حل الدولتين وغطاء الدولة اليهودية الخالصة ، بقلم : نسيم قبها
باتت جميع الحلول المطروحة بشأنها قضية فلسطين تتمحور حول عنوانين رئيسيين، وهما (الدولة اليهودية الخالصة) و(حل الدولتين). وفي الحقيقة أن حل الدولتين إنما جاء لمعالجة المشكلة التي نجمت عن غرس الكيان الإحلالي الاستعماري في فلسطين وضمان تثبيته، وجاء أيضًا من أجل تفادي تداعيات حل (الدولة اليهودية الخالصة) على الداخل الإسرائيلي من جهة، وعلى استقرار المنطقة التي تمثل ركيزة أساسية في الأمن القومي الأميركي والغربي من ناحية جيواستراتيجية وحيوية وقيمية.
فأما تداعيات حل (الدولة اليهودية الخالصة) على الداخل الإسرائيلي فتكمن في الجانب الديموغرافي، إذ يواجه هذا الحل تحديين رئيسيين: الأول هو أن وجود المكون الفلسطيني في الدولة اليهودية “الديمقراطية” سيفضي إلى تراجع المكون اليهودي لصالح المكون الفلسطيني المتنامي والذي يعطي الفلسطينيين حق الحكم بمقتضى النظام الديمقراطي، وهو ما يتعارض مع الفكرة الصهيونية الداعية إلى (كيان يهودي خالص) ويتعارض مع الغرض الاستعماري الذي غُرس الكيان الصهيوني من أجله، حيث وُجدت “إسرائيل” كخط دفاع أول عن المصالح الغربية وبخاصة (قناة السويس) في وجه العالم العربي والإسلامي. وأما التحدي الثاني، فإن عدم مراعاة التحدي الديموغرافي (بحسب وصفهم) فسوف يقود إلى تصنيف “إسرائيل” باعتبارها دولة “فصل عنصري”، فتفقد التجانس القيمي مع الغرب بوصفها “الديمقراطية الوحيدة في المنطقة”، والذي تستمد منه دعم “العالم الحر”، ليس على المستوى الرسمي فقط بل وعلى مستوى الرأي العام العالمي. وهذا ليس تحليلًا مجردًا، بل جاء بصريح الكلام في خطابات هيلاري كلنتون أمام منظمة الإيباك الصهيونية الداعمة لـ”إسرائيل” منذ سنة 2010.
وخطاباتها لم تكن موجهة للعالم العربي والإسلامي حتى يجري تفسيرها على صعيد الخداع والاستهلاك، وإنما كان سعيًّا حقيقيًّا من طرف الإدارة الأميركية وصناع القرار لإقناع الصهاينة من أجل الضغط على “إسرائيل” لقبول “حل الدولتين” باعتبار أنه يحقق مصلحة إبقاء الكيان الصهيوني على المدى البعيد. وقد صرحت بوضوح إننا أمام أحد خيارين: “السعي نحو طاولة السلام أو خسارة فكرة حل الدولتين للأبد. وما زلت اعتقد أن السلام مع الأمن لا يزال ممكنًا وهذا هو الحل الوحيد لتأمين دوام بقاء إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية”. وهو نفس الأمر الذي شدد عليه جون كيري وزير خارجية أوباما وأدخل الإدارة الأميركية في سجال مع الحكومة الإسرائيلية، واضطر أميركا أن تقف في مجلس الأمن في وجه بناء المستوطنات في الضفة الغربية.
فمن حيث العنوان “حل الدولتين” فما تزال أميركا (الدولة العميقة على اختلاف تياراتها) ترى فيه الخيار الأفضل.
وأما المضمون فلا شك أن حل الدولتين يمثل غطاءً للدولة اليهودية الخالصة حتى ولو جرى هندستها وفق الكونفدرالية؛ لأن حل الدولتين يجعل من المكون الفلسطيني جالية تحت سلطان الدولة اليهودية، ويجعل “الدولة الفلسطينية” كيانًا وهميًّا لا يتعدى الاسم والكرسي والعلم ورفع رتبة البعثات الدبلوماسية إلى سفارات.
وأما “الخيار الأردني” أو “الوطن البديل” فهو ليس بديلًا عن حل الدولتين، وإنما هو معالجة لملف اللاجئين وتصفية حق العودة، وما تزال أعمال التهيئة له وللصيغة الكونفدرالية قيد التنفيذ ومنها إعادة هيكلة الانظمة والقوانين في الأردن وفق مخرجات لجنة إصلاح المنظومة السياسية التي من أبرزها استحداث ما يسمى بـ”الهوية الجامعة” وتعديل التركيبة البرلمانية.
وبالتالي فإن أميركا ما تزال متمسكة بـ”عنوان” حل الدولتين، لكنها تجد رفضًا صارمًا من أغلب القوى السياسية في الكيان الغاصب حتى لمجرد العنوان، ولا تتخذ أي إجراء لفرض رؤيتها لاعتبارات داخلية واستراتيجية. فبايدن ومنذ أن كان سيناتورًا وهو يرفض (الدولة اليهودية الخالصة) بالصيغة التي يطرحها الكيان، وبخاصة نتنياهو وتيار المتشددين، فقد صرح قبل نحو 3 شهور بأن حل الدولتين له أنماط مختلفة فهناك دول في الأمم المتحدة من دون جيوش ومنزوعة السلاح وهي فكرة مثيرة للاهتمام، وفي أيار/مايو صرَّح أنه “لا تغيير في التزامي بأمن إسرائيل. نقطة على السطر. لا تغيير على الإطلاق”، مشدّدًا بالمقابل على أنّ “التغيير هو أنّنا ما زلنا بحاجة إلى حلّ الدولتين.
هذا هو الحلّ الوحيد، الحلّ الوحيد”. كما أوقف عجلة التطبيع الصهيوني مع السعودية التي أكدت مؤخرًا على تقييد التطبيع مع “إسرائيل” بمسار يفضي إلى قيام دولة فلسطينية تحت عنوان (حل الدولتين) لثني نتنياهو وفريقه المتعصب عن توجهاته التوسعية.
بينما رد نتنياهو على بايدن بشكل واضح بقوله: يجب أن تكون “الدولة اليهودية الخالصة”، “على الأراضي الفلسطينية من نهر الأردن إلى البحر المتوسط”، وأن “على الأقلية الفلسطينية المتبقية في هذه الأرض أن تقبل العيش تحت السيادة الإسرائيلية أو الرحيل إلى مكان آخر”.
وكان قد صرَّح قبل ذلك “لن أتنازل عن السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على كل الأراضي الواقعة غرب الأردن. وبوصفي رئيسًا لوزراء إسرائيل، فقد وقفت بثبات إلى جانب هذا الموقف في مواجهة الضغوط الدولية والداخلية الكبيرة. إصراري هو الذي حال دون قيام دولة فلسطينية لسنوات طويلة، والتي كانت ستشكل خطرًا وجوديًّا على إسرائيل. وطالما أنني رئيسٌ للوزراء، سأواصل التمسك به بحزم”. ولم يكتف بذلك بل اتخذت حكومته جملة من الإجراءات التي تترجم هذه الرؤية.
ولذلك فإن الكونفدرالية مع الأردن وإن كانت تشكل حلًا يستوعب المشكلة “الديموغرافية” وإصرار نتنياهو على السيادة الإسرائيلية على الأرض لكنها تصطدم أيضًا بمعضلة لزوم الاعتراف بدولة “فلسطينية اسمًا” لتسويغ الكونفدرالية سياسيًّا وقانونيًّا، وفق المكر السياسي ، ومن أجل انتزاع تنازل الفلسطينيين عن حقوق كثيرة ، ومن أجل تهدئة مخاوف من يوصفون بالتيار الوطني الأردني القلق من مخطط الوطن البديل، والذي يشكل تحديًا عميقا في الأردن . وهذا علاوة على معضلة المقدسات والسيادة عليها، إذ إن مشروع تدويل المقدسات وإن كان يمكن تمريره بشكل ما فلسطينيا ، لكنه يلقى اعتراضًا شديدًا من قبل الجانب الإسرائيلي.
ولهذا نجد أن ما يجري من فرض وقائع على الأرض نحو تكثيف المستوطنات والتضييق على الفلسطينيين وتقزيم السلطة الفلسطينية فوق انهاكها سياسيا واقتصاديا، واستهداف الأونروا واقتحام المسجد الأقصى ومحاولة تغيير وضعه القائم وابتلاع مزيد من الأراضي في الضفة وغزة، إنما يسير وفق الرؤية الصهيونية الداعية إلى (الدولة اليهودية الواحدة) بمقتضى المزاعم التوراتية والمبررات الأمنية.
ولا بد من التنويه إلى أن فكرة حل الدولتين لم تسقط من قبل مؤسسات صناعة القرار في أميركا كخيار مفضل حتى لدى الرئيس ترمب والتيار الداعم له، فقد صرح الأخير سنة 2018 بأنه يرى أن “حل الدولتين هو الأفضل”، وطرح فريقه مسألة الكونفدرالية مع الأردن، وبحثوا مسائل تفصيلية كتبادل الأراضي في الضفة الغربية وصحراء النقب. لكنه فسر تجول فكرة حل الدولتين في أروقة السياسيين في واشنطن وتل أبيب في مقابلة له مع صحيفة “التايم” في نيسان/إبريل من هذا العام بأنه خاضع للظروف وضغط الواقع ورجال الحكم (صناع القرار) في كلا البلدين، وأنه متروك لما يتفق عليه الطرفان (الإسرائيلي والفلسطيني). وأضاف بأنه الآن “صعب للغاية”.
وهذا ما يفسر سير الرئيس كلنتون وأوباما وإيهود باراك ورابين وإيهود أولمرت في حل الدولتين، ويفسر كذلك صفقة القرن التي سار بها ترمب وهمشت المسار الفلسطيني لصالح الحل الإقليمي، وقد أوضح أسبابها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في كتابه “Never Give an Inch” ” لا تعط بوصة”، حيث قال بأنها لم تكن لتحصل لولا وجود الخطر الإيراني الذي قسم المنطقة إلى معسكرين: معسكر سلام وهي الدول العربية ومعسكر الشر وهما إيران والقاعدة.
وترتب على ذلك تجاوز الرؤية التقليدية لمشكلة الشرق الأوسط باعتبار أنها قضية صراع عربي إسرائيلي لتصبح صراعًا بين معسكرين، وهو ما مكّن من دفع قطار التطبيع قبل حل قضية فلسطين. باعتبار أننا لو سرنا على قاعدة “إذا أردت أن تنتظر الخيار الأفضل فإنه لن يأتي.”
بحسب قوله. وهذا في الحقيقة ترجمة عملية لما نفذه ترمب ولما صرح به في مقابلته مع صحيفة التايم مؤخرًا، وفي إجابته على سؤال حول حل الدولتين أثناء مناظرته مع كمالا هاريس ما إذا كان سيدرج هذا الخيار في خطته قال: “سأرى”.
وهو ما يعني أن هذا الخيار قائمٌ، وبخاصة وأن جميع أطراف القضية يعلمون أنه فارغ من مضمونه.