أن نستوعب جيدا أيضا أن فهم ماركس للعالم- كما أكد رفيقه انجلز- “ليس مذهباً.. وإنما هو منهج. فهو لا يعطي عقيدة جامدة. وإنما يقدم نقاط انطلاق لبحث ما هو آت”. وكما أكد لينين من بعده على أن: “الماركسية ليست نموذجاً نظرياً للكون، وليست رسماً تخطيطياً ملزماً للجميع، وإنما هي طريقة وأسلوب لإدراك كل ما هو موجود في حركته وتغيره”.