نمو وتطور ولادة الفكرة الصهيونية ، بقلم : غازي الصوراني
بدأ تطور الفكر الصهيوني مع نهوض الرأسمالية بعد الثورة الفرنسية كأفكار نقيضة للنهضة الأوروبية ولمبادئ المواطنة من جهة، والنقيضة لحركة التنوير اليهودي التي استهدفت دمج اليهود في كل بلدان أوروبا كمواطنين فرنسيين أو هولنديين أو انجليز .. إلخ، لكن التوسع الرأسمالي الاستعماري –بعد هزيمة 1848- وجد في حركة التنوير عائقاً لأهدافه التوسعية، ومن ثم بدأ التفكير الجدي في بلورة الفكر اليهودي التوراتي الديني المعادي لحركة التنوير اليهودي، بهدف افساح المجال لبلورة الفكر الصهيوني / القومي والعمل على ولادة حركته (الصهيونية)، التي عقدت مؤتمرها الأول 1897، ولتوضيح هذه المسألة من المفيد الإطلاله على كيفية ولادة حركة التنوير اليهودي وموتها فيما بعد على يد الحركة الصهيونية الرأسمالية الأوروبية.
حركة التنوير اليهودي:
حركة التنوير اليهودي في بلدان شرق أوروبا، اخذت اسم “الهسكالا”، وتعني في الاصل “الحكمة” أو “الفهم” ، وهي تستخدم في لغة اليِدشْ بمعنى “التنوير” أو “تثقيف العقل” او “الليبرالية”، وأصبحت المهمة الرئيسية للحركة في الشرق الأوروبي عبور العزلة التقليدية لليهود في شعوبهم واوطانهم ، مع الأخذ بمبادئ الإصلاح الديني في العبادات والممارسات، أما الشريعة فهي في نظر حركة التنوير اليهودي (الهسكالا) نتاج عصرها وزمانها ، تخضع للتغيير ومقتضيات الزمن ، فالكثير من القوانين والتشريعات التي وردت في التوراة حول تنظيم شؤون الحياة المدنية لم تعد صالحة في العصر الحديث.
وقد تصدت القوى الدينية اليهودية المحافظة والرجعية المتخلفة في المجتمعات اليهودية المنغلقة لهذا التيار التنويري الليبرالي منذ البداية، ورأوا في الهسكالا انحلالاً لليهودية . وبرغم ذلك ظلت الغلبة الطاغية في غرب اوروبا وشرقها لتيار التنوير والهسكالا طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عصر نهوض القوميات والدول القومية ، وطغت موجة الاندماج والذوبان بين اليهود في أوطانهم لتحاصر تيارات العزلة والمحافظة السلفية ، وترجمت الصلوات وكانت تتلى باللغات الوطنية ، واستبعد منها حلم العودة إلى صهيون .
ويؤكد آرثر هرتزبرج ، وهو المؤرخ للفكر الصهيوني، ان الغلبة والسيادة في الفكر اليهودي حتى منتصف القرن التاسع عشر ، كانت لتيار الإصلاح الديني والاندماج، كما يقرر نفس المؤرخ الصهيوني أن البرجوازية اليهودية بالذات والطبقات العليا كانت أشدها اندماجاً بعد أن تغلبت على منازعاتها مع البرجوازيات المسيحية المحلية في طور النشأة ، واندمج الطرفان في معركة واحدة من أجل توحيد السوق الوطنية ، وبناء صرح اممهم وقومياتهم ، الأمر الذي يثبت فساد القول بان الصهيونية كانت تعبيراً عن حركة الطبقة الوسطى اليهودية التي تسعى إلى الانفراد “بسوقها الوطني” في فلسطين. كذلك كان حال الانتلجنسيا اليهودية التي اخذت بثقافة الغرب ، فقد كانت اندماجية شاركت بقوة في الثورات الديمقراطية الليبرالية في بلدانها، وقد ساد الاعتقاد بين المثقفين، أن اليهودية الجديدة التي تخلصت من غيبيات القرون الوسطى، هي خطوة متوسطة في الطريق الى المسيحية المستنيرة، فقد توقفت هذه الأمة -اليهودية- عن الوجود في نظرهم، منذ ألفي عام، ومحاولة بعثها ، هي من قبيل إخراج الميت من القبر” .
إن الحقيقة الاساسية التي تتأكد من وراء هذا العرض التاريخي السريع ، هو فساد الزعم الصهيوني، بأن الصهيونية تنتمي الى عصر القومية والبعث القومي في القرن التاسع عشر ، وانها حركة بعث وانبعاث قومي شأنها شأن غيرها من القوميات . فحقائق التاريخ الدامغة تثبت النقيض تماما .
ذلك إن تصور النهوض والبعث القومي، وتشكيل الأمم وقيام دولها الوطنية في اوروبا ، كان تعبيره الطاغي بين اليهود سواء في صفوف البرجوازية اليهودية او الجموع الشعبية، هو الاندماج والذوبان في شعوبهم واممهم والانتماء الى اوطانهم التي عاشوا بين ظهرانيها ، شأنهم في ذلك شأن سائر الاديان والملل والطوائف والفئات التي كانت تندمج وتذوب في الوحدة الوطنية المقدسة .
فلم يكن رد الفعل اليهودي على هدم أسوار الجيتو -في أوروبا- هو التشكيل القومي المستقل ، او الهوية المتمايزة، بل العكس الاندماج والذوبان ، كثقافات وفئات وديانات داخل اطار الوحدة القومية الواحدة، وكان الانخراط في صفوف الحركة الثورية الليبرالية ، التي تطالب بالحقوق المدنية والحرية والمساواة من الجميع هو التعبير السياسي والفكري لهذا البعث والوحدة ..
كانت الوطنية تعني التحرير بالنسبة لليهود ، ونهاية عصور الظلام والاضطهاد ، والانتماء الوطني يعني التلاشي -لا الانبعاث- للأحاسيس السلالية والعرقية والطائفية الموروثة عن الإقطاع، لكن الحركة الصهيونية ومنظريها من اليهود والحاخاميين أو من الرأسمالية الأوروبية عموماً والانجليزية خصوصاً، رفضوا طروحات النهضة والمواطنة واندماج اليهود في أوطانهم” ، حرصاً من الرأسمالية الإنجليزية على تنفيذ استراتيجيتها ضد النهوض العربي ومن أجل تحقيق هدفها في إقامة “الوطن القومي” لليهود كقاعدة لحماية المصالح الغربية الرأسمالية، ولجأوا في هذا التوجه صوب تزوير الحقائق التاريخية بالنسبة للقوميين أو لتعريف الشعب، وأدعوا أنهم حركة قومية تحررية تعبر عن طموح “الشعب اليهودي” في العودة إلى وطنه حسب خطة الرأسمالية الأوروبية ، وباستخدام الدين التوراتي في آن واحد، على الرغم من أن أحداً من علماء الاجتماع وافق على اعتبار اليهود “أمة” أو “شعباً” كما أشرت في مقدمة هذه الدراسة.
وبالعودة إلى فكر الاندماج اليهودي في بلدان أوروبا، لا زالت الحركة الصهيونية حتى يومناً، لا يؤرقها شيء قدر شعار الاندماج ، فعدوها الاكبر لا يزال هو الاندماج والذوبان بالنسبة لليهود في اوطانهم ، وجهدها السياسي والإعلامي الراهن لا يزال يركز كل التركيز على تأكيد الانفصال اليهودي والعزلة والانتماء للجيتو اليهودي الكبير في “إسرائيل”.
يبقى السؤال : اذا كانت عصور البعث والنهوض القومي ، وتشكيل الأمم في التاريخ الاوروبي الحديث لم تعرف الصهيونية .. بل عرفت نقيضها على وجه التحديد : الاندماج والذوبان في شعوبهم وأممهم ، والانتماء لها بالهوية.. فلأية قومية اذن، ولأي من تياراتها وحركاتها ينتمي هؤلاء الصهاينة والكيان والوجود الصهيوني وعن اية قومية يتحدثون؟! إن اجابتنا الصريحة القاطعة تتجلى بوضوح في أن الدين لا يمكن له أبداً أن يشكل أمة من الأمم، فالدين اليهودي – كما كل الأديان- خليط من الأعراق والأمم والأجناس البشرية من البيض والصفر والسود، أوروبيين أو أفارقة (فالاشاه) أو آسيويين أو عرباً ليس بينهم أية علاقة قوية، لكن قوة الرأسمالية الاستعمارية الإكراهية نجحت في فرض وجود الكيان الصهيوني بذرائع اسطورية توراتية دينية كاذبة، لا علاقة لها بالقومية أو بمفهوم الشعبية ولا أصل لها، واستطاعت زراعتها في بلادنا ومن ثم اغتصاب وطننا فلسطين، ليس بسبب تلك القوة الاستعمارية الصهيونية فحسب، بل أيضاً وهذا سبب رئيسي هو ضعف وعمالة الأنظمة العربية للاستعمار، وفي هذا السياق، لابد من الاعتراف بأن “الدولة” الوحيدة في العالم التي جمعت بصورة تلفيقية بين الدين والقومية، هي دولة العدو الصهيوني.
ثورات (1848-1849) هزيمة القرن التاسع عشر :
“يقدم ماركس بأسلوبه الأدبي الرفيع لوحة رائعة للأحداث التي مهدت لثورات 1848 الديمقراطية ، التي بدأت بفرنسا ، لتعم القارة من غربها الى شرقها ، وانتهت بالهزيمة الساحقة، وبهزيمة ثورات 1848 يحدث التحول العظيم ما بين النصف الأول للقرن التاسع عشر ونصفه الاخير ، بين الثورة الوطنية الديمقراطية وقواها الليبرالية الصاعدة ، ثم الهزيمة فالردة والانتكاسة ، ويسود القارة ظلام كثيف ، تتصاعد معه تيارات العرقية والعنصرية” .
وفي خاتمة القرن (19) تبرز الإمبريالية ، التي تجعل من العنصرية والصهيونية حتى الفاشية في أوائل القرن العشرين ادواتها الرئيسية، وهكذا تحولت البرجوازية الأوروبية الحاكمة عموما والبريطانية خصوصا صوب الدفاع عن مصالح الرأسمالية وتطلعاتها الاستعمارية، خاصه بعد فشل ثورات 1830 و 1848 وانتشار مناخ الردة الرجعية في أوروبا، حيث خيم ظلال الردة فيها.
ولم يختلف وضع اليهود واليهودية كدين وعقيدة، “في هذا المناخ الفكري ، مناخ الردة الفكرية والاجتماعية والسياسية، وكما جاءت حركة الاصلاح الديني في اليهودية ، في عصر العقل والتنوير امتداداً للإصلاح الديني المسيحي ، كذلك بُعِثَ أمل الخلاص اليهودي (كمفهوم رجعي) من جديد في هذه الفترة .
ففي أجواء الإحياء الديني ، في هذا العصر المشحون بالمعاناة والإحباطات برزت دعوات جديدة قديمة في اطار ما اصطُلِحَ على تسميته “بالصهيونية الدينية” قبل ان تظهر الى الوجود “الصهيونية السياسية” وكانت بلا شك تمهيداً ومدخلاً لها” .
وكما انتشرت “دكاكين التوبة” و “جيش الخلاص” بين الجماهير المطحونة ، ترددت نفس الدعاوى بين اليهود بأمل “الخلاص اليهودي” وذلك بالعودة الى تراث التلمودية والقبالة (الفقه) الصوفى ، ومعها دعوات العودة الى الماضي الغابر ، الى أورشليم من جديد ، وذلك بدعم مباشر وغير مباشر من أنظمة البرجوازية الرجعية الحاكمة في أوروبا حيث تم التراجع عن كل مفاهيم ومبادئ المواطنة والمساواة مع اليهود ، التي انتشرت في عصر النهضة، وذلك لكي يندفع اليهود صوب المشاركة في الحركات الصهيونية الدينية والسياسية التي استجابت للرؤى والبرامج الرأسمالية الرجعية في اوروبا عموماً وبريطانيا خصوصا لإقامة دولتهم حسب الوعد الإلهي في التوراة، ذلك الوعد الذي ظل غائبا حوالي 1800 عام، لم يكن ممكناً الحديث عنه إلا في ضوء تزايد انتشار الرأسمالية ومصالحها الطبقية والاستعمارية التي اقتضت البحث عن الصهاينة بأي ثمن، وكما قال دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا في اواخر القرن 19 “لو لم تكن هناك حركه صهيونيه لقمنا بصناعة حركة صهيونية” .
وفي ضوء هذه التطورات، حرص النظام الرأسمالي الجديد على إعادة احياء الطابع الديني للمسألة اليهودية، وتشجيع الفكر الصهيوني ورواده، على النقيض من عقلانية عصر النهضة وفلسفته التنويرية والانسانية القائمة على الديمقراطية والمواطنة ، لكن قوة المصالح الرأسمالية طغت على كل الشعارات والأسس الفكرية التي ميزت عصر النهضة، وذهبت صوب احياء البعد الديني التوراتي الغيبي، كذريعة تختفي وراءها تلك المصالح الرأسمالية، لتحقيق هدفها الاستراتيجي في اقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري (فلسطين) الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ، ومن ثم كان تشجيعها لعقد المؤتمر الصهيوني الأول 1897، ثم عقد مؤتمر لندن 1907، او ما يعرف بـ “مؤتمر كامبل بنرمان”، ثم اتفاقية سايكس بيكو 1916، ثم وعد بلفور 1917 وصولاً إلى صك الانتداب 1922، والاعتراف الرسمي بالوكالة اليهودية ودورها في فلسطين حتى عام 1948، في مقابل رفض الجماهير الشعبية الفلسطينية لهذه المخططات وبداية نشاطهم الثوري منذ أوائل القرن الماضي، واستمرار وتواصل الصراع ضد العدو الصهيوني عبر آلاف الشهداء من ابناء العمال والفلاحين والفقراء الذين كانوا – وما زالوا – وقوداً للنضال والثورة، في كل مراحلها التاريخية، وصولاً إلى حالة الانحطاط السياسي والمجتمعي الذي نعيشه اليوم في فلسطين كما في كل البلدان العربية ، في ظل أنظمة تابعة ومتخلفة لا مصلحة لحكامها وللشرائح الطبقية المتنفذة فيها سوى الحفاظ على مصالحهم عبر الخضوع والارتهان للإمبريالية الأمريكية وشريكها الصهيوني في بلادنا، ومن ثم تتويج ذلك الخضوع والتطبيع عبر ما يسمى “بالاتفاق الابراهيمي” الذي أدى إلى تغذيه النزعة العنصرية الصهيونية الدينية واستنهاضها استكمالاً وتجديداً تراكميا للصحوة الصهيونية الدينية التي تفجرت على إثر هزيمه حزيران 1967.