8:41 مساءً / 24 نوفمبر، 2024
آخر الاخبار

شمال غزة ومتناقضة الحياة والموت ، بقلم : بديعة النعيمي

شمال غزة ومتناقضة الحياة والموت ، بقلم : بديعة النعيمي

شمال غزة ومتناقضة الحياة والموت ، بقلم : بديعة النعيمي

لم يعد الطبيب في قطاع غزة ذلك الذي ينظر للمريض على أنه تلك الأنساج المركبة التي تأتيه في حالات السلم ليدرس حالتها بكثير من الأناة والتمحص. فالحالة اليوم حالة حرب لم يشهد التاريخ مثلها.


فالمريض ليس مريضا بالمعنى المتعارف عليه، فهو إنا مصاب يؤمل شفاؤه أو مصاب يلتقط أنفاسه الأخيرة ولا أمل له في الحياة.

وهنا فالطبيب في غزة يقع مئات المرات خلال ٢٤ ساعة تحت الإغراء، إغراء الاختيار اللذيذ لواحدة أو اثنتين على الأكثر من تلك الحالات الكثيرة التي تصل المستشفى التي يقيم فيها. والتي كادت أن تخرج عن الخدمة لانهيار المنظومة الصحية فيها.

وهذا الاختيار يحتم على الطبيب تقليب المصابين وفحصهم دفعة واحدة وعلى عجل، لأنه يعلم بأن هناك الكثير منهم في الطريق. حتى تقع عينه على الجسد الذي يمتلك احتمالية امتلاك إغراء الحياة أكثر من بقية الأجساد. فيختارها متأملا في إنقاذها وأن يكون السبب في إطالة عمرها في حياة خادعة. فمن يتم إنقاذه اليوم، قد يكون ممن تستبعد أجسادهم بعد ساعات بسبب قذيفة في واحدة من المجازر، وما أكثرها. فهي في شمال القطاع لا تتوقف.


فما أصعبه من إغراء وما أقساه من اختيار ! فهو يفرح لمن تم إنقاذه ويبكي على من ارتقى منهم لشعوره بالتقصير تجاههم.

وفي الوقت الذي مُسخت الإنسانية وسُلخت من معانيها لعدو دموي لا يعرف الرحمة، نجدها تتجلى بأسمى معانيها لدى الكوادر الطبية.


وهنا لفتتني كلمات تساوي حياة بأكملها، على صفحة الدكتور منير عبد الله البرش للمسعف رحيم خضر يقول فيها:

‏“هكذا صباحي في كل يوم… أقف حائرًا بين دماء الشهداء والمصابين، بين صرخات الألم ونبضات الأمل. أتنقل بين الأشلاء لأحمل جريحًا هنا وأودّع شهيدًا هناك، في أرضٍ لم تعرف سوى الحرب. أتأمل الأجساد الممزقة والوجوه التي غادرتها الحياة. أتنقل بين صرخات الألم وأنين المصابين، أبحث عن بصيص أمل بين ركام الحرب وأنقاض المنازل. هنا, لا فرق بين الليل والنهار؛ كل لحظة هي صراع مع الموت ومحاولة لإنقاذ حياة جديدة. رغم القهر والتعب، نستمر لأن واجبنا أكبر من أي خوف، ولأن حياة كل إنسان هنا تستحق أن نناضل لأجلها. هذا هو واقعي في غزة… حياة بين الحياة والموت، بين الدمار والصمود.” انتهى

جاءت كلمات هذا المسعف البطل كأنها أنهار جارية من المتناقضات المتجددة لتعبر عن أسمى معاني الإنسانية فتنقل بكلماته من الشهداء إلى المصابين وبين الكلمتين مسافة حياة وموت.


ومن الألم إلى الأمل وبينهما تتعارك المشاعر في معركة متواصلة مرهقة ومتعبة بقدر صعوبة الصورة في المرآة المتشظية.


وما بين الليل والنهار وما يحمل كلاهما في غزة من سكينة مفقودة وتعب متواصل ممزوج بالموت والفقد والجوع.

لكن لا بد من صمود وسط هذا الكم من الدمار ولذلك نثر شيئا منه وسط اليأس وركام المشاعر…


كلمات قليلة في عددها ثقيلة في معانيها وتنهار من همها الجبال، في حرب.. وأية حرب؟ إنها حرب الإبادة في القطاع بمجملة والأقسى على الشمال من مخيم جباليا وبيت لاهيا وغيرهما، فهناك الوداعات الأخيرة، الصباحية منها والمسائية، فالإبادة لا تتوقف والأشلاء المتعانقة للأحبة تنتشر في كل مكان تلتصق بقوة الاشتياق وتكمل بعضها البعض في لوحات لن تبرح ذاكرة من حضر معرض تلك الحرب البشعة.


وكل هذا في ظل حصار ظالم منذ أكثر من أسبوعين وتجويع ونقص في كل ما يربط أهل الشمال بخيوط الحياة، والتي أقل ما يمكن أن توصف به ،أنها واهنة وعاجزة كعجزنا وصمتنا وعارنا وذلنا، خيوط متواطئة وخائنة كتواطئ وخيانة حكام العهر، حكامنا من الصهاينة المشكوك في جيناتهم التي تعطيهم اسم “العرب” والعروبة بريئة منهم.

فمتى ننتفض لشلالات دماء تزورنا بشكل دائم في المنام واليقظة، تمزق مشاعرنا وتغرقها في أعماق الخطيئة والذنب ونحن أمة المليار التي صدق فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاء السيل”.

شاهد أيضاً

فارسين أغابيكيان شاهين تلتقي أبناء الجالية الفلسطينية في البرتغال

فارسين أغابيكيان شاهين تلتقي أبناء الجالية الفلسطينية في البرتغال

شفا – التقت معالي وزيرة الدولة لشؤون وزارة الخارجية والمغتربين د. فارسين أغابيكيان شاهين،اليوم الأحد، …