3:49 صباحًا / 22 نوفمبر، 2024
آخر الاخبار

تشيخوف اليابان والبحث عن الحقيقة ، بقلم : د. نعيمة عبد الجواد

نعيمة عبد الجواد

تشيخوف اليابان والبحث عن الحقيقة ، بقلم : د. نعيمة عبد الجواد


غالبًا ما يشار لليابان بمقولة “كوكب اليابان الشقيق”، وغالبًا أيضًا لا يعرف عنها الكثيرين سوى القفزات الغير مسبوقة في التقدُّم العلمي والتكنولوجي، لكن الخوض في دهاليز الأدب الياباني يوضِّح السبب الرئيسي وراء هذا التقدُّم؛ لأنه الطريقة المُثلى لسبر أغوار العقل الياباني شديد التنظيم الذي يسعى لوضع كل مفهوم في مكانه الصحيح.


ومن أهم القيم الشائعة التي يتناولها الأدباء على مرّ العصور البحث فيما وراء “القيم” المجرَّدة مثل الخير والشر والجمال والقبح والحق والعدل؛ والهدف الأسمى لذاك التناول هو الوصول للحقيقة.


والبحث عن الحقيقة ومفهومها لم يقتصر فقط على أدباء اليابان، بل كان أيضًا مثار اهتمام فلاسفة وأدباء الغرب لقرون امتدت إلى ما قبل الميلاد. ومن أهم الفلاسفة الذي رسمت أفكارهم مسارات المفاهيم في العصر الحديث الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” Friedrich Nietzsche (1844-1900) الذي كان بحثه عن الحقيقة يستند على أراء السابقين له مع وضع بصمته الشخصية التي جعلت الفلاسفة والمفكرين المحدثين يسيرون على نفس الدرب. ويعتقد “نيتشه” أن عند البحث عن الحقيقة فإننا “نعمل فقط مع الأشياء غير الموجودة، مع الخطوط، والمستويات، والأجسام، والذرَّات، ووحدات الزمن، ووحدات الفضاء – كيف يكون التفسير ممكنًا حتى إذا بدأنا بتحويل كل شيء إلى صورة، صورتنا! صورتنا المجرَّدة”. ويعني “نيتشه” بهذا أن الباحث عن الحقيقة يحاول أن يبحث عن الأشياء التي تتناسب ومفاهيمه، وبذلك تصير الحقيقة التي توصَّل إليها مجرَّد صورة مكررة من ذاته. ولقد أوضح “نيتشه” معنى ذلك عندما أكَّد أنه عند البحث عن الحقيقة، فإننا نغري باقي الحواس التي نمتلكها على أن تتدخل وتضفي عليها من ذاتنا.

ولهذا يؤكِّد أن ” الأفضل للإنسان هو الإيمان بالحقيقة التي يمكن تحقيقها، وفي الوهم الذي يزداد اقترابًا بدافع من الثقة. ألا يعيش في الواقع بالخداع المستمر؟ ألا تخفي الطبيعة عنه كل شيء تقريباً، حتى ولو كان أقرب شيئ إليه؛ ومثال لذلك، جسده، الذي لا يملك منه سوى “وعي” زائف؟ لكنه حبيس ذاك الوعي، في حين أن الطبيعة أطاحت بالمفتاح بعيداً”. مما يعني أن وعي الفرد يشكِّل الحقيقة، في حين أن نفس الفرد لا يمتلك أصلا وعيًا سليمًا حتى ولو كان هذا الوعي بجسده الذي يعدّ أكثر الأشياء حميمية وقربًا بالنسبة له. ولهذا، من يحاول وضع مفهوم للحقيقة يجب أن يعي أنه أساسًا لا يعيش إلَّا بقوَّة الخداع المستمر، فأنَّى له أن يجد معنى ومفهوم محدد للحقيقة.


وينفي “نيتشه” إدِّعاء أن الإنسان يمتلك المعرفة، لأنه لم يحتك سوى بقشرتها الخارجية، أمَّا الجوهر، فهو شديد الجهل به. بل قد يعتقد البشر امتلاك المعرفة “عندما نتحدث عن الأشجار والألوان والثلج والزهور، بيد أنّ مفاهيمنا لا تتخطَّى كونها استعارات عن الأشياء” وجميع تلك الاستعارات لا تتوافق مع الجوهر الأصلي للأشياء بأي حال من الأحوال.”

ولهذا، يختتم “نيتشه” مفهومه عن الحقيقة بأنها “أوهام نسي المرء أنها أوهام، استعارات أصبحت بالية وفاقدة لقوتها الحسية، كعملات معدنية فقدت ما طُبِع عليها، ولم تعد تعتبر عملات معدنية بل قطع معدنية”. مما يعني أن الحقيقة أمر “نسبي”، لا يمكن الجزم به لأنه رهينة الأهواء الشخصية.


ويعد الكاتب الياباني “ريونوسوكي أكوتاجاوا” Ryunosuke Akutagawa (1892-1927) والذي يسمى ب”رائد القصة القصيرة” في اليابان ويلقبه الغرب ب”أنتون تشبخوف اليابان”، أحد المفتونين بتناول مفهوم الحقيقة، لكن ما يميِّزه عن أقرانه الإيمان بأن الحقيقة نسبية، أو “استعارات” كما يعتبرها “نيتشه”، ونسبية الحقيقة تجعل المرء يتخيَّل أشياء هي الأقرب إلى مفاهيمه الشخصية وإيمان حواسه بالأشياء، ثم يطلق عليها حقيقة؛ أي أن “أكوتاجاوا” يؤمن أن الحقيقة مجرَّد وهم، بل أن انتاجه الأدبي أضفى بعدًا آخر فجعلها تبدو وكأنها متاهة إذا اقترب منها الفرد لا يستطيع الفكاك أو حتى الوصول لنقطة يمكن أن يؤمن فيها أنها نهاية المآل.


ولربما كانت نشأة “أكوتاجاوا” والظروف السياسية والاجتماعية التي نضجت مفاهيمه الأدبية من جرَّاء الاحتكاك بها سببًا في موهبته الأدبية اللَّافته، التي وبالرغم من أنها أثَّرت بشكل فوري في المشهد الأدبي الياباني فور ظهورها، لكنها لم تدم طويلًا، إذ توفَّى “أكوتاجاوا” وهو في الخامس والثلاثين من عمره فقط.


كان “أكوتاجاوا” طفلًا يتيمًا؛ توفَّت والدته وهو في العاشرة ، تاركة إيَّاه لخالته. كانت خالته خير معلِّم ومربِّي، لكن الموت الدرامي لوالدته كان من أهم الأسباب التي أثَّرت على مسيرة حياته بأكملها وكذلك على انتاجه الأدبي؛ فلقد كانت والدته مصابة بالجنون وتوفَّت وهي فاقدة لعقلها تمامًا، فلازمه طوال الوقت الخوف من الإصابة بالجنون، مما كان سببًا مباشرًا لوقوعه في نوبات اكتئاب والميل للموت إلى أن انتهى به الأمر إلى الانتحار بجرعة زائدة من المخدِّر.


بيد أنّ “أكوتاجاوا” كان طفلًا محظوظًا؛ لأن نشأته في منزل خالته المُحبَّة للأدب عمِل على تفتُّق موهبته الأدبية في سن مبكِّرة، ويكفي القول أنه في سن 22 عامًا أصبح أديبًا شهيرًا. ومن الناحية السياسية، كانت اليابان قوَّة حينها إقليمية ضاربة، ويكفي ذكر أنها هزمت حينئذٍ الإمبراطورية الروسية التي كانت قوة عظمى. وأيضًا في تلك الحقبة، كانت الإمبراطورية اليابانية تسعى للانفتاح على الغرب لركب كل ما هو حديث ومتقدِّم، وكذلك الانفتاح على ثقافات مختلفة لتكوين هوية وطنية متميزة.

وعكس الانتاج الأدبي ل”أكوتاجاوا” تلك المفاهيم التي بلورها في قصص قصيرة تغوص في أغوار الحقب التاريخية المختلفة في اليابان، وكتبها بأسلوب يظهر فيه التأثيرات الخارجية على الأدب الياباني. فلقد كان يؤمن أن ممارسة الأدب يجب أن تكون عالمية ويمكن أن تجمع بين الثقافتين الغربية واليابانية، مع الإيمان بوجوب تشكيل هوية ثقافية، والتي أصبحت محورًا رئيسيًا في كل أعماله من خلال كتابة قصص جديدة يستلهمها من مصادر متعددة بلغة تنضح بأحاسيس دافقة. كتب الكاتب الياباني الشهير “هاروكي موراكامي” Haruki Murakami واصفًا أعماله: “لا يملّ المرء أبدًا من قراءة أفضل أعماله وإعادة قراءتها. . . وتعد اللغة الدافقة هي أفضل سمة يوصف بها أسلوب أكوتاجاوا؛ فهي بعيدة عن الركود، بل دائمة الحركة وكأنها كائن حي”.


ولكي يضمن “أكوتاجاوا” أن تكون أعماله دائمة الحركة، اختار حيلة “التجاور” عند تناول الأفكار الأساسية لأعماله؛ فلقد كان يضع الخير بجوار الشر، والجمال بجوار القبح، والعديد من القيم الثابتة، وعلى القارئ أن يحاول الوصول للحقيقة.

وعلى عكس “تشيخوف” و”كافكا”، فلم يكن يترك النهايات مفتوحة؛ لاختلاف طبيعة الشعب الياباني، لكنه كان يعلِّق على الوضع بمقدار يُبْقي العمل مشوِّقًا، وكذلك يحث القارئ على التفكُّر في الحقيقة التي تكمن وراء هذا التجاور المحيِّر.


ومن أعماله الرائعة التي تتناقلتها العديد من الثقافات بأفكار وألوان متعددة قصة “في بستان” والتي تتناول اكتشاف جثَّة قتيل في بستان، ويحاول كل شخص أن يفسِّر سبب الجريمة من وجهة نظره، لكن لا يثق أحدهم في رأي الآخر، حتى مع استدعاء وسيطة روحية والتي تسفر عن أن القتيل هو من أزهق حياته بيده، لكن لا يصدقها أيضًا أحد للاعتقاد أنها قد تخفي بعض الحقائق، كما أخفى الكل بعض الحقائق.

فالحقيقة كالمتاهة تظل لغزًا لأن كل شخص يفسِّرها حسب ما يتَّفق مع رؤيته للأحداث. وبالمثل، فإن قصَّة “جبل الخريف” تؤكِّد أن الحقيقة نسبية المفهوم من خلال قصة لوحة يتم وصفها بأنها من أجمل لوحات العالم، وهناك رجل شديد الثراء يلح على شرائها بمبالغ طالة بالرغم من تكرار رفض مالك اللوحة. وبعد عقود يحاول نفس الرجل الثري شراء نفس اللوحة من حفيد المالك ويرسل له من يشتريها، لكن الوسيط عندما يرى اللوحة يجدها أقل من العادية، بل أنها كئيبة. وهنا يقتنع الوسيط أن الجمال لا يقبع إلَّا في ذهن المُتلقِّي وتبعًا لحالته النفسية، مما يرسخ قيمة نسبية الحقيقة.


لقد كانت حقيقة إصابة “أكوتاجاوا” بالجنون مثل والدته هاجسه الذي أفضى به لتقلُّبات المزاج الحادة وأيضًا لإزهاق حياته بيديه، ولولا ما اعتبره حقيقة ثابتة لكان نعم بحياة هادئة تغلَّب فيها على ما قد يعتريه من تشوُّهات نفسية؛ مما يعني أن “أكوتاجاوا” نفسه عانى من معضلة نسبية الحقيقة.

شاهد أيضاً

نداء فلسطين يرحب بقرار الجنائية الدولية ويؤكد أن العبرة بالتنفيذ

نداء فلسطين يرحب بقرار الجنائية الدولية ويؤكد أن العبرة بالتنفيذ

شفا – رحب (نداء فلسطين) بإصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرتي اعتقال ضد رئيس وزراء الاحتلال …