آثار ومخاطر سياسة ترامب في ولايته الثانية على الوضع العربي والنظام العالمي ، بقلم : غازي الصوراني
(1) ترامب والوضع العربي:
منذ أكثر من ستة عقود تعيش معظم بلدان النظام العربي ضمن علاقات غير متوازنة وغير ندية مع الولايات المتحدة الأمريكية تقوم على مزيد من تراكمات تبعية وخضوع هذه البلدان للولايات المتحدة، وبالتالي فإن تعميق تلك التبعية في ظل سياسة الرئيس ترامب راهنا، سيكون أمراً طبيعياً دون أي اعتبار لآثار تلك السياسات ومخاطرها، وبالتالي نحن أمام مرحلة جديدة ستؤدي إلى مزيد من السيطرة الامريكية على مقدرات ومستقبل شعوبنا العربية بدرجات متفاوتة بالطبع تتناسب مع عمق التبعية والخضوع للسياسة الأمريكية ورئيسها .
أما بالنسبة إلى المجالات الرئيسية للتوجهات والسياسات الامبريالية الأمريكية في بلداننا، فهي ستظل في جوهرها _ وفق قواعد وشروط التبعية _دون متغيرات أساسية دون تجاوز بعض الأساليب والسياسات الشكلية المرتبطة بالرئيس ترامب او أي رئيس آخر، ويمكن تلخيص تلك السياسات فيما يلي:
- استمرار الهيمنة على دويلات الخليج والسعودية كمنطقة نفوذ أمريكية بصورة شاملة وكلية.
- خلق عوامل التفجر والتفتت الداخلي الديني والطائفي وغير ذلك، مع استمرار تعميق وتكريس تبعية دول المغرب العربي وبقية بلدان المشرق العربي للسياسة الأمريكية.
- الوقوف في وجه أي تحالف أو تكتل عربي مستقل (اقتصادي أو سياسي) بالتنسيق مع الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية.
- تفعيل عملية التطبيع العربي مع دولة العدو الصهيوني وبشروطها وفق ما يسمى بـ”صفقة القرن” التي أصدرها ترامب في ولايته الاولى، ما يعني مزيد من الدعم للكيان الصهيوني بعد حربه الاجرامية على غزة، ومزيد من العقبات السياسية والاقتصادية في وجه السلطة الفلسطينية بما يتوافق مع توجهات اليمين الصهيوني الديني والعلماني.
أما على صعيد السياسات الأمريكية والاوروبية وكندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي وكوريا الشمالية وأمريكا الجنوبية أو اللاتينية، فهي باختصار شديد كما يلي:
(1) سياسة ترامب الداخلية تقوم على أساس “أمريكا أولاً” إلى جانب الحرب او المنافسة التجارية ضد الصين وكندا والمكسيك وربما تمتد ضد الاتحاد الأوروبي .
هدف شعار حملته “أميركا أولا” –من وجهة نظره- إعادة قوة الاقتصاد الأميركي وجعله في صدارة اقتصادات الدول المتقدمة، دون الاحترام والالتزام بالاتفاقات مع حيرانه (كندا والمكسيك) أو مع الاتحاد الأوروبي أو الصين أو روسيا… مع الحفاظ على الالتزام الأمريكي بضمان مصالح الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، والعمل على إسقاط أي نظام ثوري فيها.
يؤمن ترامب أيضاً، بأن استخدام سياسة التهديد والضغط على الاتحاد الأوروبي تثمر نتائج أفضل بكثير من الديبلوماسية الطويلة النفس والمهادنة. وهو نهج يختلف تماماً عن نهج أسلافه، وآخرهم باراك أوباما وبايدن.
قد يرى ترامب ومستشاريه في ولايته الثانية أن سياسة التلويح بالقوة دفعت الزعيم الكوري كيم جونغ أون إلى الإعلان عن فكفكة برنامج بلاده النووي. ثم الجلوس إلى الطاولة. وهم يدفعون باتجاه السياسة نفسها مع طهران.
(2) بالنسبة لسياسته الداخلية، فقد التزم ترامب بالعشرات من وعوده الانتخابية المتعلقة بالشأن الداخلي، وقد طبقها في ولايته الأولى وهذه أبرزها:
- تخفيض الضرائب للأفراد والشركات ورفع الرسوم الجمركية على الواردات الخارجية بنسبه قد تصل إلى 50% ، خاصة على الصين.
- منع الهجرة من الدول الإسلامية ومنع التأشيرات لمواطنيها (السبب الرئيسي إرضاء العمال الأمريكيين ضد المهاجرين الذين “يسرقون وظائفهم”).
- الجدار الحدودي مع المكسيك .
- عدم قناعته بمنظمة الأمم المتحدة، وبأنها ليست –كما قال- سوى “منتدي يلتقي فيه الناس للكلام وتمضية وقت لطيف”
- خفض الإنفاق: الذي تقدمه الولايات المتحدة للمؤسسات الدولية، خاصة الأمم المتحدة والأونروا.
- أوفى ترامب بتعهده بالانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ (TPP) وتعديل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (NAFTA).
- الاستمرار في إلغاء نظام الرعاية الصحية الذي أقر في عهد الرئيس أوباما.
(3) ترامب والصين: لن تتخلى الصين عن طموحاتها رغم مواقفها الحيادية راهناً.
يندد الرئيس الاميركي دونالد ترامب بشدة بالهوة التجارية الضخمة في الميزان التجاري التي بلغت رقما قياسياً أكثر من 500 بليون دولار في العام 2022، ويطالب بكين بخفض العجز التجاري لواشنطن بـ200 بليون دولار تحت طائلة فرض عقوبات على ما قيمته 50 بليون دولار من الواردات الصينية.
الصين عرضت شراء ما قيمته 70 بليون دولار من المنتجات الأميركية الإضافية شريطة تخلي الادارة الاميركية عن تهديدها بفرض تعريفات جمركية.
الصين تقترب وبشكل سريع من الوصول الى قمة قائمة أكبر الدول الصناعية في العالم ، فالاقتصاد الصيني اصبح الاقتصاد الثالث في العالم بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهو أمر تدركه الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي اعتقد أن الصين قادرة على تحدي سياسات الولايات المتحدة، وقد يصل ناتجها الإجمالي إلى أكثر من 20 تريليون دولار نهاية العام 2024.
(4) إضعاف الاتحاد الأوروبي سياسياً، ودعم بريطانيا كحليف استراتيجي في مجال الأمن والاقتصاد، وصدى للسياسة الأمريكية.
لا تتوقع أوروبا تليين مواقف الرئيس ترامب وتغيير سياساته عماكآنت عليه في ولايته الأولى، وآخرها الحمائية التجارية وفرض رسوم على سلع ومنتجات، والتهديد بفرض رسوم على السيارات الأوروبية في الولايات المتحدة.
لكن أوروبا في المقابل لا ترغب أن تجد نفسها في موقع واحد مع الصين وروسيا بمواجهة حليفها التاريخي والطبيعي التي تحتاج إلى مظلته الأمنية، خاصة وأن الاتحاد الأوروبي ضعيف ومفكك سياسيا رغم قوته الاقتصادية، وسيظل غير قادر على التمرد في وجه السياسة الأمريكية.
بالطبع تتجه الأنظار إلى أوروبا في قيادة تيار العولمة والعالم الرأسمالي نحو تشكيل دول “أوروبا العظمى” ولكني لا أعتقد بإمكانية تحقق وحدة “أوروبا العظمى” سياسيا خلال العقدين القادمين.
الإتحاد الأوروبي –من وجهة نظري- عاجز عن تحويل القوة الاقتصادية إلى قوة سياسية وعسكرية مُسْتَقِلّة عن وصاية الإمبريالية الأمريكية.
(5) حلف الناتو :
خطاب دونالد ترامب تجاه الناتو، ينطلق من الحفاظ على الحلف وتقاسم الاعباء مع الدول المشاركة، واستمرار الدور المركزي الأمريكي في قيادة الحلف، بعد أن نجح في ولايته الأولى في فرض نسبة 2% من موازنات دول الحلف بما يخفف كثيراً من أعباء الولايات المتحدة ومساهماتها في موازنة الناتو، وقد يسعى إلى زيادة تلك النسبة في ولايته الثانية.
(6) ترامب وروسيا:
في البداية أود الإشارة إلى أن روسيا لا يمكن أن تتجاوز تاريخها وتمايزها، سواء كانت روسيا القيصرية أو روسيا لينين أو روسيا بوتين.
وفي هذه المرحلة أعتقد أنه ليس من السهل أن تدير روسيا بوتين ظهرها للسياسة الأمريكية بل ستحرص على التنسيق معها، في ظل توجهها الرأسمالي ودورها كإمبريالية صغرى، رغم ضعف ناتجها الإجمالي الذي لا يتجاوز 4 تريليون دولار، لكنها على الرغم من ذلك لا تتوافق أو تتطابق مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية عموماً، عبر العلاقة مع الصين ودول البريكس إلى جانب التزامها بقرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية وفق حل الدولتين ووفق المبادرة العربية.
كما لا يمكن لروسيا أن تدير الظهر لقواعد الناتو من حولها، وأخيراً لن تدير ظهرها لإيران لكنها مع انسحاب إيران من سوريا التي ستحافظ على وجودها فيها بالتنسيق مع إسرائيل والمصالح الاقتصادية والأمنية معها.
من ناحية ثانية يري ترامب ضرورة فتح آفاق التعاون مع روسيا، التي لا ينسى دورها في محاربة داعش في سوريا، بل قد يدعو إلى التنسيق السياسي والعسكري معها بهدف ضمان المصلحة الأمريكية إلى جانب المشاركة في القضاء على الإرهاب، أما عن أزمة أوكرانيا فهي سيعمل على وقف الحرب الاوكرانية رغم أنه يعتبر روسيا خصماً حقيقياً إلى جانب الصين آلتي سيقف ضدها بقوة أكبر من عدائه لروسيا.
(7) الاتفاق النووي مع ايران (5 + 1) ومستقبله بعد الاتفاق مع كوريا الشمالية، هل ستقدم ايران تنازلات جديدة؟ جوابي نعم خاصة بعد العدوان ضد لبنان واستشهاد القائد حسن نصرالله وغيره من القادة الإيرانيين، وسيقوم ترامب بالتنسيق مع دول الاتحاد الأوروبي وروسيا في إطار المصالح السياسية والاقتصادية المشتركة بينهم. وقد تنسحب تدريجياً من سوريا وتركز على العراق والخليج.
(8) تركيا وإسرائيل: علاقة وحدة وتنافس: وحده في العلاقة مع الأطلسي والعلاقات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، وعلاقة تنافس بينهما على تقديم الخدمات لأمريكا والاتحاد الأوروبي.
إن الخطر التّركي الإخواني على سوريا وعلى العراق لا يقل عن خطر الكيان الصهيوني وحلف شمال الأطلسي، ما يؤكد طبيعة العلاقة بين الإخوان المسلمين والولايات المتحدة ورئيسها.
(9) إسرائيل والقضية الفلسطينية وحل الدولتين ورفض صفقة القرن.. وإمكانية تعديلها والاعتراف بالدولة الفلسطينية مع الترابط مع الأردن .
ما يُحاك الآن يبدو تماماً –في ظل استمرار عجزنا وفشلنا فلسطينيين وعرب- كأنه تكرار للفصل الأول من النكبة عام 1948 مع هدف امريكي / صهيوني / عربي يعمل على الوصول إلى الفصل الأخير وهو التصفية من خلال “الصفقة” او اية مشاريع تصفوية لمصادرة المزيد من أراضي الضفة الغربية وربما مصادرة جزء من شمال قطاع غزة ضمن التحالف الإمبريالي الصهيوني ، وعرقلة إعمار قطاع غزة الذي يحتاج إلى ما لا يقل عن سبعين مليار دولار اذا ما ظل الانقسام الفلسطيني قائماً وإذا ما بقي الوضع العربي الراهن على حاله من التبعية والخضوع والتخلف.، وهو وضع عربي رسمي لم يعد في معظمه معنيا بالقضية الفلسطينية ، وبالتالي يمكن العودة إلى تطبيق صفقة ترامب كما طرحها في ولايته الأولى، رغم قناعتي ان “الصفقة” لا شيء فيها ما عدا “وعد” الفلسطينيين بإنشاء دولة محدودة السيادة على غزة ونصف الضفة الغربية، وتمكين الفلسطينيين من “عاصمة” في أبو ديس، والاعتراف بإسرائيل وطناً للشعب اليهودي، او تهجير الفلسطينيين او معظمهم من الضفة إلى الاردن وإثارة الصراعات بين الأردني من أصل فلسطيني والشرق اردني ضمن مخطط خطير يقوم على اوهام التصفية النهائية للقضية عبر حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن ما يعني انهاء الدولة الاردنية خاصة في حال استمرار أوضاع التبعية والخضوع والارتهان للتحالف الامبريالي الصهيوني .. فهل نتعلم الدروس والعبر؟ هل ستستعيد حركات التحرر التقدمية الديمقراطية العربية _ خاصة في الأردن _دورها في مناهضة ومجابهة المخططات الإمبريالية والصهيونية واسقاطها.
(10) الخلاصة: بالنسبة لنا كعرب وفلسطينيين .. قد تستمر هيمنة المقرر الخارجي (أمريكا وتوابعها في معظم أنظمة العرب) على أوضاعنا لعقود في مرحلة ما بعد الصفقة ان لم يتم تحقيق تطور نوعي لحركات التحرر الوطني واليسار خصوصاً في بلادنا عموما وحركات التحرر الوطني الفلسطينية خصوصا، لكي تقوم بإعادة النظر في مشروع حل الدولتين دون تجاوزه أو الغاؤه بل التمسك به كحل مؤقت يضمن استمرار الاعتراف العالمي بحق شعبنا الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على الأراضي المحتلة 1967، لكن مطامع العدو الصهيوني في المزيد من مصادرة ارضنا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإقامة المدن الاستيطانية يجعل من بلورة دولتنا الفلسطينية على كامل الأرض المحتلة 67 مسألة شبه مستحيله خاصة في الظروف الراهنة حيث تستشري النزعات الصهيونية الدينية والعلمانية العدوانية الاستعمارية الاستيطانية الرافضة لحقوق شعبنا حسب قرارات الشرعية الدولية، والتي ستعتمد على استمرار الدعم الأمريكي لها خاصة مع عودة ترامب ، لذلك لا بد لنا من مواصلة النضال بكل اشكاله وفق رؤية سياسية إستراتيجية بعيدة المدى تستند إلى تعميق فكرة الدولة الواحدة لكل مواطنيها وتحديدا دولة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها.
فالعالم يعيش تحولات عميقة تقتضي تكاتف الجهود من أجل بناء عالم جديد يستجيب لتطلعات الإنسانية إلى تعايش سلمي حقيقي ولا يسمح بتمدد الفكر العنصري الرأسمالي الذي يلاقي رواجا منذ تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب سواء في ولايته الأولى او ولايته الثانية آلتي ستبدأ في يناير 2025.
في الوقت الحاضر لدينا بالتأكيد أسباب وظروف موضوعية ناضجة للتغيير الديمقراطي، لكن العامل الذاتي (حركات وأحزاب وفصائل التحرر العربية) عاجز حتى اللحظة عن استغلال تلك الظروف على طريق النهوض المأمول، الأمر الذي يستدعي مراجعة مسيرة الحركة الوطنية التحررية الديمقراطية التقدمية العربية واستنهاضها لتحقيق أهداف شعوبنا في الخلاص من كل أشكال التبعية والتخلف والاستبداد على طريق تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وفي ضوء ما تقدم، نعتقد –بكل موضوعية- أن لحظة ترامب عابرة، في التاريخ، اعتماداً على تطور وتوسع وتبلور الحركات والقوى اليسارية العربية والدولية في مجابهة العولمة الأمريكية والنظام الرأسمالي، ما يعني توفير الإمكانيات التي تعزز امتلاك القوى المناهضة للعولمة الرأسمالية في العالم القدرة على التصدي لبشاعة هذه العولمة وافتتاح طريق النهوض الديمقراطي التقدمي في العديد من الدول والشعوب ، خاصة وأن الولايات المتحدة –في ظل ترامب في ولايته الثانية- لا يمكن الاعتماد عليها للاضطلاع بدور الدولة الراعية الرئيسية والمهندس لنظام عالمي يقوم على القواعد في إدارة الاعتماد المتبادل بين دول العالم بنزاهة.
وكم كانت روزا لوكسمبورغ على حق عندما أشارت في عام 1915 إلى أن الخيار التاريخي النهائي هو حقاً: إما الاشتراكية أو الهمجية.