الغائب الحاضر؛ ياسر عرفات ومسيرة الحرية التي لا تنطفئ بقلم :محمود جودت محمود قبها
في قلب الأمة الفلسطينية، حيث يتجذر النضال والصمود في أعمق أعماق الهوية، تأتي ذكرى استشهاد القائد الرمز الرئيس ياسر عرفات لتكون محطة خالدة في مسيرة المجد التي لا تمحى من الذاكرة، وإشعاعًا مُستمرًا للإلهام، كروح تقاوم النسيان وتبقى في ضمير كل فلسطيني وعربي يرى في هذه الشخصية عنوانًا للعزة والكرامة. في هذا اليوم الحزين من تاريخنا، تتجسد ملاحم الشعب الفلسطيني وقصص نضاله في حياة رجل عاش بين آلام الوطن وآماله، ساعيًا لكرامته وحريته، وقائدًا لِمسيرته نحو حقه المشروع، لم يكن الشهيد الرمز عرفات مُجرد رئيس أو زعيم؛ بل هو عالمٌ من الحلم المُمتد عبر الزمان، قاد فيه جموع شعبه نحو وطن مستحق، وثبّت رموز الهوية الفلسطينية بقوة لم تنكسر أمام العواصف المُتتالية.
في بداية طريقه، كان الطفل الذي نشأ بين جدران المخيمات يدرك تمامًا أن في الحياة رسالة أكبر، فقد وُلِد في أحضان النكبة وشهد بعينيه المُعاناة التي عصفت بشعبه وشردته، لم تكن هذه التجربة إلا نقطة انطلاق نحو الالتزام العميق بأرض لا تُباع، وكرامة لا تُسلب. من القاهرة، حيث درس وعمل، تجلّت ملامح القائد الذي تبلورت في ذاته روح المقاومة، فاستمع إلى خطابات التحرر، وتعلم من تجارب النضال عبر عواصم العرب دروسًا حملها في قلبه، وأسس مع رفاقه حركة “فتح” التي لم تكن حركة سياسية فحسب؛ إنما بداية طريق لاستعادة الوطن والأمل. انطلقت شرارة الثورة الفلسطينية في الستينات لتصل إلى مسامع العالم، ويصبح اسم “ياسر عرفات” عنوانًا لنضال طويل ومرير من أجل الحرية.
وعلى مرّ العقود، أبحر عرفات في أمواج السياسة العاتية، مُجابهًا تحديات لا حصر لها، ومُتخذًا قرارات مفصلية جمعت بين شجاعة القائد وبصيرة السياسي، ورغم محاولات قوى كثيرة إخماد صوته وتهميش حركته، إلا أن أبو عمار تمكن من الصمود والاستمرار كرمز يعبر عن القضية الفلسطينية ويجسد تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة، في كل لحظة؛ كان عرفات قادرًا على تحويل الانكسار إلى قوة جديدة، ففي معركة الكرامة عام 1968م، التي شكلت أحد أبرز محطات نضاله، قاد معركة حققت للفلسطينيين أول انتصار حقيقي على جيش الاحتلال الإسرائيلي، وعمّقت الإحساس الفلسطيني بالكبرياء والقدرة على الصمود، كانت هذه المعركة بداية لفصل جديد من نضاله، حيث استلهم الفلسطينيون من صمود قائدهم وساروا وراءه، مصممين على استعادة حقوقهم ومواجهة كل ما يقف في طريقهم.
وفي عام 1982م، خلال حصار بيروت الذي دام أسابيع طويلة، كان ياسر عرفات وسط المقاتلين، يدير معركة الكرامة بأقصى ما يستطيع من شجاعة وصبر، الحصار الذي أراد به العدو القضاء على الثورة الفلسطينية، وجد نفسه أمام مقاومة منقطعة النظير؛ فالصمود لم يكن عسكريًّا فحسب؛ بل إرادة فولاذية جسدها عرفات بنفسه، حيث قاوم الدمار وظل بين رفاقه مُتشبثًا بالكرامة والحرية، رسخت هذه المعركة مكانته في قلوب الفلسطينيين كقائد لن يُنسى، وأثبتت للعالم أجمع أن الشعب الفلسطيني قادر على الصمود في وجه كل محاولات الإبادة والتهميش، وأنه صاحب قضية راسخة في ضميره وعقيدته.
لم يكن عرفات قائدًا عسكريًّا فحسب؛ بل قائدًا بروح الأمل، إذ كان يحمل في داخله حلمًا كبيرًا لشعبه، رؤية حيَّة تواقة للاستقلال والمُستقبل، وقد أدرك بحكمته أن القضية الفلسطينية تحتاج إلى بُعد أوسع من المقاومة المسلحة، فشدد على أهمية بناء المجتمع الفلسطيني من الداخل، ودعم التعليم، وشجع الشباب على الالتزام بوطنهم وأرضهم، لقد كان عرفات يُؤمن بأن تحرير الأرض يتطلب وعيًا وحبًا للوطن، وكان حريصًا على بناء جيل يحمل القضية في قلبه قبل يده، ليكون سلاحهم العلم والمعرفة إلى جانب النضال، ولهذا؛ فإن ياسر عرفات لم يكن مُجرد زعيم حربي؛ بل كان زعيمًا اجتماعيًّا، مُؤمنًا أن الصمود ليس فقط في ميدان المعركة؛ إنما في بناء مجتمع قوي ومتماسك.
كانت انتفاضة الحجارة في عام 1987م، أحد أعظم صور النضال الفلسطيني، وقد دعمها عرفات بكل طاقته ليحيلها رمزًا وطنيًّا للعالم بأسره، كان ينظر إليها كصفحة مشرقة في كتاب القضية الفلسطينية، حيث سطّر الفلسطينيون بدمائهم وأيديهم المرفوعة حجارةً في وجه الاحتلال، مُؤكدين أن النضال مُستمر حتى لو كانت أسلحته بسيطة، لقد مثلت الانتفاضة قوةً للشعب وعمقت الثقة بين القائد وأبناء وطنه، فالكل كان جزءًا من ملحمة الكفاح، رجالًا ونساءً، شيوخًا وأطفالًا، وشكّل ذلك في وجدان الشعب قاعدة نضاليّة صلبة لم تنقطع أصداؤها في ذاكرته.
وفي الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000م، عاد عرفات إلى صورة المُقاتل بكل أبعادها، كان القائد الذي يحفّزه حب الوطن، ويستلهم منه عزيمة لا تنكسر، ومع اندلاع هذه الانتفاضة التي كانت تعبيرًا قويًا عن الرفض الشعبي للاحتلال، عاد عرفات إلى روح النضال الصلبة، ازداد تصميمه على مُواصلة الطريق رغم كل الضغوط، ووقف صامدًا في مقرّه المُحاصر في المقاطعة برام الله، حيث أراد الاحتلال أن يُسكت صوته ويفرض عليه العزلة، لكن عرفات ظل رمزاً للنضال الذي لا يلين، واستمر في التمسك بمبادئه والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه.
لم يكن الشهيد عرفات قائدًا عاديًا؛ فقد كان يعيش تفاصيل الشعب ويحمل آلامهم وأحلامهم، ولم تكن المقاومة مُجرد كلمة في قاموسه؛ وإنما حياة مارسها كل يوم، حتى وهو في أشد حالات الحصار، فبغض النظر عن الأوقات العصيبة التي مرّ بها، كان يُواجه المصاعب بابتسامة لا تفارق وجهه، يرفع علم فلسطين فوق رأسه كرمز للثبات، ويشجع شعبه على المضي قدمًا، معلنًا لهم أن النضال قد يكون طويلًا، لكنه يستحق كل التضحية، ومع كل موقف، كان يؤكد أن فلسطين تعيش في قلبه كالوعد المقدس، وأنه لا مَجال للتراجع حتى تحقيق الأهداف.
وفي يوم 11 نوفمبر 2004م، رحل عرفات جسدًا، لكنه بقي خالدًا في قلوب الفلسطينيين، بكت فلسطين قائدها الذي كان يُمثل لها الأب والرمز والرفيق، ورغم الرحيل، بقي إرثه حيًّا، إذ إنه لم يكن قائدًا بالمعنى التقليدي بل كان رمزًا يتجدد في ضمير الأجيال، ففي كل ذكرى لاستشهاده، تستمر الرسائل التي كان يؤمن بها، وتبقى كلماته محفورة في ذاكرة من عايشوه ومن ورثوا حبه لفلسطين، الذين يعلمون أن القضية أكبر من الحدود والزمن، وأنها تستمد قوتها من نضال مستمر، ماضيه وحاضره ومستقبله.
رحيل عرفات لم يكن نهاية؛ بل بداية لصفحة جديدة في مسيرة النضال الفلسطيني، ذكرى استشهاده محطة لتجديد العهد، وتجديد الروح الوطنية التي لا تعرف الخضوع، يظلّ عرفات في مخيلة الأجيال رمزًا للكرامة والإصرار، يعبر عن كل فلسطيني يؤمن بحق وطنه في الحرية، وكل شاب يحلم بالعودة إلى أرضه وكل مُسنّ يرى في تحرير فلسطين أمل حياته، ومن هنا؛ تظل ذكرى ياسر عرفات مشعلًا يوقد الأمل في كل قلوب الفلسطينيين، وتبقى صوره وكلماته خالدة، ترسم للأجيال القادمة طريق النضال حتى تتحقق كل الحقوق المشروعة.